الكولونيل شربل بركات: قضية توقيف سيادة المطران الحاج وتفاعلاتها…قال العلي لموسى كليمه، عندما سأله عن ذلك الجبل في الأفق، أغضض طرفك فأن هذا الجبل وقف لي لن تطأه قدماك ولا من يأتي من بعدك

347

قضية توقيف سيادة المطران الحاج وتفاعلاتها
الكولونيل شربل بركات/23 تموز/2020

الشرق الأوسط يسير بدون شك نحو ما يرسم له الأقوياء وبعيدي النظر ولكن يوجد دوما مكان بين الأقوياء لمن يدرك مصالحه ويعرف كيف يحافظ على القليل من الكرامة والرؤية. فهل نستفيق على ثورة عارمة تخلخل أعمدة الغي وتعيد للبنان بعض الأمل؟ أم أننا سننتظر طويلا ليأتي اليوم الذي يسقط فيه جبروت من يتشاوف بالسلاح ويتغاوى بالقتل والذي لا يشبه لبنان بشيء؟…

******
في تنظيم الكنيسة المارونية وأبرشياتها هناك نوع من التقليد المتبع منذ بداية انتشار المسيحية في أرضنا حيث تكلم القديس بولس عن الاسقف ومهماته واختياره وشدد على استيعابه لمشاكل الرعية ومساعدته على تفهم وحل هذه المشاكل على ضوء التعاليم التي بشر بها السيد المسيح والتي تجعل من المتقدم بين أفراد الرعية خادما لهم لا متسلطا عليهم بواجب الطاعة المعطاة له. من هنا كانت الكنيسة المارونية التي تحملت مشقات كثيرة في تاريخها واضطهاد من قبل الأقربين والأبعدين بشكل متساوي في كثير من الأحيان ما اضطرها إلى الحفاظ على جبالها حصنا منيعا في سبيل الاستمرار، إن بالعيش بكرامة تحت تعاليم السيد الموروثة أو بالتنعم بالحرية التي لا تشكل استغلالا للقوة أو استضعافا للغير. وقد مرت هذه الكنيسة خلال تاريخها الطويل بمراحل من الانتشار والانحسار لدرجة التقوقع أحيانا، ولكنها تجاوزت الصعاب لتعود فتنعم برحمة الله ورعايته إذ أعطيت الحق بقيادة وطن الأرز وتنظيم تفاعل أبنائه على اختلاف مذاهبهم وتعقيدات تاريخهم وعلاقاتهم؛ حيث سعت إلى خلق المواطنية الواسعة والمدركة لضرورات التعاون على أساس المساواة بين فئات المجتمع المختلفة المشارب بدل التقاتل والجهوزية الدائمة للتفرد واستغلال الظروف لمصالح ضيقة تصل أحيانا إلى الشخصانية.

الكنيسة المارونية تحمل إرثا كبيرا وتاريخا طويلا في هذا الشرق تميّز بنوع من التفرد بالتمسك بمفاهيم تعتبرها أساسية، حتى ولو كلفها ذلك نضالا وتقشفا. فكان قادتها وبطاركتها نسّاكا منشغلين عن الدنيا الفانية ومظاهرها ومتعلقين بعمل الخير وملاحقته، حتى قيل فيهم تلك الجملة المعبرة :”عصيهم من خشب لكن قلوبهم من ذهب” ولذا فقد أعطي لراعيها “مجد لبنان” عن حق ولم يعطَ لغيره. ولبنان هو بنظر الأديان السماوية يعتبر وقفا لله إذ قال العلي لموسى كليمه، عندما سأله عن “ذلك الجبل في الأفق”، “أغضض طرفك فأن هذا الجبل وقف لي لن تطأه قدماك ولا من يأتي من بعدك”. وقد بقيت مشيئة الله هذه قائمة طالما احترم من سكن هذا الجبل قيم القدير وعمل بها. وهكذا فبالرغم من تبدّل الدول وتصارع الشعوب كان لبنان هذا ملجأ لكثير من المضطهدين الذين ضاقت بهم السهول الواسعة والأماكن الغنية فهربوا إليه وسكنوه وجاوروا هؤلاء الموارنة وتعلمو منهم الشدة بدون حقد والقساوة بدون تجبّر.

بعد أن خف الظلم العثماني وسمحت السلطنة للموارنة بالعيش بسلام واستقرار، خاصة بعدما تفاهمت مع الدول الأوروبية ودخلت في عالم التطور والحداثة، نظم الموارنة هؤلاء أبرشياتهم في ظل السلطنة بداية القرن العشرين حيث أنشأت مطرانية صور والأراضي المقدسة المارونية والتي تبعت لها مدن صور وعكا وحيفا ويافا حتى القدس، وبقيت هذه الأبرشية تعمل بالرغم من تبدل الحدود والسيطرة وتغيير القوى والدول. ولم ينقطع المطران يوسف الخوري، مثلا مطران صور والاراضي المقدسة، عن الدخول إلى اسرائيل في أحلك الظروف. وكان في كل مرة ينتظره على معبر الناقورة ممثل من وزارة الأديان الاسرائيلية، لا بل وزير الأديان بنفسه أحيانا، للتأكد من تسهيل معاملاته ومروره بكل احترام. كما كان يلقى نفس الاحترام في الجانب اللبناني بالطبع. ولكن عندما بدأت سلطة الدولة اللبنانية تنحسر مقابل سلطة المنظمات وسيطرتها، وبعد محاولة قتل صاحب السيادة التي وقعت في سن الفيل على دوار الحايك حيث كان عناصر تنفيذ محاولة الاغتيال هذه انطلقوا من مخيم تل الزعتر يومها، توقف المطران يوسف الخوري عن الاقامة حتى في مدينة صور وبقي نائبه الخوري مارون صادر ابن عين إبل يقيم فيها متحملا الضغوط، كما زعامات المنطقة من بيت الخليل إلى بيت الأسعد وعسيران وبقية رجالات الشيعة الذين لم يماشوا الفلسطينيين يومها، ثم عاد اليها بعد أن تحسنت الأمور وبعد وفاته خلفه الخوري مارون ليصبح هو مطران صور والاراضي المقدسة.
في زمن ما سمي بالمقاومة التي اقتصرت على افرازات الحرس الثوري الإيراني والمشاكل المرافقة له ارتأت الكنيسة فصل الأراضي المقدسة عن مطرانية صور المارونية وانشاء مطرانية حيفا والأراضي المقدسة حيث أصبح المطران يقيم في مدينة حيفا وفي نفس الوقت يحمل صفة النائب البطريركي على المدينة المقدسة ومن ثم ضم له موارنة المملكة الأردنية الهاشمية. وقد خدم المطران صياح مدة طويلة هذه الأبرشية وحضر مرحلة الانسحاب الاسرائيلي من لبنان وما رافقه من تجني على أبناء المنطقة الحدودية. وقام بزيارات متعددة للرئيس لحود يومها لمناقشة موضوع الجنوبيين المتواجدين في اسرائيل حيث اعتذر الرئيس يومها عن عدم تمكنه من مساعدتهم وانصافهم بسبب الاحتلال السوري ومواقف ما يسمى بحزب الله الذي أراد أن يستغل انسحاب اسرائيل كورقه للسيطرة على لبنان بعد أن كانت اسرائيل قبلت بتسليمه مهمة أمن الحدود بين البلدين.

الموارنة في اسرائيل قديمي العهد، ويوم انقطع الاتصال بالكنيسة المارونية اضطر الكثيرون منهم للتحول إلى المذهب اللاتيني، ومن ثم بعد أن بدأ الانتشار الماروني الجديد في زمن المعنيين عاد الموارنة كما الدروز إلى شمال فلسطين وكثر اللبنانيون العاملون في مدينة حيفا بعد وصول الجالية الألمانية في نهاية القرن التاسع عشر، ومن ثم بعد الحرب العالمية الأولى ودخول البريطانيين، وقد كبر عدد اللبنانيين في المدينة وكثرت مصالحهم. ولكن عند بداية الأحداث في 1948 اضطر الكثيرون منهم للعودة إلى لبنان وبقيت جالية كبيرة تسكن في المدن وخاصة القدس وبقية المدن الساحلية والقرى في شمال اسرائيل. هؤلاء اللبنانيون أبقوا لبنان في قلوبهم وعلّموا ابناءهم على محبته، ولكن لبنان الرسمي لم يلتفت إليهم ولو بقيت الكنيسة ترعاهم كجالية مارونية لبنانية تقيم في الخارج مثل بقية الجاليات اللبنانية في عالم الاغتراب.

في ايام الذل التي نعيشها تحت سلطة سلاح الحرس الثوري وافرازاته، وفي ظل الكارثة الاقتصادية التي ذكّرت اللبنانيين بزمن القحط والمجاعة، يحاول سيادة المطران موسى الحاج النائب البطريركي العام والذي خلف المطران بولس صياح في أبرشية حيفا والأراضي المقدسة، المساهمة بنقل بعض المساعدات الانسانية والأدوية الخاصة بالأمراض المستعصية، كما يفعل الكثير من الجاليات اللبنانية في العالم كاستراليا وأفريقيا والأميركيتين وأوروبا من الموارنة وغيرهم من اللبنانيين الذين يشعرون بوجع الأهل في الوطن الأم والذين يهمهم مساعدته لتمرير هذه المرحلة الصعبة التي فرضها الاحتلال الفارسي وقوات الحرس الثوري على اللبنانيين لتهجيرهم من بلادهم، ربما، واحلال موالين لهم مكانهم. وها هي السلطة الفاسدة والمتعاونة مع الاحتلال حتى الذل، توقف صاحب السيادة وتصادر المساعدات وتتهمه بما فيها هي من عورات محاولة أن تغمز من قناة سيد بكركي، وكأنه لها في لبنان أكثر مما له وهي الأجيرة المنافقة والتي سرقت ثروة اللبنانيين وجنى عمرهم وخربت حياتهم ودمرت مستقبل أجيالهم لترضي زبانية المحتل وتخرّب ما تبقى من عز لبنان وخيره.

لقد طفح الكيل وبلغ الغضب قمته فهل يغيّر اللبنانيون الوضع ويقلبون الطاولة على عملاء المحتل الذين خرّبوا بيوتهم؟ أم أن الذل والقهر فعل فعله في النفوس وها هي المقامات التي يجب أن تتعاون لوقف التدهور تفتش عن مصالحها ومكتسباتها بين سطور الذل لتتبرأ من موقف موحد قد يزلزل الأرض تحت أقدام الغزاة؟ وهل إن الموارنة الذين أعطي لهم مجد لبنان سيقفون منفردين لا بل متبرئين من الكثير ممن يحملون الاسم ليعيدوا للبنان موقعه وشرفه ويعلّموا العالم كيف تبنى الأوطان وكيف تكون الكرامة؟

الشرق الأوسط يسير بدون شك نحو ما يرسم له الأقوياء وبعيدي النظر ولكن يوجد دوما مكان بين الأقوياء لمن يدرك مصالحه ويعرف كيف يحافظ على القليل من الكرامة والرؤية. فهل نستفيق على ثورة عارمة تخلخل أعمدة الغي وتعيد للبنان بعض الأمل؟ أم أننا سننتظر طويلا ليأتي اليوم الذي يسقط فيه جبروت من يتشاوف بالسلاح ويتغاوى بالقتل والذي لا يشبه لبنان بشيء؟…