وليد شقير: زبالة لبنان والشراكة الإقليمية/حسام عيتاني: لبنان: النظام سيّس التحرك/روزانا بومنصف:هل ما يُدبّر تحت طاولة التحرّك الشعبي/إيلـي فــواز: ثورة لن يكتب لها النجاح

471

 زبالة لبنان و «الشراكة» الإقليمية
وليد شقير/الحياة/28 آب/15

يختلط الحابل بالنابل في لبنان، بين الأزمة السياسية التي عنوانها الرئيس الشغور الرئاسي، والذي يختزل عناوين وعوامل لا تحصى، وبين الحراك الشبابي الاحتجاجي على أزمة النفايات، والذي تدحرج وكبر مثل كرة الثلج ليشكل تعبيراً عن سخط المواطن اللبناني العادي على فساد الطبقة السياسية وعجزها واستئثارها بمقدرات البلاد من طريق المحاصصة الطائفية البغيضة، والتي تبرر آلياتها لفريق من هذه الطبقة شل المؤسسات وتعطيلها. لكن هذا الاختلاط يبخس الحركة الاحتجاجية الشبابية أحقيتها في الاعتراض والتظاهر ورفع الصوت إزاء التدهور الذي أصاب الأوضاع المعيشية للمواطنين، الذين تراجع مستوى حياتهم اليومية وخدمات الدولة التي يفترض أن تقدمها لهم، وصولاً إلى إغراقهم في النفايات وتحويلهم إلى قبائل تتزاحم على رفض مناطقهم استقبال الزبالة حتى تلك التي ينتجونها في منازلهم ليرموها على مناطق أخرى. هذا التردي أصاب القطاع الاقتصادي الخاص نتيجة تفاقم الأزمة السياسية والقلق من تراجع الأمن بفعل فتح الحدود مع سورية الذي استجلب التنظيمات الإرهابية والنازحين بمئات الآلاف منها ليقاسموا اللبنانيين الخدمات والعمل، بحيث ضاقت بهم سبل العيش وازدادت أسباب البطالة نتيجة تراجع النشاط الاقتصادي، فكبر جيش العاطلين عن العمل. وهي عوامل تجعل انضمام المواطنين العاديين إلى الحركة الاحتجاجية المنبثقة من المجتمع المدني، مفهوماً ومنطقياً، خصوصاً أن بين المنضمين إليها من ينتمون إلى أحزاب وزعامات طائفية هي أصل العلة التي أطلقت الاحتجاج الشبابي. وعلى رغم الاعتقاد بأن النظام الطائفي سيعيد من انضموا للحركة الاحتجاجية، إلى كنف الزعامات التقليدية، فإن التمرد الذي دفع منتمين إلى هذه الزعامات للمشاركة في الاحتجاج، لا بد من أن ينشئ بالتراكم، قلة فاعلة ستنسلخ عن هذا الولاء الأعمى، على رغم قول رئيس البرلمان نبيه بري قبل أيام أنه «لولا الطائفية في لبنان لكان المحتجون سحبونا من منازلنا»، مبرراً للمحتجين تحركهم، ومتوقعاً أن تحول غلبة الانتماء الطائفي دون أن تكتمل ثورة الناس على زعاماتها.
لا يُنقِصُ سعي قوى سياسية وطائفية إلى ركوب «الانتفاضة» القائمة، ومحاولة توظيفها لخدمة أهداف هذا الفريق أو ذاك من أطراف أزمة الرئاسة اللبنانية، من براءتها حيال تلك الأهداف، التي لها أبعاد إقليمية. ولا تقلّل محاولة التوظيف هذه من معقولية وصف البعض ما يجري بأنه «ربيع بيروت» مصغر، أو تشبيه الـ «ميني انتفاضة» بتلك التي شهدها العراق خلال الأسبوعين الماضيين، على رغم الفروقات بين ظروف البلدين وفي الأحجام السياسية والاقتصادية. ولا تكفي الحاجة إلى أن يوحّد الشباب المحتجون قيادتهم وشعاراتهم بحيث تكون واقعية وتجمع أوسع شرائح من المجتمع، أنهم يستندون إلى أسباب جوهرية وموضوعية منزّهة عن مصالح الطبقة السياسية. إلا أن الخيط الرفيع الذي يحتم التداخل بين تلك الحركة الاحتجاجية المستقلة وبين عوامل الأزمة السياسية التي يلخصها الشغور الرئاسي وما استتبعه من شلل في المؤسسات، يبقى قائماً لأن بإمكان الفرقاء الذين ينوون ركوب الموجة أن يجعلوا من انضمامهم إليها ومصادرة شعاراتها، على رغم أن بعضها كان موجهاً ضدهم، منصّة تحرفها عن أصولها.
فمن اتخذ قرار شلّ السلطة المركزية في لبنان، عبر الحؤول دون انتخاب رئيس للجمهورية، إذا لم يضمن مجيئه من توجه إقليمي معين، وضع في حسابه إمكان استغلال المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإدارية والتباينات على تفسير الدستور، من أجل الحؤول دون أن يتصدى ما تبقى من هذه السلطة لتلك المشاكل لإغراقه فيها. وإذا كان المخفي وراء الشغور الرئاسي هو الصراع على من يملك القرار في لبنان، في إطار الصراع الإقليمي على النفوذ قبل الاتفاق على النووي وبعده، فإن رفع شعار «الشراكة» في اتخاذ القرار داخل الحكومة اللبنانية، بعد تعطيل اتخاذه ومعالجة أصغر المشاكل وأكبرها، سواء كانت تتعلق بالنفايات، أو بعلاقات لبنان الإقليمية، يصبح حافزاً لركوب التحركات الاحتجاجية في ظل الفوضى التي تدب في البلد على كل المستويات، بعد أن غاب الانتظام العام للحياة السياسية ودور الدولة في تنظيم شؤون المجتمع. هكذا، يمكن أن تصبح قضية «الزبالة» في الشوارع وما تطلقه من تفاعلات، جزءاً غير مرئي من مرحلة الصراع على تقاسم النفوذ في لبنان، في مرحلة ما بعد الاتفاق على النووي، على الصعيد الإقليمي. علمتنا مرحلة الوصاية السورية، وأي وصاية في أي بلد، أن من وسائل ترسيخها ترك السلطة فيه تغرق في المشاكل الحياتية والمعيشية والسياسية، حتى إذا احتاجت إلى مساعدة في معالجة تداعياتها، دفعت ثمناً مقابلاً في السياسة… وشعار «الشراكة» هو حصان هذا الثمن، والمساهمة في الفوضى احدى وسائلها.

لبنان: النظام سيّس التحرك
حسام عيتاني/الحياة/28 آب/15
عاين اللبنانيون مرة جديدة في أزمة النفايات المتفاقمة، الارتباط الوثيق بين السياسة وبين الشأن الحياتي والادارة العامة.حصر منظمو التحرك المطالب بحل الازمة، مجموعة «طلعت ريحتكم»، دعوتهم بحل من ضمن آليات العمل الحكومي ومؤسسات الدولة. عندما فاجأهم رد القوى الامنية القاسي في ليلة تظاهرتهم الكبيرة الاولى (السبت 22/8) افلت منهم شعار «الشعب يريد اسقاط النظام» كمن تفلت منه شتيمة مقذعة في لحظة غضب. تراجع المنظمون عن الشعار لكن «النظام» لم يقبل التراجع ولا الاعتذار وأبى إلا ان يحضر بقوته العارية خصماً مباشراً للمنظمين، الذين اسقط في ايديهم فأعلنوا في اليوم التالي انسحابهم مدة اسبوع من الشارع. لا مزاح اذاً مع «النظام» الذي يأخذ كل تحرك من خارج آلياته وانقساماته الداخلية على محمل شديد الجدية ولا يتأخر عن قمعه وتمزيقه واختراقه بكل الوسائل الممكنة. ادرك القائمون على النظام منذ اللحظات الأولى للتحرك طابعه الشامل واستحالة الفصل بين المطلب الحياتي بتنفيذ الدولة أقل واجباتها برفع النفايات وبين السؤال السياسي حول مستقبل النظام المأزوم والقلق.
لوم المنظمين لرفعهم شعارات سياسية جاء الرد عليه من «النظام» نفسه في اليوم التالي، عندما كشفت المناقصات التي أجريت للشركات الراغبة في جمع النفايات عن التداخل العضوي بين السياسيين الممثلين في الشركات عبر وكلائهم وبين الفساد المتمثل في أسعار خيالية لعمليات الجمع. الشركات تتولى الجمع فقط من دون المعالجة التي ستبقى مسؤوليتها على الدولة. أي ان الشركات – السياسيين سيحصلون على لبّ الثمرة المفيد ويرمون قشرها للدولة لتتولى حل مشكلة التخلص من النفايات وهي صميم الأزمة الحالية، بسبب الافتقار الى الاماكن المخصصة للطمر او الحرق او المعالجة الحرارية. لا فكاك من ارتباط الشأن المعيشي البسيط في لبنان، بالشأن السياسي. ولا فكاك من ارتباط السياسة بالفساد وبنهب المال العام. ومن يقرأ دستور ما بعد اتفاق الطائف يرى بجلاء أن مأسسة النفوذ الطائفي أعمق من ان تترك مسألة خارج سيطرتها، فما بالك في مسألة تدر عشرات ملايين الدولارات على المتنفذين والسياسيين من كل الانتماءات والطوائف الكريمة؟فضيحة فض المناقصات كانت أكبر من ان تحتملها الحكومة رغم تورط اعضاء بارزين منها في فصولها. ألغت الحكومة المناقصة لتصطدم من جديد بجدار النفايات الأكثر ارتفاعاً من ذلك الذي نصبته ليوم واحد امام مقرها في وسط بيروت. الكارثة تتلخص في وقوع ازمة النفايات على ازمة النظام برمته، وفي اصرار الجماعة السياسية الحاكمة على التمسك بأساليبها في تقاسم العائدات وتوزيع الحصص بعيداً عن أي رقابة. مجلس النواب الذي يفترض ان يمثل الشعب، معطل وشمله التقاسم السلطوي منذ زمن بعيد ولم تعد له قيمة تذكر في الرقابة على السلطة التنفيذية. كذلك الأمر بالنسبة الى هيئات المحاسبة الرسمية المفترض بها الحفاظ على انتظام العمل الاداري. تقاسم مؤسسات الدولة افضى بها الى «توازن رعب» يشلّ كل عمل اصلاحي بذريعة انه موجه ضد هذه الطائفة او تلك والمحسوبين عليها. عليه، تبدو الأمور مقلوبة. فليس المنظمون من «سيّس» التحرك وطرح شعارات اكبر من قدرته على تحقيقها. بل أن «النظام» تدخل بوسائله المعروفة للحيلولة دون تغيير آليات الحكم على رغم تهالكها وتفككها اليومي، تماماً مثلما تتحلل النفايات تحت شمس آب (أغسطس) الحارقة.

هل ما يُدبّر تحت طاولة التحرّك الشعبي؟ شكوك تتعاظم حول أجندة داخلية – إقليمية
روزانا بومنصف/النهار/28 آب 2015
ثمة اقرار بأمرين يكاد يجمع عليهما السياسيون من مختلف الاتجاهات: احدهما ان التحرك الشعبي الذي انطلق في ساحة رياض الصلح بسبب موضوع النفايات هو موضوع محق بحيث تسابق واضطر الجميع الى تبني الصرخة التي اطلقها الناس ولو صاحبها استغلال سياسي وترهيب امني فضلا عن ترهيب شارعي من بعض الجهات حاولت توظيف التظاهرات المطلبية اما من اجل تخريب وسط العاصمة او من اجل توجيه رسائل سياسية في اتجاهات معينة. ويقول احد الوزراء بان القضية محقة في حين ان محاميها كان فاشلا نتيجة خطأ تداخل الشعارات ببعضها وتضييعها عن اهدافها فضلا عن سوء التنظيم الذي ادخلها في متاهات حساسة. والاقرار الآخر ان الحكومة ارتكبت اخطاء جسيمة في فترة زمنية قصيرة جدا لا تتعدى الايام القليلة ان في مقاربة ملف النفايات التي اظهرت فيه تخبطا وعشوائية لا تختلف عن تخبط المتظاهرين في ساحة رياض الصلح او في الملف الامني المتصل بهذه التظاهرات. يضاف الى تخبطها في الخلافات السياسية بين مكوناتها تحت عناوين دستورية تتصل بآلية مجلس الوزراء في حين ان المطالب الحقيقية في مكان آخر ولو ان موضوع الآلية بات عنوانا خلافيا انضم اليه “حزب الله” تضامنا مع حليفه العوني. وهذا لا يخفي تخبطا في المقابل في كل من فريقي 14 و8 آذار ولو تم السعي الى لملمته نسبيا في الجلسة الاخيرة لمجلس الوزراء بتضامن المردة والطاشناق الى جانب “حزب الله” مع التيار العوني في مقاطعة الجلسة الاخيرة. في حين برز فاضحا تخبط كتلة المستقبل في المساعدة لمعالجة موضوع النفايات وارسالها الى منطقة عكار ما استفز نوابها اعضاء الكتلة الذين تصرفوا بدورهم بانفعال بالغ.
على رغم انطلاق مساع في اليومين الاخيرين لإيجاد تسويات تحفظ ماء الوجه للجميع وتستوعب مطالب التيار العوني فتحول دون مساعيه لتوظيف موجة التظاهرات المدنية المرتقبة يوم السبت ضد ما يقول انها “الاكثرية الحاكمة” وكذلك مساعي الحزب الذي تعهد بدعم حليفه في الشارع ولو انه يعلن حرصه على عدم سقوط الحكومة، لا اطمئنان فعلياً او كلياً الى عدم وجود نيات مضمرة او اجندات خفية محلية واقليمية من وراء التظاهرات المرتقبة. فالدلائل كانت كثيرة وواضحة أظهرت تورط افرقاء متصلين بفريق 8 آذار ولو نفى الحزب ذلك في محاولة استفزاز القوى الامنية ومحاولة اشعال وسط بيروت. ينطلق السؤال البديهي بالنسبة الى اصحاب الشكوك من واقع الى اين يريد “حزب الله” وحليفه العوني الوصول في هذه التظاهرات؟ هل هي للضغط على الحكومة بسبب المراسيم التي وقعت ام هي تغيير الآلية المعتمدة في مجلس الوزراء او الى ما قد يدفع بالرئيس تمام سلام الى عدم القبول به ما يؤدي الى استقالته ما يفتح الباب امام احتمالات مختلفة ؟ فاذا كان من هدف حقيقي لتظاهرات يستفيد منها من قوة حليفه في الشارع فانما يفترض ذلك وجود هدف اكبر ليس بالتأكيد الفوضى الشاملة بل قد يكون محاولة الضغط من اجل انتخاب عون رئيسا بعدما يئس من امكان التوافق سياسياً على انتخابه وتالياً السعي الى قلب الطاولة من اجل محاولة تحقيق ذلك وانتزاعه قسرا تحت وطأة ضغوط دولية تمارس من اجل منع الذهاب الى فوضى كبيرة. في موازاة ذلك ليس خافيا الربط الذي تحدثه مصادر عدة بين ما يجري في المنطقة وانعكاسه على لبنان وحتى بين ما يجري في ايران نفسها بين التيار المتشدد والتيار الاقل تشددا الممثل بالرئيس حسن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف الذي زار لبنان اخيرا. فلبنان من ابرز من يعاني من كل العوارض التي تلم بدول المنطقة وصراعاتها. ومع ذلك فان هناك من لا يستبعد على رغم الاعتقاد بجدية ان الحزب قد لا يكون في وارد الاعداد لعملية ما تحت الطاولة بذريعة المطالب التي يرفعها عون وصولا الى الشارع بدليل مساعيه مع بعض القوى السياسية لمحاولة اعطاء زعيم التيار العوني ما يساهم في استيعابه بان الثقة غير موجودة فعلا وان الشكوك في النيات مبني على التخوف من وجود اجندات اقليمية تستخدم لبنان ايضا من ضمن استخداماتها لساحات او دول اخرى. يسأل هؤلاء هل دينامية التظاهرات ستقتصر على ما يقوم به هذا الفريق ام يفسح المجال امام دينامية مقابلة قد لا تبقي الامور ممسوكة او من ضمن النطاق المقبول على غرار الاستعدادات في المناطق التي استفزتها الشعارات ضد رئيس الحكومة او محاولة التعدي على السرايا الحكومية؟ ولا يركن اصحاب هذه الشكوك كذلك الى مساعي بعض السفراء الى تهدئة الصراع السياسي القائم تحت عنوان اولوية الحفاظ على الاستقرار في هذه المرحلة والحرص على الحكومة. فالدول المؤثرة المنشغلة بأولويات اخرى لا يقع لبنان من ضمنها ومن السهل عبر التجارب التي عاشها لبنان ان تتغاضى عن امر واقع يفرض فجأة في حال لم يتخط حدوداً حمراً معينة خصوصاً ان المسألة ملتبسة ظاهرياً ولا تقع بين “حزب الله” وتيار المستقبل او بين 8 و14 آذار بل انها بين طرف يشكل رأس الحربة فيه ظاهراً فريق مسيحي مدعوم من “حزب الله” يتصدى لفريق اكثري عنوانه رئيس الحكومة والتيار الداعم له ويضم افرقاء مختلفين. ولكن الخشية الفعلية من ان لا تصح حسابات الحقل على حسابات البيدر احيانا.

ثورة لن يكتب لها النجاح
إيلـي فــواز/لبنان الآن/27 آب/15
ليس هناك من ثورة دون أفكار واضحة. وليس هناك من ثورة دون قيادات جذّابة. ولا تكون ثورة دون كتابات وافرة. تقول هيلين كاريير دانكوس، من الأكاديمية الفرنسية، والمتخصّصة في شؤون روسيا، في كتابها الضخم عن لينين، إنّه يوم اندلاع الثورة الروسية كان حزبه بالكاد يشمل بضعة آلاف، ومع هذا انتصرت اللينينية على كل التنظيمات الأخرى، وبعضها كان يناضل من أجل قلب النظام القيصري. هذا يعود، تقول دانكوس، إلى عبقرية لينين الذي أوجد نظاماً سياسياً لا مثيل له في عصرنا. وما يصح في ثورة البلاشفة يصح في الثورة الفرنسية وفي كل الثورات الناجحة. هذا للأسف غير متوافر في الحراك الشعبي الذي تشهده بيروت. ثم ليس هناك من ثورة في ظل انقسام طائفي ومذهبي حاد واضح وصريح بين أفراد المجتمع الواحد. محاولة المجتمع المدني الإعتراض على آداء الطبقة السياسية هي أكبر من صرخة، ولكن أقل من ثورة. فهذا الحراك لا تتوفر فيه أفكار واضحة تتحدث عن حلٍّ ما. وهذا الحراك ليس له أهداف واضحة أو شعار واحد، وليس له قيادة لتوجهه من أجل الانقلاب على السلطة وإمساك زمام الأمور برحيل النظام في حال نجاح الثورة.
بعض الشعارات التي رُفعت في إسقاط النظام مثلاً فيها شيء مضحك. فلبنان بلد لم يعد فيه نظام أو مؤسسات. إنّه بلد تجتاحه فوضى مضبوطة حتى يومنا من قبل الجهاز الأمني المشترك اللبناني- الإيراني المتمثّل بحزب الله. فوضى يسعى الحوار بين المكوّنات السنّية المتمثلة بتيار المستقبل والشيعية المتمثلة بحزب الله إلى تنظيمه، في محاولة لإبعاد نار الحرب المذهبية المستعرة من حولنا. ثم بالرغم من غضب البعض لما آلت إليه أوضاع البلد، فالشعب اللبناني قد اختار بصراحة الطائفية على المواطنية، هذه الطائفية التي ستقف عائقًا في وجه أية ثورة مهما كانت مطالبها محقّة. فالطائفة الشيعية عبّرت عن موقعها وتحالفاتها بدءاً من “شكراً سوريا”، مروراً بـ 7 أيار، ووصولاً إلى المشاركة في الحرب السورية. الطائفة ومصالحها تتقدم على الوطن ومصالحه.
المسيحيون هم أيضاً اختاروا موقعهم بوعي ودقّة، بدءاً من تفاهم مار مخايل وتغطية سلاح حزب الله، مروراً بـ”الإبراء المستحيل”، وصولاً إلى القانون الانتخابي الأرثوذكسي. أما السنّة فيدفعون ثمن خيار تمسّكهم بالطائف فيما هناك من يدعوهم يومياً الانضمام إلى الحركات المتطرفة التي تغزو فضاءنا. ومن هنا فإن أي اشكال يعترض الوطن لا يُنظر إليه إلا من خلال الشعور المذهبي المشتعل القائم اًساساً على أن السُنّة والشيعة أعداء، والمسيحيين ضحايا. اللبنانيون كان لهم ثورتهم في العام 2005. حراك 14 آذار أخذ الجميع على حين غفلة. الجميع كان مرتبكاً، أميريكيون، سوريون، وإيرانيون. كان لتلك الثورة أن تخلع من مناصبها كل الذين رفعت صورهم في ساحة الحرية اتّهاماً، وتعيد إنتاج سلطة لا وجود لرموز سوريين فيها. فشلت الثورة عندما قيل للمتظاهرين إنّ ساكن بعبدا رمزاً مارونياً لا يمكن ان يسقط.
ولهذا السبب ستفشل كل ثورات لبنان.

 

محاولات متظاهر فاشل
حـازم الأميـن/لبنان الآن/28 آب/15
على المرء أن يُمارس قدراً هائلاً من ضبط النفس إذا ما قرر المشاركة في تظاهرات وسط بيروت، وذلك تجنّباً لقرار حكيم يتخذه بمغادرة التظاهرة والعودة إلى المنزل. فالمشاركة نوع من التهوّر، وتمرين على مدى قدرة المرء على أن يتجاوز نفسه. نفسه التي مضى عليها عقود طويلة لم تألف خلالها أن تشارك في تظاهرة إلى جانب شربل نحاس ونجاح واكيم وزاهر الخطيب… وعصام نعمان، نعم عصام نعمان! هل تذكرونه؟ كان إلى جانبنا بالأمس في التظاهرة. عليك أن تجيب المنادي الذي في داخلك بعبارة: لا بأس، فقد سبق لنفسك الكريمة أن جاورت شخصيات مشابهة في النصف الآخر من المجتمع ومن الطائفة. وعليك أن تُنبهها بأن لا تكون أمّارة بالسوء، وأن صديقيك روجيه عوطة وعليا كرامي يراقبانها. ثم عليك أن تستعين عليها بخيباتك من “14 آذار”. الخيبات التي بدأت تتراكم منذ اليوم الأول من التظاهرة ومن تشكّل هذه الجماعة. أنت الآن تتظاهر ضد نفسك، وضد انعدام أخلاقك، وهذا تمرين قاسٍ عليك أن تمارسه، وأن تعتبره نوع العقاب الذي لا بد منه لكي تستعيد توازناً أفقدتك إياه الخيبات. لكن يا أيتها النفس “غير المطمئنة” والهاربة من صاحبها، إلى أين تتجهين؟ إلى نجاح واكيم وشربل نحاس وزاهر الخطيب؟ كم يبدو حظِك عاثراً. فها أنتِ هاربة من صبية غازي كنعان إلى صبية رستم غزالة… رحمهما الله! “التظاهرة ليست هؤلاء أجابت ريان ماجد. عليك أن تُشيح بوجهك عنهم”. وها أنا قد أشحت بوجهي عنهم، فشطبت وجهي لافتة عُلّقت باسم المجتمع المدني تدعو إلى “حكومة عسكرية” انتقالية تتولى تنظيم انتخابات نيابية تعقبها انتخابات رئاسية… فحكومة جديدة. واللافتة غير موقعة من قبل التيار العوني. قد تساعدك على ضبط نفسك أثناء تجوالك في أنحاء الاعتصام رائحة الصفقة الفاشلة المنبعثة من السراي القريبة، والجدار الغبي الذي باشر رجال الأمن بإزالته. تحضرك في هذه اللحظة تجربة فشل مشابهة. في 14 آذار 2006، أي بعد مرور عام واحد على مشاركتك في التظاهرة الأولى، قررت أن تشارك على رغم أن القناعة كانت تعرضت لاهتزازات جوهرية. حينها كان من بين المتظاهرين من رفع صوراً لصدام حسين، ومن بينهم أيضاً من كان يهتف “الدم السنّي عم يغلي يغلي”. حينها غادرت التظاهرة وكتبت التزاماً بأن لا تشارك في المرة المقبلة. وحينها أيضاً جاء من يقول لك أن هؤلاء ليسوا كل التظاهرة. لكن السنوات اللاحقة والتظاهرات اللاحقة لم تساعدهم بما يقولون. لا شك في أن المشاركة اليوم تنطوي على عنف ممارس على النفس يفوق العنف الذي مارسته القوى الأمنية على المتظاهرين. لكن لا بأس أيها المواطن الجديد. استمر في التقدم، ففي نهاية الجمع، هناك في محيط التمثال يقف من يشبهك. في وجوههم مخاوف تشبه مخاوفك. ناشطون خائفون من محاولة ميشال عون، وبمساعدة من أنصار “حزب الله” في التظاهرة، أكل التحرك وتوظيفه في خطته للوصول إلى كرسي الرئاسة عبر فراغ ناجم عن احتمال سقوط الحكومة. أنت الآن بين خوفين. الخوف من الصفقة في السراي، والخوف من فراغ يملأه ميشال عون. أي من الكارثتين عليك أن تختار؟ ديما كريم قالت لي إنها لا تعتقد أن العونيين سيتمكنون من ابتلاع التظاهرة، وأن الناشطين طردوا الوزير العوني الياس بو صعب عندما جاء للمشاركة. لا بأس إذاً سأصدّقها.