جورج سمعان: هل ينجح نموذج بوتين حيث فشل الآخرون/غسان شربل: إنها أكبر إنها أخطر

363

هل ينجح نموذج بوتين حيث فشل الآخرون؟
جورج سمعان/الحياة/12 تشرين الأول/15
الرئيس فلاديمير بوتين استعجل تحريك ديبلوماسيته مثلما استعجل في زج قواته في الحرب السورية. لا يريد لانخراطه الميداني أن يطول ويضيع في متاهات ومواجهات بدأت تلوح في الأفق. لن يترك لخصومه فرصة إعادة رسم خططهم وسياساتهم. يريد فرض واقع يتيح له فرض التسوية التي تناسب مصالحه أولاً وأخيراً. يريد توسيع انتشاره في المنطقة، ما دام عاجزاً عن إقناع خصومه الغربيين بهضم ما انتزع وينتزع من أوكرانيا. أرهقته العقوبات وتدني أسعار النفط ومتاعب اقتصاده وتراجع الروبل. ولا سبيل لامتصاص أي نقمة في الداخل سوى اللجوء إلى الفضاء القريب والبعيد تحت شعار استعادة مجد الإمبراطورية. لكن هذه السياسة قد لا تنجح. ولن يستطيع مساعد وزير خارجيته ميخائيل بوغدانوف إقناع أطياف المعارضة، خصوصاً المسلحة بمشروعه للتسوية. إلحاق خلل فادح في ميزان القوى وتغليب كفة النظام لا ينتج تسوية. وتركيز حربه على الجبهات الساخنة مع خصوم النظام لن تقنع هؤلاء بوجوب التسليم، بل إن توجه الأطراف الخارجية إلى تعزيز قدرات هؤلاء عتاداً وأسلحة فعالة سيدفعهم إلى مزيد من التشدد. تحريك موسكو عجلة الديبلوماسية مواكبة لحملتها العسكرية هدفه تقليص أمد انخراطها في الحرب، وفرض أجندتها وأولوياتها في التسوية، والتي تتجاوز حدود سورية إلى ما بعد أوكرانيا. كان هذا واضحاً بعد اللقاءات التي عقدها الزعيم الروسي مع نظرائه الغربيين. مشكلته أن هؤلاء، خصوصاً الأميركي، لم يُبدوا أي استعداد للمقايضة بين أزمة وأخرى. علماً أن سكوتهم عن مواجهته في السابق، في جورجيا ثم في أوكرانيا، دفعه إلى إعادة الانتشار فوق ما كان يعد للاتحاد السوفياتي وقبله للقيصرية. لم تأت القوات الروسية للحفاظ على النظام في دمشق أو لمواجهة «داعش» فحسب، أتت للحفاظ على مصالحها وحماية النظام في موسكو. «الدولة الإسلامية» قامت قبل نحو سنة ونصف السنة، وتعرض النظام في سورية لتهديدات كبيرة في السنوات الأربع الماضية، لكن الكرملين لم يتحرك. وعودة بالذاكرة إلى بداية الأزمة تلقي الضوء على ما يجري هذه الأيام: الرئيس ديمتري مدفيدف في نهاية عام 2011، دعا نظيره السوري إلى تطبيق إصلاحات أو التنحي. وكان حذره قبل ذلك من «مصير محزن» ما لم يستمع إلى مطالب المعارضين. وكان رئيس وزرائه يومذاك فلاديمير بوتين سبقه إلى أن بلاده «ليست لها مصالح واستثمارات في سورية للدفاع عنها»!
ولكن، على رغم ذلك لم تتخلَّ موسكو عن الـ «فيتو» في مجلس الأمن في أي قرار يخص دمشق. لا تريد خسارة هذا البلد، وخسارة صفقات السلاح معه ومع غيره في المنطقة كلها. وتريد تحويل موطئ قدم أسطولها في طرطوس قاعدة عسكرية كبيرة في المتوسط وشرقه. تريد العودة إلى ماضيها في مصر والعراق وغيرهما. ولا ترغب في تكرار التجربة الليبية، حيث وجدت نفسها خارج ما يرسم لمستقبل هذا البلد. عارضت بشدة ولا تزال أي محاولة لتغيير أي نظام لا تروق سياسته للغرب، على حد زعمها. لكنها تدرك جيداً أن ليبيا لم تكن درساً لها وحدها. شكلت درساً لواشنطن أيضاً بعد درس العراق. والواقع أن ما تريده العاصمتان هو ألا يتكرر في سورية ما حصل في هذين البلدين. كما أن تأكيد الرئيس باراك أوباما استعداده للتعاون مع نظيره بوتين اعتراف صريح بأن بلاده عاجزة وحدها عن فرض الاستقرار والأمن في الشرق الأوسط. ومنع المنطقة من الانزلاق إلى مزيد من الانهيارات والتفكك. ولو كانت قادرة على التحرك وحيدة في شرق تنهشه الحروب الأهلية والمذهبية والعرقية، لما نادت قوى أخرى إلى المساعدة. والذين ينتظرون منجزات نوعية لتدخل روسيا اليوم، يجب ألا يغيب عن بالهم أن القوة مهما عظمت لا يمكنها فرض التسويات من خارج. هذا ما حصل للقوة الأميركية الضاربة في أرض الرافدين. وهذا ما حصل لقوات حلف شمال الأطلسي في أفغانستان أيضاً. لم تستطع كل هذه القوى فرض نظام سياسي في بغداد تجمع عليه كل المكونات، بل واجهت جيوش الغرب حروباً ومقاومات متعددة. ولا تزال قوى كثيرة ترفض حتى اليوم تدخلهم الميداني. تستنجد بغداد بالأميركيين لغطاء جوي هنا وهناك. وتلومهم على عجزهم وعجز تحالفهم الدولي الواسع في احتواء «الدولة الإسلامية» والقضاء عليها. كأن الجيوش الأميركية قوات مرتزقة لوقت الحاجة!
ما دفع الرئيس بوتين على مغامراته العسكرية، حماية نظامه في الداخل ومصالح بلاده في الخارج. وساعده انكفاء خصمه، إذ كان واضحاً أن الرئيس أوباما منذ وصوله إلى البيت الأبيض ظل أسير شعاراته والتزاماته لإعادة الجنود الأميركيين إلى بلادهم، وتصفية «الحروب الاستباقية». وأنه لن يجازف في خوض حروب جديدة. وهو إلى اليوم لا يريد الانجرار إلى بؤر التوتر في المنطقة. والذين يصفونه بالتردد وغياب الرؤية والحزم والمجازفة بسمعة أميركا يعرفون أنه لم يحد عن سياسته المرسومة منذ اليوم الأول. استراتيجيته هي دعوة أهل الإقليم إلى تسوية مشاكلهم بأنفسهم. ولا شك في أن الاتفاق النووي مع إيران طوى صفحة توتر دائم مع طهران. لكن هذا الاتفاق لم يصرفه إلى الاهتمام بقضايا أخرى نحّاها جانباً طوال فترة المفاوضات بين الجمهورية الإسلامية والدول الست الكبرى على برنامجها النووي. لم يتحرك لضبط التوازن بين هذه الجمهورية والقوى الأخرى، خصوصاً العربية. لم يفعل ذلك حتى عندما فرضت طهران حليفها نوري المالكي رئيساً لولاية ثانية عام 2010. ولم يتحرك لتصويب سياسة حكومة زعيم «دولة القانون» التي انتهت بقيام «دولة أبي بكر البغدادي». ولم يتحرك لوقف تمدد الحوثيين في اليمن. ولم يلجأ إلى دعم فصائل المعارضة السورية بمواجهة الدعم الإيراني والروسي للنظام. ترك للقوى الإقليمية أن تصحح بنفسها ميزان القوى على الأرض، لإيمانه بأن مثل هذا الأمر يعفيه من الانخراط الميداني المباشر لتصحيح الخلل.
وأمام عجز الأطراف الإقليميين المتصارعين، عرباً وإيرانيين وأتراكاً، عن التفاهم على الحد الأدنى وادارة أزمات المنطقة وتسويته، دفعهم إلى الاستنجاد بالقوى الكبرى. وهو ما أتاح لروسيا أن تتدخل بقوة لملء الفراغ أولاً. وسعياً إلى فرض توازنات جديدة على الأرض تسمح لها برسم التسويات بما يرسخ مصالحها. لكن الحرب التي تخوضها في سورية لا تنبئ بأن كسر التوازن لمصلحة النظام يمكن أن ينتج حلاً سياسياً للأزمة. ذلك أن عمليات قواتها لا تستهدف «داعش» بقدر ما تستهدف الفصائل المعارضة التي يفترض أنها معنية بالتسوية، وبالحركة الديبلوماسية التي يقودها بوغدانوف. وإذا قيض للتدخل العسكري الروسي أن يغلب كفة دمشق في الميدان، فإن تسويق موسكو فكرة الحكومة الوطنية الجامعة قد لا يلقى قبول معظم أطياف المعارضة… وحتى النظام أيضاً. على رغم أنها مهّدت لديبلوماسيتها برسائل إلى جميع المعنيين بالأزمة: فرضت حل ميليشيات «الدفاع الوطني» التي رأى إليها كثيرون في الداخل والخارج الذراع الرئيسية لإيران، والبديل المقبل من المؤسسة العسكرية. ونشطت في إعادة تأهيل القوات النظامية. أراحت جموع أهل الساحل وطمأنتهم إلى المستقبل والمصير. سيتضاءل تعلقهم بالرئيس بشار الأسد الذي ولّد تسليمه القياد لـ «الحرس الثوري» وحلفائه في إدارة البلاد والعباد بعد المعارك، استياء وغضباً. ستتراجع هيبته أكثر عندما يُلزمه الحل بالتنازل عن صلاحياته الشاملة وإشراك الآخرين. كما أن هذه الإجراءات تخفف من وطأة اليد الإيرانية، وتضع اليد الروسية فوقها. وفي ذلك بعض الاطمئنان للأقليات، ولأهل السنّة ومن يساندهم في دول الجوار. بل لعل ذلك يستجيب رغبة كثيرين من المتصارعين على الأرض السورية، ما دام أنه يؤدي إلى منع انهيار المؤسسات أو ما بقي منها كما حصل في ليبيا والعراق.
صحيح أن تدخل روسيا فرض وقائع جديدة، لكن الصحيح أيضاً أن خصومها يتكيفون سريعاً مع هذه القواعد: مزيدٌ من العتاد والأسلحة الفعالة لفصائل المعارضة. وسياسة جديدة لواشنطن في التعامل مع عدد من الفصائل وقادتها بديلاً من برنامج التدريب الفاشل، واعتمادها خططاً مختلفة للتعامل مع «داعش». هذا التحول يشي بأن الانكفاء الأميركي ليس غياباً كلياً. ولم يقفل البابَ أمام خيارات لن تسمح لروسيا بضرب ميزان القوى على الأرض السورية والإخلال به لمصلحة الأسد، والاستئثار تالياً برسم النظام الإقليمي. إلا إذا برهن بوتين على أن «تحالفه» في قتال الإرهاب أكثر نجاعة من «تحالف» أوباما. وأثبت أن نموذجه «الديموقراطي» في روسيا يصلح لبلاد الشام ولأهل الإقليم عموماً حيث عجزت أو فشلت النماذج الأخرى: النموذج الأميركي في الشرق «الكبير»، والنموذج الإيراني في العراق وسورية واليمن، والنموذج الغربي عموماً في أفغانستان وليبيا أيضاً، وحتى نموذج «العدالة والتنمية» الأردوغاني… علماً أن ما حل بجورجيا وأوكرانيا لا يبشر بخير كثير. هناك اكتفت موسكو بما اقتطعت، واكتفى خصومها بحصاد الفوضى، وبالتنديد الذي لا يسمن ولا يغني! لن يكون الانتظار طويلاً لترى إدارة أوباما وشركاؤها ما بقي في جعبة بوتين من مفاجآت.

إنها أكبر… إنها أخطر
غسان شربل/الحياة/12 تشرين الأول/15
هذه ليست مجرد مبارزة بين فلاديمير بوتين وأبو بكر البغدادي. ليست مجرد معركة لضمان موقع روسيا في سورية. ليست مجرد محاولة للاحتفاظ بوجود عسكري على شاطئ المتوسط. ليست مجرد عملية تتعلق بحسابات النفط والغاز والأنابيب والممرات. إنها أكبر. إنها أخطر.
هل ترانا نبالغ إذا قلنا إن التدخل العسكري الروسي في سورية بذيوله الإقليمية والدولية أخطر من هجمات 11 أيلول (سبتمبر). وإن إطلالة بوتين الجديدة عبر الصواريخ التي أطلقتها البوارج الروسية من بحر قزوين لا تقل خطورة عن إطلالة البغدادي من الموصل. وإن ما ألحقته صواريخ البوارج بصورة أميركا في المنطقة والعالم لا يقل عما ألحقته طائرات بن لادن بالبرجين. ففي الهجومين كانت هيبة أميركا هي الهدف الأول حتى ولو تغطى الهجوم الروسي بلافتات أخرى. من المبكر المسارعة إلى عقد المقارنات بين قرار جورج بوش الذهاب إلى الحرب رداً على جرح نيويورك وقرار بوتين الذهاب إلى الحرب دفاعاً عن مصالح بلاده وصورتها وسعيه إلى تعزيز موقعها. لم نصل بعد إلى تلك المرحلة. وأغلب الظن أن بوتين لا يريد تكرار خطأ بريجنيف في أفغانستان وخطأ بوش في العراق. لكن التجارب تقول إن أرض المعركة قد تفاجئ أبرع الجنرالات وما دبجوه على الخرائط في غرف العمليات.
حين أعلن البغدادي «دولة الخلافة» لم يتوقع أن تنهمر عليه باقات الورود والتهاني وأن يتسابق السفراء لتقديم أوراق اعتمادهم. كان يعرف أن دولته انتحارية. وأن إعلانها على أجزاء من خريطتين يشكل أوسع عملية انتحارية في التاريخ المعاصر. يرجح أن البغدادي حلم بما تعذر على أسامة تحقيقه وهو استدراج الآلة العسكرية الأميركية إلى مكان يتعذر فيه الانتصار واستنزافها ثم إرغامها على المغادرة مثخنة كما حل بـ «الجيش الأحمر» السوفياتي. اعتبر بوتين المحنة السورية فرصة كبرى لاستنزاف هيبة أميركا. شهر سيف الفيتو في مجلس الأمن. لن يسمح بتكرار ما يعتبره «الخديعة الليبية». أصيب الرئيس الأميركي المتردد بهاجس الابتعاد عن النار السورية. حين يطالب رئيس القوة العظمى الوحيدة رئيساً أن يرحل ولا يملك إرادة إرغامه وحين يضع «خطاً أحمر» ويتجاوزه المستهدف، يخسر صاحب الإنذار سريعاً معركة الهيبة والصورة. خدعه القيصر في محطة مفصلية. حين اكتفى أوباما بنزع السلاح الكيماوي من يد النظام السوري من دون اشتراط أن يتضمن الحل إطلاق مرحلة انتقالية سلّم عملياً ببقاء النظام. وحين يوافق أوباما على معاملة إيران وكأنها دولة كبرى في مفاوضات الاتفاق النووي، لماذا لا تتقدم روسيا للثأر من الإذلال الأميركي الطويل لموقعها وأسلحتها.
بدا الرئيس الأميركي المتردد مربكاً لحلفائه وحليفاً لأعدائه. قرأ بوتين المشهدين الدولي والإقليمي وسدد ضربته. لا يريد أوباما إنهاء إقامته في البيت الأبيض مستقبلاً جثث الجنود العائدة من الشرق الأوسط. أربع سنوات من الحرب في سورية أظهرت حدود الدور الإيراني وطابعه غير الحاسم. تركيا انزلقت إلى حرب على أراضيها والإرهاب نقل النار إلى الدار. وسلوك تركيا أقل بكثير من تهديدات سلطانها. السعودية منشغلة بحربها في اليمن وروسيا بادرتها بسلوك إيجابي في مجلس الأمن. أما أوروبا فمرتبكة بأمواج اللاجئين المرشحة للازدياد. سدد بوتين ضربته.
المسألة أكبر من إنهاء البغدادي ودولته. وأكبر من تحديد مصير الرئيس بشار الأسد ونظامه. وأكبر من تحويل الهلال الإيراني هلالاً روسياً – إيرانياً. إنها عملية انقلاب واسع على التوازنات التي قامت على ركام الامبراطورية السوفياتية. إنها عملية ثأر من أميركا التي انتزعت لقب القوة العظمى الوحيدة من دون أن تطلق رصاصة. وثأر من حلف الأطلسي الذي حرك بيادقه في اتجاه حدود الاتحاد الروسي. ثأر من سياسة التأديب والعقوبات والثورات الملونة والمجتمع المدني.
ليست مجرد معركة في سورية. وليست مجرد معركة على سورية. إنها معركة تسديد حسابات تؤثر نتائجها على ميزان القوى الدولي وملامح الشرق الأوسط ودوله وخرائطه وأقلياته. يستطيع بوتين تعديل ميزان القوى على الأرض لمصلحة النظام. الحسم الكامل متعذر وباهظ. يقدم سريعاً تصوراً لحل شبه مقنع أو يغرق تدخله في «سوريستان». لم يترك لخصومه خيارات كثيرة. سيتدفق السلاح والمقاتلون. وسيتردد صدى المعارك لدى مسلمي الاتحاد الروسي وجواره. سورية فرصة الثأر قد تتحول سريعاً سورية المستنقع التي تهدد باستنزاف القيصر وبلاده.
الشرق الأوسط في أحلك أيامه. دول خائفة. وخرائط قلقة. أكثرية متوجسة. وأقليات مذعورة. دوله الرئيسية تتعرض لاستنزاف غير مسبوق يعني سلامتها ودورها واستقرارها. تحارب خارج حدودها أو داخلها.
وسط بحيرات الدم أطل القيصر وسدد ضربته. بين المغامر والمقامر خيط رفيع. يفرض سريعاً حلاً شبه معقول في سورية أو يغرق مع البغدادي في «سوريستان».