عبد الكريم أبو النصر: لحرب ضد داعش: شروط الانتصار/وليد شقير: متلازمة الأسد – داعش/أسعد حيدر: القيصر قائد الحرب وصانع السلام/راغدة درغام: غرور داعش يعجل بنهايته

349

الديبلوماسية الحرب ضد “داعش”: شروط الانتصار
عبد الكريم أبو النصر/النهار/20 تشرين الثاني 2015
“الهجمة الارهابية الوحشية الضخمة التي نفذها تنظيم “داعش” ضد المدنيين في باريس تعكس في الجانب الاساسي منها حجم فشل الدول البارزة المؤثرة في الامساك بأزمة سوريا وتسويتها وفي منع تحول هذا البلد قاعدة رئيسية للنشاطات والاعمال الارهابية ومصدر خطر وتهديد جديين للمنطقة وللأمن والسلم الدوليين، وساحة لأكبر مأساة انسانية يشهدها العالم منذ عقود”. هكذا اختصر مسؤول غربي بارز في باريس الوضع بعد الصدمة الهائلة التي اصابت فرنسا وهزت العالم اثر سقوط مئات القتلى والجرحى في عملية “داعش”. وقال: “إن ما تعرض له هذا البلد ليس مرده الى فشل أمني وتقصير استخباري بل مرده الى مجموعة عوامل جوهرية اساسية استناداً الى اقتناعات المسؤولين الفرنسيين والغربيين والاقليميين المعنيين بالملف السوري، وهذه العوامل هي الآتية:
أولاً، فشل استراتيجية احتواء الازمة السورية التي تبنتها الدول البارزة والمؤثرة لأنها الاقل تكلفة بالنسبة اليها، إذ ان هذه الازمة تمددت واتسعت، في ظل غياب عمل جدي على حلها، وانتقلت الى دول عدة في المنطقة والى الساحة الدولية فباتت جزءاً أساسياً من مشاكل الكثير من الدول.
ثانياً، فشل استراتيجية الاكتفاء بالغارات الجوية والعمليات العسكرية من أجل محاولة القضاء على “داعش” وازالة الخطر الارهابي، لأن جذور المشاكل في سوريا والعراق التي تغذي الارهاب هي سياسية واجتماعية ومرتبطة بصراعات اقليمية – دولية وبالممارسات الخاطئة للحكام.
ثالثاً، فشل استراتيجية المماطلة وعدم التعامل جدياً وبسرعة مع الازمة السورية من أجل حلها واستخدام الساحة السورية لتصفية الحسابات الاقليمية – الدولية على حساب مصير البلد ومصالح ابنائه.
رابعاً، فشل الدول المؤثرة في التفاهم على خطة عمل مشتركة قابلة للتنفيذ توقف الحرب وتؤدي الى تسوية الازمة السورية: فروسيا وايران تعطيان الاولوية ليس لانقاذ سوريا وشعبها بل لمحاولة ابقاء الأسد في السلطة. في المقابل امتنعت اميركا حتى الآن عن الانخراط بقوة وجدياً وقيادة عملية دولية – اقليمية واسعة تستخدم فيها كل امكاناتها وطاقاتها من أجل انقاذ سوريا من الجحيم، إذ ان ادارة الرئيس باراك أوباما تبنت سياسة الحد الادنى من الانخراط في عملية الانقاذ وراهنت خصوصاً على الجهود الديبلوماسية والسياسية وعلى فشل السياسات الروسية والايرانية في حماية الأسد ونظامه من السقوط.
خامساً، يظل العامل الاساسي داخلياً ومرتبطاً بممارسات النظام وخياراته. فقد فجر الأسد ضد شعبه المحتج حرباً ألحقت الكوارث بسوريا في كل المجالات وأشاعت الفوضى العامة وأدت الى بروز “داعش” ونموه في البلد الذي تحول قاعدة اساسية للأعمال الارهابية في الداخل والخارج وسط عجز النظام عن القضاء عليه أو تواطؤه سراً مع هذا التنظيم الارهابي. ولخص وزير الخارجية الاميركية جون كيري هذا الوضع في خطابه الأخير وفي تصريحاته بعد اجتماعات “فيينا – 2” اذ قال: “الأسد جعل من المستحيل حصول تغيير سلمي في سوريا لأنه واجه المحتجين بالقوة والقمع منذ بدء الحركة الشعبية الاحتجاجية، ثم استخدم الرصاص والقنابل والصواريخ والبراميل المتفجرة ضد ابناء بلده. و هكذا جعل الأسد الحرب امراً حتمياً مما ادى الى بروز ونمو “داعش” الذي يشكل أخطر تهديد ارهابي يواجهه جيلنا. الأسد جذب الارهاب الى سوريا ونظامه عقد صفقة مع “داعش” وهو يشتري منه النفط. الأسد و”داعش” جزء من المشكلة وهما نظرياً عدوان ولكن في الواقع ليست لهما مصلحة في وقف القتال”. وخلص المسؤول الغربي الى القول: “ان قوات المعارضة السورية المعتدلة شريكة في القتال ضد “داعش” اذ انها تحارب هذا التنظيم منذ وجوده في سوريا عام 2013 الى الآن وقت يركز النظام وحلفاؤه على محاربة المعارضين وليس على القتال ضد التنظيم الارهابي. وفرنسا تشهد مع دول أخرى حرباً ارهابية عالمية قابلة للتطور والاتساع ما لم تواجه بجدية اكبر وتعاون اوسع بين الدول المؤثرة. والعمل الجدي يتطلب في وقت واحد تكثيف العمليات العسكرية على انواعها ضد “داعش” والارهابيين عموماً، وكذلك ممارسة ضغوط دولية – اقليمية مؤثرة من اجل نقل السلطة من نظام الأسد الى نظام جديد تعددي وتشكيل قيادة شرعية جديدة تسمح بتوحيد قوات النظام والمعارضة المعتدلة بهدف شن معارك برية شاملة مدعومة عسكرياً من الدول البارزة تنهي الوجود الارهابي في سوريا وتعيد الى هذا البلد الاستقرار والسلام”.

متلازمة الأسد – «داعش»
وليد شقير/الحياة/20 تشرين الثاني/15
توقع كثر أن يتغير العالم بفعل فظاعة الاعتداءات الإرهابية التي استهدفت باريس الجمعة الماضي، كما تغير بعد «غزوة» نيويورك وواشنطن في 11 أيلول (سبتمبر) 2001. وتعزز هذا الاستنتاج بعد تأكيد الأجهزة الأمنية في موسكو أن إسقاط الطائرة الروسية فوق سيناء جاء بسبب دس قنبلة في مقصورة الركاب. الجريمتان، معطوفتان على التفجيرات السابقة التي استهدفت برج البراجنة في لبنان وقبلها في تركيا وفي المملكة العربية السعودية وفي سيناء وبلاد الرافدين، وفي ليبيا، ومحاولات التفجير الإجرامي في تونس… إلخ، أنذرتا بعولمة عملية وحقيقية لإرهاب «داعش» بعد الوحشية التي ارتكبها ضد أقليات في العراق وسورية.قد يكون بعض النخب العربية على حق حين أبدى أسفه لأن العالم لم يتحرك إزاء مواصلة «داعش» قتل الناس كل يوم منذ سنوات (كما في العراق وسورية)، بأعداد من الضحايا تناهز أعداد الذين سقطوا في يوم واحد في فرنسا أو في الطائرة الروسية، إلا أن الدول الغربية والبعيدة تنظر إلى المذبحة الدائرة في منطقتنا على أنها مسؤولية الدول العربية وحكامها ونخبها وقادتها، حيث تختلط عوامل الاستبداد والتخلف والقمع ونهب الثروات الوطنية والتطرف الديني… مع التدخلات الخارجية، مقابل قيم الغرب السياسية: الديموقراطية والتسامح والتنمية المستدامة والتقدم العلمي، التي لا تحتمل هذا النوع من الإخلال بالاستقرار الناجم عن انتقال الوحشية التي تتوسلها قوى في مجتمعاتنا إلى الميدان الدولي. وفي مقابل اعتقاد البعض أن العالم لم يتغير، وأننا مازلنا نعيش تداعيات 11 أيلول الأميركي في دول الغرب، لكن مع جيل جديد من الإرهاب، وفي ظل احتضان الحروب الأهلية العربية له، لا سيما الحرب السورية، فإن الإجرام المشحون بالجنون المتفشي بفعل المجازر التي ارتكبها، ولا يزال، النظام في سورية (ومعه «داعش»)، انتقل إلى أوروبا اليوم فباتت تتعرض لـ11 أيلول آخر.
ملامح التغيير في العالم تبدأ بتعديل فرنسا قوانينها ودستورها لتوسيع قدرتها على المواجهة الأمنية مثلما فعلت أميركا جورج بوش بإعطاء أجهزة الأمن صلاحيات فوق العادة لأجهزتها ما أدى إلى فوضى في التوقيفات. يضاف إليها طلب باريس غير المسبوق، المعونة الأوروبية العسكرية والأميركية الاستخباراتية، وتشديدها المراقبة على التجمعات الإسلامية، على رغم أن مسلمين قتلوا برصاص «داعش» في باريس ومع أن الرئيس فرنسوا هولاند قال قبل يومين إنه «لا يمكن التسامح مع عمل معاد للسامية أو مناهض للمسلمين». كل ذلك بموازاة تقدم طروحات اليمين المتطرف الرافض استقبال المهاجرين عموماً، وتصاعد الدعوات في أميركا وأوروبا إلى عدم استقبال اللاجئين السوريين (20 ولاية أميركية قررت رفض استقبال أي منهم، فيما قررت ولايات أخرى إجراءات مشددة للتأكد من انتماءاتهم)، ما يزيد من تفاقم أزمة هؤلاء. وبات الأمر محرجاً للزعامات الليبرالية داخل أحزابها وفي تنافسها مع خصومها في الانتخابات المحلية، كما هو حاصل بين المتنافسين على الرئاسة الأميركية، وهو توجه إلى تصاعد في المنظور من الأشهر. سياسة التسامح لأسباب إنسانية أو اقتصادية، إلى تراجع حيال هؤلاء المهاجرين، وسط الترويج لأنها كانت وراء التراخي الأمني في ملاحقة خلايا الإرهاب والتغاضي عن ملاذاته الآمنة. بل سنشهد عودة إلى الوراء في بعض جوانب الحريات، بتأييد جزء كبير من الرأي العام الفرنسي والعالمي. ويبدو أن أحداثاً عنصرية تحصل هنا وهناك في بعض الدول الأوروبية تطغى عليها أخبار الملاحقة الفرنسية والأوروبية للإرهابيين.
من ملامح التغيير في السياسات الدولية أيضاً، أن باراك أوباما بات يشيد بدور روسيا في محاربة «داعش» والإرهاب، معتبراً أنها «شريك بناء»، فيما وصف فلاديمير بوتين الجيش الفرنسي بـ «الحلفاء»، وتنضم دول أوروبية إلى الحرب الآخذة بالتوسع، في ظل التهيؤ لإصدار قرار عن مجلس الأمن يكرس بداية التعاون الدولي بدل قيام الأحلاف المتناثرة. بقدر ما تحمل تداعيات جريمتي باريس والطائرة الروسية تغييرات، فإن بعضها أقرب إلى المفارقات. باتت الطائرات الأميركية تقصف قوافل تهريب النفط التي يستفيد منها النظام في سورية و «داعش» على السواء ، بعد أن كانت امتنعت عن ذلك على امتداد أكثر من سنة، وكذلك الطائرات الروسية. ما لم يتغير في كل الأحوال هو بقاء متلازمة بشار الأسد – «داعش». موسكو تقول ببقاء الأول ليساعد في القضاء على الثاني، وواشنطن والتحالف الدولي، ومنه الدول العربية الرئيسة، يقولان بالتخلص من الأول لأنه جاذب للإرهاب ومساهم في توسعه. وعلى رغم أن التمسك بالأسد يوحي بأن الوعد بالقضاء على «داعش» لن ينفذ إلا بتكريس وجوده، فإن الوجه الآخر لاستمرار التلازم بين الأمرين يعني أن أي قرار جدي بالتخلص من أحدهما سيقود حكماً إلى التخلص من الثاني، وهذا لم يحصل إلى الآن، ما يجعل الحرب على «داعش» محدودة الرقعة.

 

«القيصر» قائد الحرب وصانع.. السلام؟!
أسعد حيدر/المستقبل/20 تشرين الثاني/15
هل قرّر «داعش» إقحام «القيصر» في النزول في «المغطس» السوري حتى أنفه، أم أن «القيصر» أراد ذلك منذ البداية، ولم يكن تحديده للوقت ولأنواع السلاح التي سيستخدمها سوى ستارة من الدخان المصطنع؟ «القيصر»، أراد إعادة صياغة موقع ودور روسيا في العالم الجديد على قاعدة انتهاء مرحلة القوة الأحادية، فدفع الثمن الذي بدا متدنياً بالنسبة للمكاسب التي سيحققها. إسقاط الطائرة الروسية المدنية قلب كل حسابات «القيصر»، وأكد مرة أخرى المعادلة التاريخية أن دخول الحرب بقرار، لكن الغرق فيها تفرضه التطورات الميدانية. لا شك أن «داعش» قد أثبت أنه ألدّ أعداء نفسه. عملياً وميدانياً، لم يكن يريد أحد القضاء عليه واقتلاعه من جذوره. الكثيرون تعاونوا معه فاشتروا النفط منه، أو تغاضوا عن جرائمه وتمدده. اعتبرت القوى الدولية، خصوصاً الولايات المتحدة الأميركية أن «داعش» لا يشبه «القاعدة». خطر «داعش» إقليمي بينما «القاعدة« دولي. للأمانة، وحدها فرنسا اعتبرت «داعش» «مصدر خطر استراتيجي يهدد العالم». لم يوافقها حلفاؤها وفي مقدمهم الرئيس باراك أوباما. فوقعت الكارثة على رأس فرنسا. «داعش» صاحب الدعوة الى «الفتح المتواصل» قفز فوق حدود «الخلافة« ودخل في حرب شاملة ضد العالم. الآن، أقحمت روسيا أفضل ما في ترسانتها من الأسلحة، وطالب «القيصر» «الرفاق» من الجنرالات ببذل كل ما لديهم. السؤال الواقعي، هل يريد «القيصر» فعلاً الانتصار العسكري أم أيضاً السياسي ليكون صانع السلام؟ اجتماع فيينا وما تلاه يؤشر الى أن «توافقاً روسياً أميركياً قد حصل» دون أن يتجسد هذا التوافق في برنامج واضح ومحدد ومبرمج. لا يكفي أن تتفق موسكو وواشنطن على اتفاق كامل حتى ينفذ.
في «الحروب» السورية توجد أطراف وقوى حتى لو كان بعضها صغيراً فإنه قادر على ضرب أو تخريب أو تأخير الحل. إذاً يجب أن تأخذ صناعة الحل وقتها، في الجو وعلى الأرض وفي الغرف المغلقة. في الشكل وحتى في المضمون من الواضح أن خطوات عملية لتشكيل تحالف دولي واسع لضرب «داعش» قد بدأت. فرنسا الجريحة «عينها بصيرة ويدها قصيرة»، لكنها قادرة على تحريك المياه الراكدة وتحويلها الى «تسونامي» سياسي وعسكري واسع ومنتج. في 22 الشهر الجاري و26 منه يزور الرئيس فرنسوا هولاند واشنطن ويلتقي الرئيس أوباما. ثم يلتقي فلاديمير بوتين في موسكو. لقد تناسى الجميع أوكرانيا للتحالف ضد «داعش». يحتاج العالم خطة متكاملة عسكرياً وسياسياً وأمنياً لضرب «داعش». القرار اتّخذ، المهم كيفية التنفيذ. عقدة العقد في قلب هذا التحالف المطلوب هي الاتفاق على مستقبل بشار الأسد. لا يمكن اقتلاع «داعش» وإبقاء الأسد. «الجموع« السنية بوضوح شديد لن تقبل ذلك ولا يمكن الطلب منها الانخراط في هذه الحرب وفي الوقت نفسه إبقاء الأسد. لذلك فإن السؤال المطروح في الأوساط السياسية الدولية متى وكيف؟
مجرّد البدء في وضع و«شطب» أسماء قوائم المرحلة الانتقالية، يعني خطوة الى الأمام لحلٍّ قاعدتُه سوريا بلا أسد. ما قاله جون كيري من «اننا على مسافة أسابيع نظرياً من احتمال انتقال سياسي لا يكون فيه الأسد» يعني أن البحث الجادّ قد بدأ. مجرد طرح اسم فاروق الشرع المبعد، على لائحة شخصيات المرحلة الانتقالية يعني أن محاولة جدية لفتح ثغرة في الجدار قد بدأت. وضع الأسس الضرورية واللازمة لتشكيل بعثة أممية للمراقبة في سوريا، يعني مقدمة لانحسار نفوذ الأسد وكتلته. الأهم من كل ذلك، التوجه المتزايد نحو «لبننة» النظام السوري القادم، يعني أن نظام الفرد الحاكم المطلق قد انتهى. هذه «اللبننة» أصبحت كما يبدو ضرورية، لتقديم ضمانات لكل الطوائف والعرقيات، لا يمكن لأحد في العالم أن يطمئن العلوي على مستقبله، ولا السني من تحكم العلويين به. «اللبننة» مهما بدت بشعة لأنها تثبت الطائفية والمذهبية فإنها على بشاعتها أخفّ وطأة من استمرار الحرب وسيادة عدم الثقة والقلق لاحقاً. «القيصر» لم يُشعل الحرب في سوريا. كانت موجودة وأطرافها على مساحة العالم. «القيصر» لا يمكنه أن يربح الحرب وحده ولا أن يصنع السلام وحده. يوجد أكثر من «قيصر» للحرب والسلام في سوريا، لكن دوره مهم. المؤكد أن «قطار» الحل أصبح في «المحطة» التي سينطلق منها في رحلته الطويلة المليئة بالمواجهات والضحايا والألغام.. و»داعش». لا يكفي ضرب «داعش» في سوريا، اذ يجب البحث في كيفية وقف ولادة التطرف في منطقة الشرق الأوسط نهائياً، لأنه إذا كان «داعش» وُلد بعد وهم بأن «القاعدة» انتهت، فإن ما سيولد بعد «داعش»، إذا استمر تجاهل الأسباب والمكونات التي أغرقت المنطقة بالعنف الأسود، «دواعش» أخطر وأكثر دموية وإرهاباً وستخرج من تحت الرماد.

غرور «داعش» يعجل بنهايته
راغدة درغام/المستقبل/20 تشرين الثاني/15
لا مناص من تحوّلات نوعية في مواقف الدول الكبرى ومواقف الدول المتنفذة إقليمياً، بعدما أعلن تنظيم «داعش» أن رقعة عملياته الإرهابية توسّعت إلى أبعد من العراق وسورية وغيرها من دول المنطقة العربية. فهو توجه إلى الرعايا والمصالح الروسية من خلال تفجير الطائرة فوق سيناء. وهو أرعب باريس بجرائمه التي تبدو خليطاً من تخطيط وتنفيذ محلي وفي بلجيك وفي سورية. وهو وضع نيويورك وواشنطن على قائمة عملياته الآتية، ربما وهو في طور الإعداد لعمليات في عواصم أوروبية أو آسيوية أو خليجية أو غيرها. الرئيس الأميركي باراك أوباما بقي متمسكاً برفضه تغيير استراتيجيته في سورية، مؤكداً أنه لن يقبل بإيفاد جنود أميركيين إلى ساحة الحرب على «داعش»، لكنه وفّر المعلومات الاستخبارية لفرنسا لتقوم بغارات فورية مكثفة ضد «داعش» في سورية انتقاماً من الإرهاب الذي طاول العاصمة الفرنسية، وكان يستهدف الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند أثناء مشاهدته مباراة كرة القدم.
الرئيس الفرنسي عقد العزم على إبلاغ نظيره الأميركي وكذلك الروسي فلاديمير بوتين بأن الإرهاب الذي ضرب باريس هو إعلان حرب على فرنسا يتطلب التنسيق بين دول حلف شمال الأطلسي وروسيا للرد عليه بفاعلية عسكرية وسياسية في أكثر من مكان بالتعاون مع دول شرق أوسطية. فلقد وسّع تنظيم «داعش» وشركاؤه بيكار مشروعه وأبلغ الجميع أن طموحاته وأيديولوجيته لا تتوقف عند إقامة دولة الخلافة في العراق وبلاد الشام، وإنما مشروعه في الواقع عالمي.
لعل هذه الغطرسة التدميرية هي التي ستولد الاستراتيجيات الجديدة وتؤدي إلى حرب جدّية، عالمية ونوعية على صناعة الإرهاب. ولربما يعجّل انتقال الإرهاب إلى عقر الدار الأوروبي، بهذه الكثافة والتوغل، بمقاربة عسكرية وسياسية ملحة للمسألة السورية بالدرجة الأولى، بكل ما تتطلب من فرز للعلاقات الإقليمية. إنما الخيارات الاستراتيجية لن تقتصر على سورية بتعقيداتها التركية – الكردية، والسعودية – الإيرانية. فمصر اليوم في الواجهة، وكذلك ليبيا واليمن والعراق ولبنان. لنبدأ بتركيا التي استضافت قمة العشرين هذا الأسبوع وبدا فيها الرئيس رجب طيب أردوغان في ارتياح، لا سيما بعد التعزيز الواضح للعلاقة المهمة بين تركيا والسعودية وقطر في مفاوضات فيينا حول مستقبل سورية، والتي سبقت قمة العشرين في أنطاليا ببضعة أيام. تركيا قد تحصل، في نهاية المطاف، على موافقة دولية على إقامة مناطق آمنة في شمال سورية لأن إقامة تلك المناطق تساعد في احتواء تدفق هجرة اللاجئين إلى أوروبا. الفارق كبير بين مناطق آمنة ومناطق حظر الطيران، لأن الثانية تتطلب تواجداً وتورطاً عسكرياً للدول التي تقرر فرض حظر الطيران، فيما الثانية تتطلب أقل. أنقرة قد تحصل أيضاً – بل ستحصل – بموجب الأمر الواقع على إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد لأنه بات، عملياً، موقع إجماع على أنه مولّد الإرهاب ومغناطيسه. وبما أن المواقف الدولية عقدت العزم على أولوية القضاء على الإرهاب، فلن تقبل الولايات المتحدة ولا روسيا ولا فرنسا أن يكون الأسد العصا في عجلة الإجماع الدولي على سحق «داعش» وأمثاله.
لكن تركيا خسرت رهاناً سعت بعزم على ربحه وهو إثارة الولايات المتحدة ضد الأكراد. فواشنطن تمسكت بضرورة مد الدعم المباشر للأكراد باعتبارهم محارباً شريكاً ضد «داعش» لا استغناء عنه، وواشنطن في صدد اتخاذ المزيد من الإجراءات العسكرية الداعمة للأكراد في سورية. وهناك في الأوساط الأميركية مَن يشجع الإدارة على تنشيط علاقات مالية عبر شراء النفط الكردي العراقي مباشرة، وليس من خلال الحكومة العراقية المركزية. ماذا ستفعل أنقرة إزاء العلاقة الأميركية – الكردية؟ بعضهم في واشنطن يرى أن في إمكان الإدارة الأميركية تقديم ضمانات لتركيا بأن دعم الأكراد لن يصل إلى درجة مباركة قيام دولة كردية ممتدة من سورية إلى العراق إلى إيران إلى تركيا. وبعضهم يرى أن تركيا لن تتمكن من الاستمرار في كونها جزءاً من المشكلة وجزءاً من الحل في إطار نمو التنظيمات الإرهابية في سورية، وبالتالي ستضطر إلى تنازلات.
سيبقى لتركيا نفوذ مع المعارضة السورية، لكن ذلك النفوذ يتفرع حالياً مع ازدياد الدور العلني للسعودية في السعي إلى جمع المعارضة السورية بتنسيق مع تركيا، إنما أيضاً بتنسيق مع روسيا في آن. فالمعارضة السورية التي غابت من اجتماعات فيينا كسبت من تلك المفاوضات برنامجاً زمنياً وموقعاً في عملية سياسية دولية تنطلق من وقف النار. كسبت المعارضة السورية إصراراً سعودياً – تركياً – قطرياً على عدم بقاء الأسد في السلطة، وموافقة روسية ضمنية على التخلي عن الأسد في نهاية المطاف. العلاقة الروسية – السعودية تتطوّر بصورة متماسكة. موسكو تأمل بإطلاق عملية سياسية لتسوية الأزمة السورية مطلع السنة المقبلة. فترة الـ18 شهراً التي اقترحتها روسيا كرزنامة سياسية للتغيير في سورية قد تتأثر بالرزنامة العسكرية التي فرضتها تطورات هذا الأسبوع والتي تقول مصادر إنها لن تتعدى 4 شهور بسبب الحشد الدولي العسكري المكثف ولأن موسكو تريد استراتيجية خروج من سورية في غضون تلك الفترة.
العلاقة الروسية – الإيرانية، بحسب مصادر أخرى، متوترة لأن هناك في موسكو من يرى أن إيران ورطت روسيا في سورية. والسبب هو أن الركن الأساس للحرس الثوري، قاسم سليماني، أقنع الروس أثناء زيارته إلى موسكو قبل بضعة شهور بأن النظام في دمشق ينهار وهو في حاجة إلى تدخل عسكري روسي لإعادة التوازن وتأمين المصالح، وأن القوى التابعة لإيران مثل «حزب الله» والميليشيات الشيعية قادرة على قلب الموازين على الأرض إذا وفّرت روسيا الغطاء الجوي بغاراتها. وإذ وجدت روسيا نفسها تقصف من الجو فيما الوعود على الأرض تلاشت بسبب القدرات الإيرانية المحدودة، شعرت بالتوريط مرتين. وهي الآن عازمة على استراتيجية خروج من الورطة العسكرية في سورية، ما يترك الجانب الإيراني في ورطة بجنوده المباشرين وغير المباشرين.
إيران تبدو مرتاحة ظاهرياً وهي تروّج لعلاقة تحالفية مع روسيا والدول الغربية للقضاء على «داعش» في سورية وفي العراق، وتجلس إلى طاولة رسم مستقبل سورية في فيينا، وتتأهب لرفع العقوبات عنها بموجب الاتفاق النووي. لكن طهران مستاءة ضمناً لأن لا مقعد لها على طاولة قمة العشرين، فيما للسعودية مقعد مهم، ما يُضعِف الموقف الإيراني. وهي وحدها في عزلة بتمسكها بالأسد على طاولة فيينا في وجه الإجماع على عزله. فحتى ولو كانت إيران تلعب ورقة الأسد للاستهلاك المحلي، فإنها تدرك أنها محيّدة في صنع القرارات في شأن مستقبل الأسد الذي تتمسك به كعقدة، فيما تلك العقدة باتت قابلة للحل بقرار دولي.
تدرك طهران أيضاً أن عملية فيينا لمعالجة الأزمة السورية تضعها تحت المجهر من ناحيتين: أولاً، من خلال عملية تعريف من هم الإرهابيون في سورية، من هم المقاتلون الأجانب، من هي فصائل المعارضة السورية، ومن هي القوات غير السورية التي تقاتل في الحرب الأهلية. فالدعوة إلى مغادرة جميع القوات غير السورية وجميع المقاتلين الأجانب ستطاول إيران ومَن ترعاه، ولن تتمكن طهران من المطالبة ببقاء الميليشيات أو «حزب الله» أو مستشاريها أو كبار قادتها العسكريين في سورية. ثانياً، تعي طهران أنها تنتهك قراري مجلس الأمن الرقم 1737 والرقم 1747 اللذين يحظران عليها أي تواجد عسكري، مباشر أو غير مباشر، بالجنود أو بالذخيرة، خارج حدودها. تعي أن الولايات المتحدة أو بريطانيا لو اختارت اللجوء إلى فضح هذه الانتهاكات لعطّل ذلك الالتزامات برفع العقوبات عنها بموجب الاتفاق النووي. واشنطن ولندن مستمرتان في غض النظر عمداً، وكذلك روسيا والصين وفرنسا وألمانيا، صيانة للاتفاق النووي.
لكن في وسع أي دولة، داخل مجلس الأمن أو خارجه، أن تطرح لدى لجنة العقوبات مسألة انتهاك إيران للقرار الذي تبناه مجلس الأمن بموجب الفصل السابع للميثاق وتقدم الأدلة. فإذا برزت استراتيجية متماسكة للدول المعارضة للتمسك الإيراني بالأسد لتحدي السكوت على انتهاكات إيران لقرار مجلس الأمن، ففي المسألة خطورة. وعلى الأقل، يمكن لواشنطن، إذا شاءت أن تتحدث على حدة مع طهران، لتلوّح لها بأنها قادرة على تعطيل عملية رفع العقوبات، إذا شاءت. ويجب أن تفعل هذا، أقله للتأثير في مواقف إيران التعطيلية.
مجلس الأمن سيتولى مهاماً ذات أهمية وهو يرافق عملية فيينا. فهو مسؤول عن إصدار قرار وقف النار وإنشاء مراقبة دولية له. وهو مسؤول عن صلاحية أو صلاحيات العمل العسكري في سورية إذا لم يكن بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة التي تعطي الدول حق التصرف الفردي دفاعاً عن النفس. وهو أيضاً يرافق، ليبارك أو يصادق، ما يقوم به المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا المكلف في عملية فيينا بإعداد اللجان السياسية والإشراف على صياغة الدستور وإجراء الانتخابات. الأمم المتحدة لديها مرشح لمنصب رئيس الحكومة الذي ستكون له صلاحيات تنفيذية موسعة، لا سيما خلال المرحلة الانتقالية، فيما ستكون الرئاسة رمزية. مرشحها شخصية ممتازة قادرة على تحمل عبء هذه المرحلة، الأرجح أنها ستكون مقبولة لدى الدول الكبرى والدول الإقليمية ولدى شخصيات مهمة في النظام في دمشق. هناك مرشحان آخران قيد البحث، أحدهما خارج سورية والآخر داخلها، وليس واضحاً مدى القبول بأي منهما. وهناك أيضاً قائمة مفصّلة بأسماء من هو مقبول ومن هو مرفوض قطعاً من أركان النظام. فالعملية السياسية متقدمة.
الغائب الفعلي عن تلك العملية هو مصر التي تقول مصادر إنها حاولت اللعب على التناقضات في وقت لا تتحمل المرحلة اجتهادات، ما أثر على علاقاتها مع حلفائها الإقليميين. كما أن القاهرة منزعجة من ترتيبات إقليمية تعتبرها متعارضة مع مصلحتها المنصبة على محاربة «الإخوان المسلمين».
على رغم ذلك، إلا أن هناك إدراكاً لدى الجميع، بما في ذلك واشنطن، أن من الضروري استعادة مصر كحليف استراتيجي، أقله للحرب على «داعش» داخل مصر أو في ليبيا المجاورة. فمصر مهمة ومن الضروري استعادتها كلاعب استراتيجي أساسي، إنما يتطلب ذلك إدراك تداعيات أخطائها السياسية الإقليمية ولجم بعض إجراءاتها الداخلية باسم محاربة «الإخوان». ليبيا تشكل خطأً دولياً يجب تداركه ضمن استراتيجية محاربة الإرهاب قبل أن تسقط كلياً رهينة التنظيمات الإرهابية المتنامية. فإذا كانت الاستراتيجية الدولية الآن هي حقاً سحق «داعش» و «القاعدة» وشركائهما، فإن التنبه لليبيا ضرورة ملحّة قبل فوات الأوان.
أما في اليمن، فيتطلب حرمان «القاعدة» وأمثالها من كسب أرض، إيجاد بيئة مؤاتية لإنهاء التحالف العربي العمليات العسكرية هناك. والوقت مناسب للتفكير باليمن من زاوية سحق الإرهاب قبل أن يتحول إلى أرض خصبة لإنمائه مجدداً، وهذا يتطلب مساعدة التحالف على الخروج من اليمن بما يحوّل الموارد والقدرات في اتجاه القضاء على «داعش»، أينما كان. جديد حدث على الساحة الدولية باستدعاء من تنظيم «داعش» الذي أبدى غروراً عارماً وهو يتوسّع متباهياً بقدراته على الاختراق. «داعش» لم يكن يوماً تنظيماً إرهابياً محلياً بل كان دوماً صناعة عالمية وتنظيماً عالمياً بامتياز دفعت سورية ثمنه غالياً. لعله اليوم أفرط في ثقته بقدراته التدميرية وسيلاقي حتفه، حتى وإن طال الزمن. لكن الخوف، وكل الخوف، أن ترتكب القوى الدولية أخطاء تضاف إلى الخطأ المكلف الذي قام على مبدأ: لنحاربهم هناك كي لا نحاربهم في مدننا. فهذا كان إثماً لا يُغتفر دمّر العراق وسورية، وارتد الآن على الأبرياء.