الياس الزغبي/مسيحيّو الثلاثيّة

260

مسيحيّو “الثلاثيّة”
الياس الزغبي/لبنان الآن/14 حزيران/15

لم يَعُد خافياً أنّ “محور الممانعة والمقاومة” يبذل جهداً استثنائيّاً لإيهام ما يُسمّى “الأقليّات” بأنّه راعيها وحاميها من “الابادة الأكيدة” على يد كلّ من يناصبونه العداء، حتّى ولو كانوا من نسيج الأقليّات نفسها، أو من المعتدلين عرباً وغرباً، وليس فقط على يد الارهابيّين التكفيريّين.

وليس خافياً كذلك مدى رعونة بعض مجموعات المعارضة السوريّة التي تقدّم بارتكاباتها المشينة خدمات مجانيّة لهذا المحور، وآخرها ما جرى في قرية “قلب لوزة” السوريّة ضدّ أهاليها من طائفة الموحّدين الدروز. وكأنّما هناك تواطؤ ضمني بين “العدوّين الحميمين”، تجلّى بعض مظاهره في جرود القلمون وفي تسليم تدمر، وفي التمرير المتبادل للعناصر والسلاح والنفط.

وقد جاء توظيف جريمة القرية في إدلب سريعاً وفاقعاً، من خلال رفع عقيرة المرتبطين بالنظام السوري  و”حزب الله” إلى أقصى درجات الحضّ على القتل وسفك الدماء ونكء الالتهابات المذهبيّة والعودة إلى  “الحرب المقدّسة”، مقابل أصوات عاقلة تتنبّه لخطورة الاستغلال وتحاول تبريد الرؤوس الحامية.

واستغلال “قلب لوزة” ووضع الدروز في السويداء لم يكن معزولاً عن سياق استغلال المحور نفسه وضع مسيحيّي الشرق، وتحديداً مسيحيّي البقاع الشمالي، من خلال تخويفهم إلى الحدّ الأقصى، والاصطياد في التخويف بهدف الإيقاع بهم في شباكه.

ولم يتردّد الدماغ الأسود المتحرّك بين الضاحية ودمشق وطهران في ابتداع أخطر أساليب الإرعاب والإغراء، فأقدم على إنتاج “ثلاثيّة” جديدة تجمع الجيش إلى “المقاومة” والعدرا (العذراء مريم)، في محاولة مكشوفة لزجّ المقدّس في المدنّس، وتحريك عواطف السذّج من المسيحيّين الذين يرفعون في الملمّات شعارهم الإيماني “العدرا بتحمينا”.

كان على المرجعيّات المسيحيّة العاقلة، الروحيّة والسياسيّة، الإسراع إلى سحب هذا الفتيل القاتل من التداول، وتنزيه اسم العذراء من التجارة الرخيصة به، وتوعية المسيحيّين إلى خطورة الانسياق الضرير في اللعبة السياسيّة الطائفيّة الأمنيّة المدمّرة.

لكنّ ما حصل هو انزلاق شخصيّات وقيادات مسيحيّة في هذه الورطة، وعدم اقتصارها على المسيحيّين البسطاء. فسمعنا كلاماً مباشراً من إحداها في مقابلة تلفزيونيّة جاء فيه: ” حزب الله” وبشّار الأسد يحميان مقدّساتي ووجودي!

كان يمكن أن يكون هذا الكلام عابراً، لولا صدوره عمّن يدّعي أنّه سليل “المردة”، بما يعنيه الاسم والتاريخ من شكيمة وبأس وشجاعة في مواجهة الأخطار، بدون الاتكال على أيّ حماية، ولو اقتضى الأمر التحصّن في الجبال الوعرة واختيار شظف الحياة.

ففي تاريخ المسيحيّين والموارنة تحديداً أخطار إبادة وحروب لا تقلّ عن أخطار اليوم، ولم يكن هناك لا “حزب الله” ولا بشّار ولا شرق وغرب يدخلون في حمايتهم وذمّتهم. فمن أين أتت هذه الذميّة المستجدّة التي تستجير بمن يحتاج هو نفسه إلى من يُجيره؟

وهذا التسليم السياسي والأمني عبر اللجوء إلى “ثقافة” الحمايات، يتمدّد إلى مجموعات مسيحيّة أُخرى، سلّمت قرارها وقدرها إلى الجهة “الحامية” نفسها بورقة “تفاهم”، فاستطابت الاحتماء، ولو على حساب الدولة وأولويّة الجيش اللبناني في الدفاع والحماية لكلّ اللبنانيّين.

كما استطابت الثلاثيّة الجديدة المخجلة والمعيبة بضمّ الرموزيّة الدينيّة المسيحيّة إليها، وأوعزت إلى ناطقين باسمها للتنويه ب”الابتكار” الجديد وتعميمه على مزيد من البسطاء لاستغلال مشاعرهم والاستثمار في تخويفهم.

إنّ أسوأ ما يُصاب به المسيحيّون هو هذه الالتحاقيّة العمياء بحجّة حمايتهم، وتوهّمهم بأنّ أقليّة بجبروتها الراهن تحمي أُخرى، فيستفيقون ذات ليلة على أنّ الأقليّة “الحامية” تحوّلت إلى أكثريّة قاتلة. يهربون من الدبّ ليقعوا في الجبّ، مستجيرين “من الرمضاء بالنار”.

لقد بات المسيحيّون، خصوصاً الموارنة، في حاجة ماسّة إلى صدمة وعي، يقوم بها شخص أو مرجع أو مجموعة، يقرعون عقولهم الخاملة وقلوبهم الراجفة، ويأخذون بيدهم إلى الموقف الخلاصي السليم: استرجعوا رسالتكم في السلام والتوليف بين الأمم والشعوب، واخرجوا من شرنقة الحمايات إلى حضن الدولة. الدولة التي بناها أسلافكم هي ملاذكم وكفيل حريّاتكم ومساحة رسالتكم، فاسعوا إلى تطويرها لتكون حصنكم الثابت والدائم.

في تلك اللحظة فقط، ينجح المسيحيّون في كتابة نصّ نيّاتهم السليمة، فيخرجون من شرذمة الثلاثيّات إلى رحاب الدولة والوطن.

ولا تبقى إلّا الثلاثيّة الخلاصيّة في الأقنوم الواحد: لبنان.