رضوان السيد: إيران: عروض حسن جوار وإصرار على القتل والتهجير/نوح فيلدمان: داعش والعودة إلى زمن العبودية/نديم قطيش: العراق.. صحوة الشيعة العرب

333

إيران: عروض حسن جوار.. وإصرار على القتل والتهجير!
رضوان السيد/الشرق الأوسط/21 آب/15
لا داعي للحيرة بشأن عروض إيران للتقارب مع دول الجوار العربي، لا قبل الاتفاق النووي ولا بعده. إنّ المفروض أنّ دول مجلس التعاون الخليجي تملك موقفًا موحَّدًا من العلاقات مع إيران ومتطلباتها وإشكالياتها. ولذلك ما كان ينبغي أن تثير زيارة وزير الخارجية الإيراني للكويت وقطر هذه الحيرة، وهذا التردد. يستطيع أي مسؤولٍ خليجي – أو هكذا أرى على الأقل – أن يقول للإيرانيين إنه بعد هذه السنوات الطوال من الوقائع السلبية من جانب إيران تجاه العرب، يكون على الإيرانيين أن يقدموا دلائل أولية على الأقل عن إرادة التغيير، بحيث يصدّق العرب أنّ هناك إرادة لذلك، فيلتقون معهم للمضي في أمرين: المشكلات المعقَّدة من أجل النظر في فك العُقَد في مدى قصير أو متوسط، والنظر في المساحات التي تسمح بإقامة علاقاتٍ جديدة لا تُرهقها مصائبُ الماضي القريب أو البعيد. هناك مسائل واضحة في طبيعتها التدخلية والعدوانية، وتستطيع إيران بالفعل أن تُمهّد لإمكانيات التفاوُض البنّاء بها. أولى هذه المسائل استمرار العدوان الصريح على أمن البحرين واستقرارها. وثانية هذه المسائل الارتهان التخريبي للبنان رئاسة وحكومة في حين أنه لا داعي لذلك غير محاولة الإخضاع المطلق للعرب في المسألة السورية. وثالثة المسائل: وقف الحوثيين عن الحرب العبثية التي تدمِّر اليمن وتدمِّرهم هُم. وكنتُ أستطيع بالطبع أن أذكر مسائل أخرى، لكن اعتبرتُها مركَّبة أو معقَّدة وتحتاج لمفاوضاتٍ وتواصُل. أمّا أن نجلس الآن مع الإيرانيين لنتفاوض على استقلال بلداننا، وأمنها من ميليشياتهم فهذا انتحارٌ لا يمكن أن يخوضَ فيه عاقل.
لماذا أرى أنه لا تغيير في السياسات الإيرانية تجاه العرب بلدانًا وشعوبًا ودولاً، بل ودينًا؟! الوقائع التالية التي حدثت خلال هذا الأُسبوع، أي عندما كان الإيرانيون يشنُّون علينا حملة سلامٍ بزعمهم: أولاً: انكشاف الشبكة التخريبية بالكويت. والكويت دولة مُسالمة وتُحاول بكلّ سبيلٍ أن تتجنب المشاكل مع إيران. وقد زار أمير الكويت إيران في شتّى الظروف وأسوئها، وقدّم عروضًا ما لقيت تجاوُبًا. وعندما فجّر إرهابي أحد المساجد الشيعية بالكويت قبل أسابيع، هبَّ الشعب الكويتي عن بكرة أبيه، لاستنكار الجريمة. ومع ذلك فكلما أراد الإيرانيون إرسال رسالة تهديد لعرب الخليج، يأتي مسؤول إيراني للكويت ويطلق من هناك التصريحات العدوانية. إنّ ذلك كلَّه وعبر عشرين عامًا وأكثر، ما منع الإيرانيين وميليشياتهم في لبنان والخليج من التخطيط والإعداد دائمًا للضرب في أمن الكويت، وليس البحرين فقط. وفاعلُ ذلك في حالة الكويت بالذات، كيف يُصدَّقُ أنه يريد علاقات حسن جوار؟!
ثانيًا: اندلعت قبل أسبوعين مظاهرات شعبية في مدن العراق الشيعية الغالبية، وبخاصة في بغداد للمطالبة بخدمات الكهرباء والماء المفقودة بعد ثلاثة عشر عامًا على سقوط حكم صدّام حسين، وسيطرة أنصار إيران على نظام الحكم هناك. بعد الماء والكهرباء في هذا الصيف الخانق، طالب المتظاهرون بمكافحة الفساد المستشري الذي أكل كلَّ ثروات العراق خلال قرابة عقدٍ ونصف (تريليون دولار). ومن الطبيعي أن تتجه حملات المطالبة إلى الحكومة والبرلمان. وقد تردد العبادي ثم أقدم، وتلقّى البرلمان كُرة العبادي وتابعها. ولكي لا نمضي في سرد التفاصيل؛ فإنّ رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، المتهم الرئيسي بالفساد المالي والسياسي، عندما وجد أنّ الاتهامات كلَّها تتجه إليه، مضى سريعًا مع كبار أعوانه إلى طهران التي قابله كبار مسؤوليها وصدر بيان يقول: المالكي قائد إسلامي كبير وقد تجاوز نفوذه العراق إلى الإقليم، وإنه لولا سياساته لنشبت الحرب الأهلية، وإن الهجوم عليه هجومٌ على الإسلام والمسلمين! يبدو أنّ المالكي الذي أبى أن يخرج من السلطة إلاّ بضماناتٍ إيرانية، مضى إلى إيران للمطالبة بالحماية الموعودة. لقد كان بوسع إيران أنّ تُسهم في إقامة دولة جوارٍ رشيدة بالعراق، وبخاصة أنّ هناك غالبية شيعية، وهي تزعم رعاية حقوق الشيعة. لكنها ما فعلت شيئا من ذلك، بل نفذت من خلال المالكي العكس، بحيث نشبت حربٌ أهلية، مكّنت «داعشًا» من التغلغل في أرض العراق وأوساطه الشعبية الساخطة. وكنا نظن أنّ السخط سني، لكنه يبدو الآن شيعيًا أيضًا. فالأحرى القول من دون تردد إنه سخطٌ عراقي على السياسات الاستغلالية الإيرانية!
وثالثًا: الحالة المخزية في سوريا على مدى خمس سنوات، التي شاركت خلالها إيران نظام الأسد في قتل الشعب السوري وتهجيره أو احتجازه تحت التعذيب والحصار. لقد قلت إنني أريد عرض وقائع هذا الأسبوع بالذات في السياسات الإيرانية التي تدل على أنهم لا يريدون علاقات حسن الجوار ولا يقبلونها. وما أقصده حالة مدينة الزبداني بعد القصير والقلمون والغوطتين وحمص وحلب وغيرها وغيرها. بعد حصارٍ وقصفٍ مشترك للزبداني بين نصر الله والأسد، ضغط مقاتلو سوريا الآخرون لإيقاف حرب الإبادة بالهجوم على بلدتين شيعيتين في ريف إدلب، وقد جرت مفاوضات بين الإيرانيين وممثلين عن مقاتلي الزبداني من أجل التبادل في وقف الهجوم على الزبداني وقراها في مقابل وقف الهجوم على البلدتين الشيعيتين. فماذا حصل؟ أصرَّ نصر الله والإيرانيون على تهجير كل أهل الزبداني مقاتلين وغير مقاتلين، وإحلال سكان القريتين الشيعيتين وآخرين محلَّهم! يقول الله سبحانه وتعالى في القرآن إنه لا يجوز شن الحرب إلا لسببين: الاضطهاد الديني، ومحاولة الإخراج من الديار: «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إنّ الله يحبُّ المقسطين». الإيرانيون ونصر الله يقاتلوننا في ديننا عندما يهجمون على القصير والقلمون والزبداني وغيرها بحجة حماية مزارات آل البيت، مع أنه ليس في تلك المناطق مزارات لأهل البيت! وهم مثل الإسرائيليين يقاتلوننا لإخراجنا من أرضنا، يريدون تهجير أهل الزبداني وقرى أُخرى وإحلال الشيعة سوريين ولبنانيين وأفغانًا وباكستانيين محلَّهم: هل هذا معقول؟ إنه حقيقي وعلني، وهذه سياساتٌ لهم ليس في سوريا فقط؛ بل في العراق ولبنان وإيران أيضًا! وتقول لنا يا ظريف قبل هذا وبعده إنك تريد علاقات حسن جوار؟ حُسْن جوار مع مَنْ، ما دام الذين يجاورونكم مطلوبٌ قتلهم أو تهجيرهم؟!بعد حصار سنواتٍ أربع، وقصف بالطيران والمدفعية لمدة شهرين، دون أن تتمكن جحافل الأسد ونصر الله من الدخول إلى الزبداني، تعاهد مَنْ بقي حيًا من المقاتلين بالزبداني والقرى المجاورة على البقاء في أرضهم والقتال حتى الموت؛ وهذه شيمة العربي، بل وكل أعزاء البشر: وإذا لم يكن من الموت بُدٌّ فمن العجز أن تموتَ جبانا

داعش» والعودة إلى زمن العبودية
نوح فيلدمان/الشرق الأوسط/21 آب/15
مرت 150 عامًا منذ أن حظر القانون الأميركي على السادة اغتصاب المستعبدات. وقد حظرت جميع الدول المسلمة المعاصرة تقريبًا العبودية على امتداد القرن الأخير. إذن، لماذا يسعى «داعش» لقلب عقارب الساعة نحو الاتجاه المعاكس، حيث يقر ويروج بحماس لاسترقاق الإيزيديات. ينبغي أن نخرج من الفزع الذي يتملكنا حيال هذه العودة المتعمدة إلى العصور الوسطى، بدرس بخصوص تطور معتقداتنا وما يعنيه أن يكون المرء عصريًا. وينبغي أن نبدأ بالاعتراف بهدوء بأننا لا نبعد عن «داعش» سنوات ضوئية – وإنما مجرد قرن ونصف القرن.
إن العبودية داخل الولايات المتحدة ليست بالماضي البعيد، وإنما لا نزال نتعامل اليوم مع تداعياتها، في صورة استمرار غياب المساواة بين أبناء المجتمعات العنصرية المختلفة والرموز القائمة منذ أمد بعيد من بقايا فترة الولايات الكونفدرالية الأميركية.
وحري بنا ألا ننسى أن العبودية الأميركية، خاصة خلال نصف القرن الأخير قبل إلغاء العبودية، كانت واحدة من أكثر منظومات العبودية وحشية على امتداد التاريخ البشري المسجل. في المقابل نجد أنها كانت في المجتمعات المسلمة تتسم بالرفق نسبيًا.
إن العبيد من أصول أفريقية تعرضوا للتعذيب كي يزيدوا من إنتاج محاصيل القطن، علاوة على خضوع النساء على نحو ممنهج وقانوني للاغتصاب. وقد شرحت زميلتي بكلية القانون في هارفارد، أنيت غوردن ريد، في دراسة لها حول سالي هيمينغز وتوماس جيفرسون، أنهما كانا مثالين لعلاقات معقدة ومتبادلة جزئيًا بين الإماء والأسياد. إلا أنها أوضحت أن هذا النمط من العلاقات شكل الاستثناء وليس القاعدة – وأصبحت هذه العلاقات نادرة بصورة متزايدة في أقصى الجنوب عندما بلغت العبودية ذروتها الوحشية، قبل أن يجري فرض إلغاء العبودية بقوة السلاح. والآن، ننظر إلى ما أجزناه حتى وقت قريب داخل الولايات المتحدة، باعتباره أمرًا بغيضًا. وبطبيعة الحال، فإننا صائبون أخلاقيًا في رفضنا للعبودية والاغتصاب بشكل مطلق. في الواقع تلك الممارسات – والمنظومات – البشرية خاطئة أشد ما يكون الخطأ، ويجب اقتلاع جذورها هي وتداعياتها بكل وسيلة ممكنة، بما في ذلك القوة إذا اقتضى الأمر. إن العملية التي نحقق من خلالها رفضنا لهذه التقاليد الكريهة أخلاقيًا هي ما يجعلنا عصريين. إننا نطور أفكارا جديدة لم تكن لترد على أذهان أجدادنا – بجانب تولد قناعة داخلنا بأن أفكارنا القديمة لم تكن خاطئة فحسب، وإنما خاطئة على نحو مفزع. إن المشروع العصري يدور حول محاولة تطهير أنفسنا من آثام الماضي، مع الاحتفاظ بما هو جيد من موروث الماضي – وهذه المحاولة نحو التطهير والتحسين ما يجعلنا أشخاصًا عصريين.
في الوقت ذاته، لا نرفض كل شيء يتعلق بماضينا، فرغم أن الدستور الأميركي اعترف بالعبودية التي أجازتها قوانين الولايات وأقرها، فإن الأميركيين العصريين لا يرفضون الدستور، وإنما يعترفون بأن جزءًا من قيمة الدستور تكمن في قدرته على التطور فيما وراء صورته الأصلية. وليس من قبيل المصادفة أن قاضي المحكمة العليا أوليفر وينديل هولمز، أحد أبرز مؤيدي فكرة الدستور الحي، كان من المقاتلين الذين خاضوا «الحرب الأهلية» وأصيب خلالها وفقد أعز أصدقائه بها. لقد عايش هولمز رفض الأمة لأجزاء من ماضيها الدستوري، وعاين ثمن هذا الرفض، وخرج من كل هذا ملتزمًا بالحفاظ على الدستور حيًا – عبر تنقيته من جميع الخطايا التي تضمنها يومًا ما. كشعب عصري، نراهن دومًا على أننا سنجعل الأوضاع أفضل عندما نغيرها. وأحيانا يجانبنا الصواب في ذلك. ومن السذاجة اعتقاد أن التاريخ، بما في ذلك التاريخ الحديث، ليس سوى سلسلة من إجراءات التطوير والتحسين، فبدءًا من تجاوزات الثورتين الفرنسية والروسية وصولاً إلى فظائع الفاشية والاستبداد، قدم لنا العصر الحديث الكثير من الأمثلة على انحراف الحداثة عن مسارها المرجو لها. إن مسألة وجود شيء جديد يبدو جيدًا ليست ضمانة كافية لكونه أخلاقيًا. إن جزءًا من الحداثة يكمن في الاعتراف بأن هناك إجماعا ناشئًا على خطأ ممارسات ماضية، مثل العبودية. ومن جانبه، يستعبد «داعش» النساء لينقل للعالم رسالة مفادها أنه يرفض فكرة التطور، رغم قبول الغالبية العظمى من المسلمين لها. أما الاستجابة العصرية الوحيدة الممكنة لهذا الرفض فهي الشعور بالفزع – والالتزام باتخاذ إجراء عملي حيال هذا الرفض. * بالاتفاق مع {بلومبيرغ}

العراق.. صحوة الشيعة العرب
نديم قطيش/الشرق الأوسط/21 آب/15
حتى الآن لم يأخذ الحدث العراقي مداه في الإعلام العربي، ولم تدرَك بعد المعاني العميقة للمظاهرات المدنية التي تملأ شوارع المدن العراقية. الحدث فاجأ الجميع بلا شك، بمن فيهم من قاموا به قبل غيرهم. نزل العراقيون إلى الشارع بتلقائية احتجاجًا على عنوان مطلبي مرتبط بالخدمات، في ظل انقطاع مريع للكهرباء وارتفاع جنوني لدرجات الحرارة، ولم يخرجوا بمطالب سياسية محددة. ما حصل لاحقًا أن المظاهرات بدأت تتأطر حول عناوين سياسية عامة، أبرزها مكافحة الفساد، ثم الاصطدام بالمحاصصة الطائفية كبيئة حاضنة لمنظومة الفساد التعددية، غير أن شيئًا أكبر حصل، في الشارع يكاد يشبه اكتشاف العراقيين لعراقيتهم التي طمستها السنوات العشر الأخيرة، والتي ميزها طغيان حزمة من آليات التواطؤ على الوطنية العراقية، بدءًا من تجذر منظومة النفوذ الإيراني، مرورًا بالفشل السياسي الأميركي الذي بلغ ذروته مع الانسحاب المتعجل من العراق، وصولاً إلى تحايل مشاريع التقسيم والانفصال على مشروع الدولة العراقية بما أبقاها ضعيفة وعديمة الكفاءة!
ثم وصلنا إلى الشارع، نتيجة انهيار الثقة، لا سيما في الوسط الشيعي، بالأحزاب الدينية وبكامل تجربة الحكم!
يحاول الجميع الآن الركوب على ظهر الشارع العراقي الذي يتجه يوميًا باتجاه تصادم شيعي شيعي، بين طرفين:
1 – مرجعية السيد السيستاني النجفية التي تدخل للمرة الثانية منذ سقوط نظام صدام حسين دخولاً مباشرًا على خط الحياة السياسية، من خلال رعاية وتأييد وتوجيه السيستاني لرئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي في المعركة ضد الفساد والمحاصصة.
2 – قوى منظومة النفوذ الإيراني العميقة في العراق، التي عبر عنها بوضوح لا التباس فيه لجوء نوري المالكي إلى طهران، وطعنه من هناك في القرارات والخطوات الأساسية التي اتخذتها الحكومة وأقرها البرلمان العراقي، لا سيما ما يتصل بتحميل المالكي مسؤولية سقوط الموصل بيد «داعش»، أي تحميل إيران مسؤولية الإجهاز على الجيش العراقي الذي بناه الأميركيون.
مع ذلك لم، وربما لن، يتخذ هذا الفرز صورة نهائية وواضحة المعالم، لأسباب كثيرة:
أولاً: حاولت الميليشيات المرتبطة بإيران ضمن قوى الحشد الشعبي (وهذه ليست كلها إيرانية كما يشيع خطأً في الإعلام العربي!!)، حاولت في وقت مبكر التفاوض مع المتظاهرين للتشارك معهم، بنية خطف المظاهرات كما خطفوا قبلاً الحشد الشعبي وفتوى السيستاني ووسموه بميسمهم. فصار الحشد زورًا اسمًا ثانيًا لمنظمة بدر وعصائب أهل الحق وحزب الله العراقي وبقية عصابات طهران.
حتى الآن ورغم مواقف المالكي الأخيرة تحاذر إيران الاصطدام مباشرة بمزاج الشارع العراقي، لامتصاص موجة الغضب والتأقلم معها.
ثانيًا: لا يبدو السيد السيستاني راغبًا أو قادرًا على الاصطدام المباشر بالنفوذ الإيراني، بقدر ما يريد تثبيت ميزان القوى وتذكير الإيرانيين أنّ تجاوزه مكلف. فإيران الساعية دومًا لوراثة مرجعية السيستاني بشخصية موالية لها (كآية الله شهرودي الذي يخصص له المالكي موازنة ضخمة)، تلعب أيضًا ورقة الذهاب بالعراق نحو نظام رئاسي مغلق، وإلغاء البرلمان، ما لا ينتج عنه عمليًا إلا ولي فقيه برتبة رئيس، وهو ما يقارعه السيستاني بوعي تام رغم محدودية قدرته. فالعارفون بتوازن القوى الذي يحكم تحرك المرجعية، يشيرون إلى مفارقة أن النجف، مقر المرجعية، لا تستطيع التعبير عن نفسها وأفكارها ومواقفها إلا من كربلاء التي تبعد ثمانين كلم عن مقر السيستاني! في حين أن إمام جمعة النجف، السيد صدر الدين القابنجي، «معيّن» من قبل إيران ويتحرك في دائرة النفوذ الإيراني ولا يحضر صلاته إلا بضع مئات أو أقل، في إشارة إلى مزاج المدينة المناهض له. مع ذلك لا يقوى السيستاني على، أو ربما لا يريد، إزاحته. كما أن السيستاني اكتفى بعنوان إصلاح القضاء وحاذر أن يفتي بحل الميليشيات، وهو العالم أن فتواه ملزمة ومسموعة في العراق، خوفًا من سطوة هذه الميليشيات، ولأن الفتوى ستعد إعلان حرب على إيران لا تريده المرجعية. هذان عاملان أساسيان، إلى جانب فقدان الشارع العراقي لحيوية سياسية برامجية، أو نضج مطلبي ونضالي، سيؤخران اتخاذ الصراع الشيعي الشيعي صفة جذرية عميقة، ولكن لن يمنعاه، فالأكيد أن ثمة ما انكسر وانهار في جدار الخوف من إيران. وثمة تراخٍ حقيقي أصاب أصابع قبضتها التي أمسكت بعنق بلاد الرافدين. ليس بسيطًا أن تخرج مظاهرات في قلب كربلاء وبغداد تتصدرها هتافات من نوع: «إيران برا برا… كربلاء (أو بغداد) حرة حرة»، وهو ما سبب صدمة حقيقة في إيران، لكونه يؤشر إلى بداية انهيار مشروع الهيمنة الإيرانية على العراق. ومن المفارقات العجيبة أن انفتاح إيران على الجنوب العراقي وتناميه في السنوات الماضية عرّف العراقيين الشيعة على إيران مختلفة عن النموذج المتزمت والمتشدد التي تصدره لهم عبر علمائها وعملائها وميليشياتها، ما أشعرهم بنوع من الخديعة والنفور… والرفض كما تبدي المظاهرات! فكيف إذا كان الإيرانيون بدأوا هم أنفسهم يرفضون في بلادهم النموذج الأطرى والأرحب الذي أثار «حسد» العراقيين الشيعة الغارقة مدنهم بظلامية إيرانية لا تشبه العراق أو العراقيين؟!
هيبة إيران انكسرت في العراق، وسيتجرأ الناس عليها أكثر. هل من يتلقف عربيًا يقظة الشيعة العرب؟