حارث سليمان/الترسيم البحري بين الشبيحة والسماسرة والعناترة

281

الترسيم البحري بين الشبيحة والسماسرة والعناترة
حارث سليمان/جنوبية/17 تشرين الأول/2022

اكل العنب حلال ومذاقه لذيذ وطعمه محبب، وهو أمر يعرفه اللبنانيون منذ أن حضر عيسى ابن مريم المسيح إلى قانا، وكان عشاؤه السري المقدس في مغارتها، وقبل ذلك حتى! يجيد اللبنانيون جميعا اكل العنب طازجا، وزبيبا ودبسا ونقوعا، ويصنعون شرابا محلى من حصرمه، وعرقا بلديا في الكركة، ويستذوقونه خمرة في براميل محفوظة بالعتمة…

يحسنون كل هذه الأشياء منذ عقود عديدة، ويدركون أن قتل الناطور يبدد عِنَبِهم، ويُفسد زبيبهم، ويجعل من خمرتهم خلا حامضا تماما، لا يشبه إلا الحصرم الذي أجبروا على إجتراره مرارا وتكرارا. ولطالما ان اكل العنب حلال زلال، وهو خيار أكثر نفعا من قتل الناطور (ناطور كاريش) فلما أضرستنا بحِصرَمِك يا سيد القرار منذ عقدين وأكثر. فمواسم اكل العنب والامتناع عن قتل الناطور، تعددت وتكررت على مدى عقود عديدة، كان ممكنا أكل العنب مع رفيق الحريري، وكل من قضى من بعده ناطورا قتيلا من مروان حماده حتى لقمان سليم، وكان ممكنا الامتناع عن قتل الناطور في عملية تحرير سمير القنطار، لا لشيء، إلا لكي لا يقتل الأسير الأغلى تكلفة على لبنان، يقتل في سورية بعد مقتلة لبنان في حرب تموز ٢٠٠٦، وكان يمكن عدم قتل الناطور، كذلك بالامتناع عن الذهاب إلى الحرب في سورية والعراق واليمن، والالتزام بسياسة النأي بالنفس، والامتناع عن قتل نواطير من أبناء جلدتنا العربية، على “طريق القدس” التي مادت متعرجة تقتحم مدننا العربية، وما تركت حاضرة من حواضر تاريخنا، إلا وحولتها خرابا وأطلالاً دارسة!. على مدى عقود عديدة كان لبنان يشتهي أكل العنب وكانت الممانعة تجبره إكراها، على فتح طريق القدس دون اي ترسيم لحدودٍ تقف قبل الوصول الى مسجدها الاقصى، و في كل مرة، كان يقتل الناطور وصاحب الكرم ويتم تخريب جنى المواسم وثمارها…

حسبنا ان ذلك قدرنا الى الابد، وان هذا قسطنا من المساهمة في مرضاة الله وحزبه، وعذرا ان أكثرُنا لم يع ان موسم قطاف العنب لديكم لا تحلو عناقيده الا على تقويم ايران و توالي فصولها… فموسم القطاف الحالي امتد من عبادان الى الجزائر فشهدنا إيران تضاعف إيراداتها من النفط والمكثفات 6 مرات في 4 أشهر، بعد أن كشف وزير الاقتصاد الإيراني إحسان خاندوزي، أن دخل إيران من تصدير النفط والمكثفات ارتفع بنسبة 580% في الأشهر الأربعة الأولى من العام الإيراني (21 مارس-21 يوليو سنة ٢٠٢٢) مقارنة بالفترة نفسها قبل عام. أما في العراق فتم انتخاب عبداللطيف رشيد رئيسا للجمهورية وهو من حزب البرزاني المسمى الديموقراطي الكردستاني ( والبرزاني متهم بالتعامل مع اميركا واسرائيل) كما تم تعيين محمد شياع السوداني مرشح الحشد الشعبي الايراني رئيسا للوزراء. وفي فلسطين أنجزت المصالحة الفلسطينية بين فتح وحماس، بعد ان انتظرناها منذ سنة ٢٠٠٥، وتم إعلانها من الجزائر بحضور الجبهة الشعبية (القيادة العامة) ومنظمة الصاعقة السورية وتمت عودة حماس الى سورية. كما جرى توقيع اتفاق مصري فلسطيني بشأن تطوير حقل غاز غزة، بعد أن نجحت مصر في إقناع إسرائيل، بأن تقوم مصر بالبدء في استخراج الغاز الطبيعي قبالة سواحل قطاع غزة. أما في لبنان فقد اتاح موسم قطاف العنب الايراني، انجاز ترسيم بحري مع اسرائيل وايلاء اميركا مهمة الاشراف والتحكيم النزيه، بين لبنان حسن نصرالله واسرائيل لابيد.

واتفاق رئيس يائير ‎لابيد وحسن نصرالله تاريخي حقا، فلبنان واسرائيل انتقلا من الهدنة في ‎حالة الحرب الى واقع الشراكة في الاستثمار… واستراتيجي فعلا لانه استند الى صفقة بين علي ‎خامنئي وإيمانويل ماكرون – وجو بايدن…اما مكاسب إسرائيل من الترسيم فهي أن حدود لبنان البحريّة هي حسب القانون الدولي يرسمها الخط ٢٩، تنازل عنها ثنائي إيران، ميشال عون ونصرالله، كما تم إعطاء ضمانات أمنيّة لإسرائيل، ومنطقة اسرائيلية أمنية داخل الحدود اللبنانية … وهي أخطر ثغرات الاتفاقية بحسب رئيس الوفد اللبناني المفاوض السابق. وهذا يعني الموافقة على إبقاء منطقة الطفافات (التي تمتد الى حوالي 5 كلم من الشاطئ) تحت الإحتلال الإسرائيلي، وإعطائه حرية دخول مراكبه العسكرية إليها، وبالتالي اعتبارها منطقة أمنية له بامتياز.أضف الى ذلك، أبقى الاتفاق الحالي نقطة رأس الناقورة ونقطة ال B1 والنفق السياحي تحت سيطرة الإحتلال الإسرائيلي، وتم تأجيل البحث بها الى أجل غير مسمى!. وبدل حصول لبنان على تعويضات عن حقل كاريش، تقرر ان تأخذ إسرائيل تعويضات عن قانا.

وعليه فإن الاتفاق حدّد إسرائيل كشريك تجاري وصاحب حق اقتصادي في ‎حقل قانا، وصاحب قرار في بعض المسائل، منها حفر الآبار واستثمارها. ‏وتوقيع الاتفاق سياسيا يعني اعتراف لبنانيا بإسرائيل، أي الذهاب إلى تطبيع و سلام مقنّعان. كما تم اعطاء اسرائيل ضمانات امنية اميركية لمواجهة أي ازمة مع لبنان، كما تم الالتزام باستمرار العقوبات الأميركية على حزب الله، والتعهد بمنع اي شركة لبنانية او أجنبية -معاقبة اميركيا- من النشاط في الحقول المكتشفة والمستثمرة في لبنان.

يسمى انتصارا.. فهل من الممكن اعادة التعريف بمعاني التخاذل والتفريط والخيانة!؟ اما على المستوى العقائدي فان الاتفاق يضع ثقافة الممانعة السياسية في موضع السخرية، ويكشف زيف النفاق والادعاءات، التي صمّت آذاننا بعنتريات جوفاء خلال أربعين سنة، من مثال “اسرائيل غدة سرطانية يجب ازالتها”، الى تبرير كل فتنة او جريمة ب “طريق القدس”، الى خُطَطِ احتلال الجليل، وحفر الأنفاق التي تخرق القرار الدولي رقم ١٧٠١ وتنتهك الخط الازرق، الى تصريحات قيادات فيلق القدس ب تدمير إسرائيل بسبع دقائق ونصف…. إن قيام حزب الله، بامر من ايران، بالذهاب الى ترسيم الحدود وضمان تنفيذه، يظهر تهافت هذه المنظومة ويكشف ادعاءاتها الكاذبة التي صدقها البسطاء وتاجر بها واغتنى منها الاشرار. ان ادعاء حزب الله بأنه قبل بما قبلت به دولة وسلطة لبنان، التي ما إنفك يُقوِّضُ اساساتها وبنيانها ويضرب عمل مؤسساتها، ما هو الا محاولة لتحميل هذه المنظومة مسؤولية صفقة اطلقتها ورعتها وضمنتها ايران، خدمة لمصالحها الاقليمية وخدمة لمساومات نظامها مع دول الغرب.

على خط آخر، تصمت القوى الاخرى المفترضة “سيادية غير ممانعة”، عن الصفقة وتلزم الصمت وبلع الألسنة، معتقدة أن حزب الله سيتابع سلوكه هذا تدريجا، للخروج من منطق الممانعة والتصعيد واللجوء الى العنف والمجابهة العسكرية، وتلزم التحفظ بنقد الاتفاق او التصدي لتنازلاته، آملة ان تكون الصفقة الحالية تمهيدا لإنخراط لبنان في سياسة الحياد والنأي بالنفس عن الصراعات الاقليمية، وان يكون هذا الاتفاق خطوة أولى في نهاية استعمال لبنان كمتراس إقليمي، ومنصة لاطلاق الصواريخ، لكن هؤلاء يتجاهلون أن الاتفاق بحد ذاته، هو أوضح تعبير عن تبعية لبنان لإيران وعن استعماله كجائزة ترضية لاسرائيل واوروبا تقدمها إيران وتضمن تنفيذها بواسطة حزب الله.الاتفاق لا يعني اخراج لبنان من محور الممانعة، بل تكريسه ورقة بيد إيران، تستطيع التصرف بها، ويحرص على استمرارها حزب الله كي ينال شعب لبنان عائدات الثروات الموجودة في أرضه ومياهه، وكي تحفظ ‎ ثروتنا الوطنية من النفط والغاز، لا يكفي الترسيم الجائر الذي أهدر ‎نصف حقل قانا و‎نصف حقل كاريش، بل الاهم ترسيم داخل لبنان يضع حدا لأطماع المنظومة الحاكمة الفاسدة، بسرقة الثروات الطبيعية الغازية، بعد ان سرقت الودائع المصرفية والأموال والأملاك العامة، وذلك باعادة البحث والتدقيق بعشرات شركات مقدمي الخدمات، التي أجبرت الشركات المنقبة على شراكتها بواسطة القانون، والتي تم تأسيسها من قبل زعماء المنظومة ومتعهديهم الفاسدين.

من ناحية أخرى، لا بد من إعادة النظر في المراسيم التطبيقية لقانون النفط والغاز، ومن إجراء تقييم جديد للقانون نسفه (قانون الموارد البترولية في المياه البحرية» رقم 132/2010)، فالمادة 24 منه، بعد أن عُدلت تنص على أن حصة الدولة من «بترول الربح» يجب ألا يقل عن 30% قابلة للزيادة عن طريق المزايدة (مقابل حد ادنى يتراوح بين 50 و 60% في العالم) . كذلك الأمر بالنسبة لسقف استرداد النفقات الرأسمالية (Capex) في المادة 23 والتي حددت بسقف (Cost Stop) لا يزيد على 65% (مقابل نسبة لا تتجاوز بشكل عام 50% في البلدان الأخرى).

إن إعادة تقييم الإطار القانوني ( قانون ومراسيم وهيكلية هيئة ادارة قطاع البترول )، أمر يوازي خطورة الترسيم مع العدو، فالسماسرة لهم شهية نهب، توازي شهية العدو بل تفوقه وتذهب أبعد مدى.