البروفيسور جاسم عجاقة: لبنان تحت وطأة كوارث السياسة الإقتصادية/عماد موسى: قصة كبيرة/سامي خليفة: المعارضون الشيعة: أزمة التمويل والقيادة/وسام سعادة: انتخابات بولندا وتركيا بوسعهما تصويب النقاش اللبناني أيضاً

322

لبنان تحت وطأة كوارث السياسة الإقتصادية
البروفيسور جاسم عجاقة/المدن/الأحد 01/11/2015
مما لا شك فيه أن الإنقسام السياسي ضرب الحركة الاقتصادية في لبنان، وطال كل القطاعات الإنتاجية من زراعة وصناعة وخدمات. وكان للمالية العامة حصتها من هذا الإنقسام عبر العجز المتراكم، كما أن القطاع المصرفي والمؤسسة العسكرية تأثرا بشكل جدّي بهذا الإنقسام.
من المتوقع أن يكون النمو الاقتصادي هذا العام بحدود الصفر بالمئة، وهذا يعود بالدرجة الأولى إلى سياسة التعطيل التي تطال السلطتين التنفيذية والتشرعية. ووصل هذا الإنقسام إلى حد ضرب الماكينة الإنتاجية، فالسياحة تضررت بحكم التوتر الأمني الذي عصف بلبنان خلال الصيف، ومع بدء التدخل الروسي في سوريا، كما ومقاطعة الخليجيين. وزاد ملف النفايات الطين بلّة، إذ تمّ فقدان أي أمل بموسم سياحي في ظل تكدّس مئات آلاف الأطنان من النفايات في الشوارع. أما القطاع الزراعي، فقد تلقّى ضربة كبيرة مع توقف التصدير البرّي عبر معبر نصيب وبالتالي أصبح التصدير البحري هو المُعتمد. لكن التأخر في إعتماد التصدير البحري نتيجة الإنقسام السياسي، أدّى إلى تكدّس الإنتاج وبالتالي تكبد المزارعون خسائر فادحة. وعلى الصعيد الصناعي، إستطاع هذا القطاع الإستمرار، ولو بوتيرة بطيئة، مُستفيداً إلى حدّ معين من إنخفاض أسعار النفط العالمية. خدماتياً، تراجعت الخدمات في لبنان بشكل كبير. فقد قلّ تزويد السوق اللبناني بالكهرباء بسبب تآكل الماكينات التي أصبحت تحتاج بشكل كبير إلى صيانة وحتى تبديل.
وكنتيجة لهذا الواقع تراجع الإستثمار والإستهلاك في آن واحد مع إنخفاض الإستثمارات الداخلية بنسبة 23.8% والإستثمارات الأجنبية المباشرة بنسبة 20% على الأشهر التسعة الأولى من هذا العام مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي. أما في ما يخص الإستهلاك، فقد تراجعت بنسبة 15% مقارنة بمطلع هذا العام. وعلى الصعيد المالي، تراجعت مداخيل الدولة بنسبة 8% في الأشهر التسعة الأولى من هذا العام مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي. وفي ظل محافظة الإنفاق العام على مستواه، زاد العجز في الموازنة 13.1% في الأشهر الستة الأولى من هذا العام ليصبح العجز 1800 مليون دولار أميركي في الفصل الأول من العام 2015. أي أنه وبأحسن الأحوال، سيتجاوز العجز هذا العام عتبة الـ 6000 مليار ليرة لبنانية (10% من الناتج المحلّي الإجمالي).
وكنتيجة مُطلقة لكل هذه العوامل، خفضت وكالات التصنيف الإئتماني نظرتها المُستقبلية للبنان من مُستقر إلى سلبي. وهذا يعني أن تخفيض التصنيف الإئتماني للبنان أصبح +CCC بدل -B لتدخل بذلك سندات الخزينة اللبنانية نادي سندات المضاربة (Junk Bond). وهذا يعني أن القطاع المصرفي سيتضرر نتيجة التخفيض التلقائي لتصنيفه، من ناحية رفع كلفة الإستدانة عليه، ومن ناحية الحاجة إلى إعادة رسملة المصارف اللبنانية لتمتثل بذلك لمعايير بازل 3 من ناحية الملاءة وحماية العملاء. وكردة فعل على هذا الأمر، ستعمد المصارف إلى زيادة الفائدة لدعم ربحيتها التي ستتراجع نتيجة التخفيض. وهذا يعني أن الإستثمارات في لبنان ستهبط بنسب كبيرة وستتزعزع الليرة التي ستتعرض للبيع بنسبة كبيرة، ما يعني أن الثبات النقدي سيهتزّ وسُيجبر مصرف لبنان على التدخل لحماية الليرة فاقداً بذلك قسماً كبيراً من إحتياطه من العملات الأجنبية. وتبقى المخاوف الأساسية تدور حول عمليات سحب للودائع بوتيرة عالية في حال دبّ الذعر في الأسواق. نعم أدّت سياسة التعطيل الحكومي إلى كل هذه النتائج السلبية مدعومة بنسبة عالية من الفساد وصلت إلى حدّ ضرب المؤسسة العسكرية، والتي إستطاعت بلحمتها تخطي “القطوع” الخطير الذي تعرضت له في مسألة التعيينات. لكن الأمر لم يتوقف هنا، بل ذهب إلى حدّ التوقف عن دفع الأجور مع تهديد بعدم دفع شهر تشرين الثاني وكانون الأول.
إن صغر حجم الاقتصاد اللبناني يجعله عرضة للأزمات السياسية والأمنية. وهذا الأمر ينتج عنه تآكل سريع في إحتياط مصرف لبنان من العملات الأجنبية. وهذا ما يُمكن قراءته من تصريح حاكم مصرف لبنان رياض سلامة عن التداعيات المالية الخطيرة التي ستنتج عن إستمرار التعطيل في العمل الحكومي والنيابي، خصوصاً أن سلامة بحاجة إلى إقرار مشاريع قوانين تتعلق بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، تحت طائلة تعرض القطاع المصرفي اللبناني إلى عقوبات قد تكون كارثية عليه وقد تؤدي إلى سحب سريع للودائع منه. هذا الواقع إذا ما حصل سيكون بداية للإفلاس المالي للبنان، في وقت يزداد عدد النازحين السوريين بوتيرة عالية مع تصاعد العمليات العسكرية الروسية في سوريا، ومع إستمرار التعطيل في ظل وضع إجتماعي صعب جداً. من هنا يتبين أن شبك الإقتصاد بالسياسة وإستخدام الأخيرة لتعطيل القرارات الاقتصادية والمالية، هو عمل غير أخلاقي بحق لبنان واللبنانيين، لأن من سيدفع الفاتورة المالية هو اللبناني، عبر زيادة دينه العام. من هنا نرى عدم وجود عقلانية في التعاطي السياسي مع الأزمة الاقتصادية والمالية. وأبعد من ذلك، يُمكن القول أن التعاطي السياسي مع الملفات الاجتماعية قد يكون بداية لثورة إجتماعية، يمكن أن تطيح بالنظام السياسي الحالي خصوصاً إذا ما أقدم رئيس الحكومة على تقديم إستقالته، ليُصبح بذلك لبنان في حال لا دستورية.

قصة كبيرة
عمـاد مـوسـى/لبنان الآن/01 تشرين الثاني/15
فيما أنظار العالم متجهة إلى مدينة جنيف التي تشهد اجتماعات ماراثونية موسّعة بين وزراء خارجية الولايات المتحدة الأميركية وروسيا وتركيا وإيران والسعودية….ولبنان، تهدف إلى إيجاد حل سياسي في سوريا تجنّبها ضربة عسكرية أميركية محتملة. وفيما تشهد الضفة الغربية “يوم غضب لشهداء الجليل” بعد تصاعد المواجهات بين الجيش الإسرائيلي والفلسطينيين، وفيما تتواصل الأعمال العسكرية في اليمن بمشاركة الجنوبيين، وفيما يسيطر القلق على الشارع العراقي بعد استعادة داعش المبادرة العسكرية في غير منطقة، اهتز الشارع اللبناني بخبر مزلزل: الولايات المتحدة الأميركية تمنع نائب المتن (حامل الجنسية الفرنسية) الدكتور نبيل نقولا من دخول أراضيها بعد رفض سفارتها في باريس منحه تأشيرة دخول. قصة كبيرة. لن تمر المسألة ببساطة. حتماً ستكون لها تداعيات خطيرة على لبنان ودور أميركا في الشرق الأوسط. أولى التداعيات البحث في قطع العلاقات الديبلوماسية مع أميركا. وقف الإعانات التي خصصها لبنان لتنمية المناطق الريفية في الولايات المتحدة الأميركية. تجميد أرصدة المسؤولين الأميركيين في لبنان. وقف برامج المساعدات العسكرية وبرامج التدريب اللبنانية المخصصة للبوليس الأميركي. تسرّعت ولم تدرك حجم الخطأ الذي ارتكبته بعيون مفتّحة. بل أوغلت في الخطأ والخطيئة عندما امتنعت عن شرح الأسباب والإعتبارات التي دفعتها لعدم إعطاء نقولا تأشيرة دخول إلى الأراضي الأميركية.  بالتأكيد القصة أكبر من موظفٍ وقنصل وسفير، ولا تتعلّق حصرا بمنع نائب المتن من التواصل مع جماهير التيار الوطني الحر في الولايات المتحدة ومن “ممارسة نشاطه الإنساني” كما ورد في بيان مكتب نقولا الإعلامي.القصة كبيرة. أما فرضية وقوف شانت جنجيان وراء منع نقولا، فتبقى مجرد فرضية، علما أن الأميركيين لا يقطعون شعرة في المنطقة العربية من دون الوقوف على خاطر شانت.القصة كبيرة وقد تكون على صلة بالأمن القومي الأميركي.   وليس من حق نقولا وحده معرفة الأسباب، بل إن اللبنانيين بكل أطيافهم من حراك مدني إلى حراك سياسي. كل اللبنانيين (يعني كلن) المدرجين على لوائح الشطب يريدون معرفة الأسباب التي أوجبت معاملة النائب المحبوب على هذا النحو المعيب. أهو صراع أجنحة في الولايات المتحدة بين جهاز الأمن القومي ووزارة الخارجية دفع نقولا ثمنه؟ أو أن وجود نقولا في الولايات المتحدة قد يؤثر على مزاج الناخب الأميركي قبل الإنتخابات الرئاسية الأميركية ويحدث الفرق الشاسع لمصلحة دونالد ترامب. في أي حال سيستغل جون كيري وجود جبران باسيل في جنيف ويطلب الإجتماع إليه وستكون قضية نقولا مطروحة على الطاولة بين قطبي الديبلوماسية العالمية. قد يستذكر البعض ما حصل قبل أكثر من عقد يوم إستردت الولايات المتحدة الأميركية تأشيرة دخول ممنوحة لوليد بك جنبلاط وذلك بعد تصريح ساخر لزعيم المختارة أعقب نجاة بول وولفوفيتز من هجوم صاروخي على فندق الرشيد في بغداد.وقتئذِ أعرب جنبلاط عن أمله في أن تكون الصواريخ أكثر دقة في المرة القادمة وأن تتخلص “من هذا الفيروس” وأمثاله. قال جنبلاط ما قاله وحصل ما حصل ولم تقم القيامة فلماذا الآن؟. لهؤلاء أقول: ليش جنبلاط متل نقولا؟

 

المعارضون الشيعة: أزمة التمويل والقيادة!
سامي خليفة/المدن/الأحد 01/11/2015
مع إحتدام الصراع في المنطقة، يبقى السؤال الأبرز عن غياب شخصيات وازنة ضمن الطائفة الشيعية، لمواجهة استئثار “حزب الله” بالساحة الشيعية، ويبدو أن عوامل عديدة تحد من قدرة أي معارضة في إحداث خرق حقيقي، خصوصاً أن الظروف الداخلية والإقليمية اليوم وتصاعد الخطاب الديني المتشنج وشد العصب تجعل من اي صوت مختلف بحاجة إلى معجزة  كي يُسمع. ويعد التمويل أحد المشاكل الأساسية التي تواجه المعارضون الشيعة. “حزب الله” وحركة “أمل” يرتبطان بتحالفات إقليمية وشبكة كبيرة من رجال الأعمال داخل وخارج لبنان، تقدم دعماً سنوياً بأرقام ضخمة، حتى أن الأمين العام لـ”حزب الله” السيد نصر الله صرح في إحدى المناسبات أن دعم إيران يغني الحزب عن “أي فلس في العالم”، فضلاً عن المنتفعات من وزارات الدولة، في المقابل يجد المعارضون الشيعة صعوبة في الحصول على تمويل ثابت يؤمن استقرار نشاطهم حتى يستطيعوا توظيف كوادر متخصصة تقنع الرأي العام بصوابية رأيهم وبناء أحزاب لها دور فاعل في توعية المجتمع وبالرغم من أن بعض الشخصيات والتيارات مُولت سابقاً من دول، وحاولت تمويل نفسها ذاتياً، خصوصاً خلال العام 2009 إلا أن معظم هؤلاء ثبت أنهم يحاولون تقديم بديل لـ”حزب الله” للحصول على المال وليس تأسيس بديل حقيقي.
ويعتبر التنظيم عاملاً تفتقره المعارضة الشيعية فهي غير قادرة على إنشاء أحزاب ببنية تنظيمية قوية تمتلك هيكلية داخلية مترابطة ومتماسكة بقوة، وقائمة على تسلسل الوظائف والمسؤوليات حيث يلتزم أعضاؤها ببرامج سياسية محددة ومحاولة خلق رأي عام في مواجهة “حزب الله وحركة “أمل” اللذين يمتلكان تنظيماً هرمياً منظماً تنظيماً جيداً منذ عقود، ولديهما نوعية جيدة جدا من السيطرة والتحكم. كما تفتقر المعارضة القدرة على إثبات النفس، فهي مشتتة ومنقسمة، ولا يوجد قاسم مشترك بينها، اضافة إلى الدور السلبي لقوى “14 اذار” التي لا تقدم الدعم اللازم لمن تطلق عليهم حلفاؤها مكتفية بالدعم الكلامي، وجعلهم لقمة سائغة عند اي تسوية سياسية، كما حدث مع اللقاء الشيعي عام 2005، الذي تعرض  لضربة قاصمة من هذه القوى بعد التحالف الرباعي، كما عند محاولة تأسيس المجلس الوطني مؤخراً. للعامل الديني والتاريخي دور أساسي في عجز المعارضة أن تحجز مقعداً على الساحة الشيعية، فـ”حزب الله” يستحوذ على قضية محاربة اسرائيل واضاف اليها التكفيريين، واستطاع اقناع الجمهور بأنه هو من يؤمن الحماية لهم، وتتبع حركة “أمل” الأسلوب نفسه حيث تستخدم قضية الإمام موسى الصدر وحماية مراكز الشيعة في الدولة لجذب الجمهور.
هذه العوامل تجعل من الصعوبة لأي معارض أن يخاطب الناس فضلاً عن افتقار معظم المعارضين للشخصية الكاريزماتية ولخطاب عقلاني يناسب البيئة المتدينة ولشخصيات دينية يكون لها وزن كالسيد هاني فحص والسيد محمّد حسين فضل الله والشيخ محمد مهدي شمس الدين الذين برحيلهم تركوا فراغاً كبيراً لا يمكن تعويضه، خصوصاً أنهم قدموا فكراً ومرجعية قادرة على المواجهة، في ظل سياسة رفض اي خطاب ديني مختلف لدى “حزب الله” كما حصل مؤخراً مع الشيخ ياسر عودة.التخوين والسطوة الأمنية يؤثران بشكل كبير على أي صوت معارض إذ يشير رئيس “التيار الشيعي الحر” الشيخ محمد الحاج حسن لـ”المدن” أن “البيئة الشيعية مقيدة بسلسلة من التعقيدات تمنع أي نهضة تحررية، فهناك عوامل الترغيب والترهيب وضخ الاموال وزرع الأفكار التي جعلت العقول متصحرة لدرجة بات يصعب فيها فصل الولاء الحزبي عن الديني بحيث باتت الأكثرية الساحقة من البيئة الشيعية ترى عدم الإنتماء للثنائية الحاكمة بمثابة خروج من التشيع والدين ويصبح التخوين والعمالة والتكفير هو العامل الفعال”. وبالإضافة إلى ما ذكر انفاً يستخدم  بعض المناهضين لـ”حزب الله” الإستعراض وسيلة للوصول إلى الجمهور ولعل المثال الأبرز على ذللك تيار “الإنتماء اللبناني” الذي يترأسه أحمد الأسعد، والذي استخدم اسلوباً استفزازياً ظناً منه بأنه سيحصل على التعاطف. ويتحدث خليل الجوهري لـ”المدن”، وهو أحد الذين عملوا سابقاً مع الأسعد، عن النظرة المحدودة لـ”التيار”. ويقول إن “الأسعد لجأ إلى لغة تستفز الناس بدلاً من التقرب منهم ومن الواضح انه كان يفعل ذلك لاسترضاء بعض الدول والحصول على دعم مادي أكبر، والدخول إلى بيئة متدينة، وفيها عدد كبير من الشهداء والتعرض لهم بهذه الطريقة أمر بغاية التهور، وهذا الأمر استفز جمهور أمل ايضاً، لأن سياسة التعميم التي اتبعها الأسعد أدت إلى مضايقات لداعميه، خصوصاً أن معظم من أيدوا الأسعد فعلوا ذلك لمصالح مادية فما أن انتهت الإنتخابات النيابية عام 2009 حتى ترك معظمهم التيار، خصوصاً بعد الشح المالي الذي أصبح يعاني منه”.

 

انتخابات بولندا وتركيا بوسعهما تصويب النقاش اللبناني أيضاً
وسام سعادة/المستقبل/02 تشرين الثاني/15
الطابع المحتبس للتوازن الكارثي على الطريقة اللبنانية، والموت السريري للمؤسسات الدستورية، يجعلان السؤال «متى الانتخابات»، رئاسية كانت أو تشريعية، في علم الغيب. الأفضل، لبرهة، التعويض عن اندثار المواسم الانتخابية عندنا، بشيء من التعليق على الاستحقاقين التشريعيين الأخيرين، في بولندا قبل اسبوع، وفي تركيا بالأمس. في الاستحقاقين ما يعنينا كلبنانيين «بلا انتخابات». وليس تماماً، هذه المرة على الأقل، من ناحية التشوّق لصناديق الاقتراع عند سوانا، والتحسّر على غيابها عندنا، بل من ناحية ما يوفره الاستحقاقان من مشهدين ممانعين بازاء «الفكرة اللامركزية»، في الوقت نفسه الذي تبين فيه الأزمة اللبنانية، ومن بوابة مشكلة النفايات، الحاجة للدفع نحو اللامركزية. وحده التنبه الى ان «اللامركزية» ليست «حتمية تاريخية»، وان الصراع معها وضدها سياسيّ تماماً، وكليّ الراهنية، يمكنه تفعيل النقاش حولها، وتسييسه. في كل من الانتخابات الأخيرة في بولندا (بحسب موعدها الطبيعي)، وتركيا، (انتخابات مبكرة جداً بعد أشهر قليلة على فشل الاستحقاق السابق في الخروج بأكثرية مطلقة أو تشكيل ائتلاف حاكم)، انتصر حزبان محافظان. «الحق والعدالة» في بولندا. «العدالة والتنمية» في تركيا. النظام الانتخابي كان نسبياً في الحالتين (على مستوى الغرفة السفلى، الدييت، من البرلمان البولندي، في مقابل الدائرة الأكثرية بالتصويت الأكثري على مستوى مجلس الشيوخ). في الحالتين، أكثرية مطلقة نالها الحزبان المحافظان، الكاثوليكي والإسلامي. مع فارق: هذه أول مرة ينال حزب الأكثرية المطلقة في البرلمان البولندي منذ سقوط الشيوعية، في بكّر بالانتخابات في تركيا لفشل «العدالة والتنمية» في نيلها «كما المعتاد».
فارق آخر: نجح اليسار التركي، ممثلاً بـ«حزب الشعوب» ذي الصبغة الكردية، في تخطي العتبة التي تؤهله للتمثّل البرلماني، في مقابل «صفر مقعد» لكافة اليسار البولندي. ما يجمع بولندا وتركيا هو بقاؤهما على نموذج الدولة المركزية. طبعاً، بمقادير مختلفة. فالدخول الى الاتحاد الأوروبي، استدعى الخطو باتجاه اللامركزية في بولندا، أقلّه لاجتذاب الأموال الأوروبية الى السلطات المحلية. ورغم ان بولندا الحالية مجتمع متجانس اثنياً الى حد كبير – بخلاف تركيا، ينظر الى اللامركزية فيها بريبة، بل ان الحزب المنتصر فيها الآن، خاض المعركة، في وقت واحد، ضد تدفق المهاجرين، وتشكيكاً بالاتحاد الأوروبي، وضدّ الاجهاض وزواج المثليين والمساكنة، لكن أيضاً للتضييق على برامج الخصخصة وانشاء وزارة مكافحة فساد، ولوضع عراقيل أمام التوجهات اللامركزية التي تبناها الليبراليون.
في تركيا، « العدالة والتنمية» ليست متشدّدة أيديولوجياً قدر تمسك الحزبين القوميين الأتاتوركيين بالدولة المركزية. يبقى ان السمة السلطانية لزعامة أردوغان، والنظام الرئاسي الذي يدعو اليه، ونجاحه في انتزاع الأكثرية مجدداً، يعيد تشبيه مآل الاستحقاقين: قطع الطريق أمام التطور اللامركزي لتركيبة الدولة، وتفضيل «النموذج النابليوني» ادارياً، من موقع محافظ، له هوية دينية، اسلامية أو كاثوليكية، وليس من موقع جمهوري علماني، كما درجت العادة. فاذا كان مآل الأوضاع في اوروبا الغربية ينحو صوب الدولة اللامركزية أكثر فأكثر، أي الدولة التي تنقل المسؤوليات من السلطة المركزية الى السلطات المحلية والاقليمية، وتستغني عن التنميط الأحادي لتطبيق القوانين وادارة الخدمات، وتقرّ الاستقلالية القضائية الاقليمية في فضاءات محددة، فإنّ «الممانعة أمام اللامركزية»، قوية جداً في بولندا وتركيا، وتحت شعار رفض الفدرالية هناك أيضاً، ولم تعد تحملها قوى تربط مركزيتها بالأيديولوجيا التقدمية، انما بالأيديولوجيا المحافظة.
في المقابل، يتميز «حزب الشعوب» اليساري التركي بربطه بين الحريات والتعددية الاثنية وبين تفكيك السمة المركزية الشديدة للدولة، ويستمد قوته من دائرته الكردية. في بولندا، اللامركزية تبناها أساساً يمين الوسط الليبرالي، كونها من لوازم الخصخصة، والمعايير الأوروبية.
في تركيا، من يحمل راية اللامركزية حالياً، تقدميّ يساريّ، لكنه سياسياً واثنياً «طرفيّ». في بولندا، اللامركزية تطرحها قوة ليبرالية خسرت الانتخابات حالياً، لكنها تطرحها بشكل ثانوي، وغير اجتماعي، غير مرتبط بتحسين شروط العيش والسكن، الأمر الذي سهّل الانقضاض عليها، من على يمينها، ومن قبل من يطالب بمركزية الدولة والكنيسة والعائلة وحماية الفقراء واقفال الحدود أمام المهاجرين. في لبنان، بخلاف «الحق والعدالة» و«العدالة والتنمية»، ما عاد هناك من قوة سياسية «ميتا-شهابية»، يمكنها الدفاع بشكل جدي عن مركزية الدولة، وكل طرح من هذا القبيل هو تغلّب فئوي، أو مكابرة عبثية. في الوقت نفسه، هذا يجعل المطلب اللامركزي مائعاً هو الآخر، في غياب خصم جدي صريح له. اخراج المطلب اللامركزي من هذه الميوعة، بصقله دستورياً واجتماعياً، يصير اذاك تحدّياً عسيراً وصعباً، قدر ما هو ضروري. يصلب عود المطلب اللامركزي حين ينقسم النقاش السياسي حوله، وينقسم النقاش السياسي حوله حين تظهر المسألة بهذه القطبية: إما التغلبية الفئوية، معطوبة المركزية، وإما التحرّك اللامركزيّ، المدعّم بالصياغتين الدستورية والاجتماعية لكل طرح سياسي اصلاحي.