ابو أرز-اتيان صقر: الوطن الأسطورة … لبنان القداسة والتاريخ والبطولة والرسالة/الجزء الثالث والأخير- التراث

262

الوطن الأسطورة … لبنان القداسة والتاريخ والبطولة والرسالة/الجزء الثالث والأخير- التراث

ابو أرز- اتيان صقر/25 شباط/2022

اضغط هنا لقراءة الجزء الأول
اضغط هنا لقراءة الجزء الثاني
اضغط هنا لقراءة الجزء الثالث

المقدمة: الحديث عن لبنان يبدأ ولا ينتهي، حكايته عمرها من عمر التاريخ، وسردها بكل فصولها يتطلب مجلدات عديدة، لذلك اعتمدنا الإيجاز في مقاربة هذه الحكاية التي تشبه الأساطير في فرادتها وروعتها، وسنسلط الضوء على بعض محطاتها المشرقة التي تكشف النقاب عن عطاءات حضارية مذهلة قدّمها هذا الوطن الصغير على المسرح العالمي الكبير، تاركاً بصماته الواضحة على صفحات التاريخ والتراث الإنساني العالمي.

ثالثاً: التراث
٤۷- الحضارة اللبنانية القديمة وصلت إلى ذروة مجدها في الحقبة الفينيقية الممتدّة من القرن الثاني عشر ق.م. إلى القرن الثالث ق.م. على وجه التقريب، وخلالها برزت كوكبة من العلماء والشعراء والفلاسفة الذين ساهموا إلى حدٍّ كبير في بناء الحضارة العالمية، لا بل كانوا ركيزتها الأساسية كما سنرى لاحقاً.

٤٨- حوالي الألف الثاني ق.م. اخترع أجدادنا الحروف الأبجدية اللفظية عندما كانت بقية الشعوب تستعمل الحروف التصويرية، وهذه الأبجدية غيّرت وجه العالم إذ بفضلها أصبح البشر قادرين على التواصل في ما بينهم والتعبير عن أفكارهم من خلال ٢٢ حرفاً فقط; وسرعان ما انتقلت هذه الأبجدية إلى بلاد اليونان عن طريق قدموس وأخوته ومنها إلى العالم، وما زالت إلى اليوم تستعملها معظم شعوب الأرض وتسمّيها زوراً الأحرف اللاتينية.

٤٩- ذهب قدموس وأخوته إلى جزر اليونان للبحث عن شقيقتهم “أوروبا” التي خطفها “زوس” كبير آلهة اليونان وجاء بها إلى جزيرة كريت ونصّبها ملكة عليها وأطلق إسمها على القارة التي تحمل اليوم إسم أوروبا، وكان ذلك حوالي العام ١٥٠٠ ق.م.

٥٠- زار قدموس وأخوته عدة جزر يونانية، ولمّا لم يعثروا على شقيقتهم خافوا أن يعودوا إلى والدهم “أجنور” Agenor ملك صور، فقرروا البقاء هناك، واستقرّ كل منهم في جزيرة حملت إسمهم وتولّوا الحكم عليها، والأخوة هم سيليكس Cilix، وتاسوس Thasus وفينيكس، أما قدموس فاستقر في جزيرة تيباس Thebes وأصبح ملكاً عليها.

٥١- مع قدموس وأخوته راحت الحضارة الفينيقية تغزو بلاد الإغريق بدءاً بالأبجديّة والنظام الديموقراطي وكافة فنون الآداب والشِعر والعلوم والفلسفة، وانتهاءً بفنون الملاحة والتبادل التجاري بين الشعوب، فكانت هذه الحملة الفينيقية-القدموسية الحافز الرئيسي في انطلاق الحضارة اليونانية.

٥٢- على ضفاف البحر المتوسط بنى أجدادنا إمبراطورية عظيمة دامت حوالي ٥٠٠ سنة قامت على نشر العِلم والمعرفة وفنون الكتابة والتجارة… إلخ، وليس بحدّ السيف كما سائر الإمبراطوريّات، ما يؤكّد مرّة جديدة أن شعبَنا منذ أن وُجد يكره العنف والحروب بطبيعته لأنه صاحب رسالة حضارية وإنسانية بامتياز.

٥٣- لقد وصلت سفن هذه الإمبراطورية إلى شواطىء أميركا الجنوبية والشمالية مروراً بأفريقيا وأوروبا، ما يعني أن الفينيقيين اكتشفوا القارة الأميركية قبل كريستوف كولومبوس بمئات السنين، ونقلت معها تلك السفن الحضارة الفينيقية إلى شعوب العالم بدءاً بالشعب الإغريقي الذي نقلها إلى روما ومنها إلى بلاد الغرب.

٥٤- يَذكر المؤرّخ أنظوان الخوري حرب في كتابه “إسم لبنان عِبرَ العصور” ان علماء الآثار وجدوا في العام ١٨٧٢ ميلادي على صخرة في البرازيل في ولاية باراهيبا Parahiba كتابات محفورة باللغة الفينيقية تقول ما يلي: وَصلنا إلى هنا ١٢ رَجُلاً وثلاث نساء على أيام ملكنا حيرام ونطلب من الآلهة أن تساعدنا”، عِلماً ان حيرام مَلَكْ على صور من العام ٩٨٠ إلى العام ٩١٧ ق.م. تقريباً حسب التوراة.

٥٥- وعلى ذكر روما يؤكّد المؤرخون ان بيروت كانت مركزاً لأقدم وأعرق مدرسة حقوق في العالم، وكان يرتادها نبلاء الإمبراطورية الرومانية، وتخرّج منها كبار المشرّعين ممن وضعوا القانون الروماني الشهير The Roman Code، ومن أبرزهم أولمبيانوس وبابينيانوس وكلاهما من أصول فينيقية; وعليه سُمّيت بيروت أمّ الشرائع.

٥٦- إعتمدت الممالك الفينيقية في صيدا وصور وجبيل النظام الديموقراطي أي حكم الشعب بالشعب، ومارسته بشفافية عالية على غرار ما تفعله اليوم أرقى الدول.

٥۷- كانت السلطة تتألف في المدن الفينيقية من مجلسين وحكومة، مجلس النواب كان يُنتخب من الشعب، ومجلس الشيوخ كان يضم النخب الثقافية والأدبية والأعيان.

٥٨- كانت الحكومة تحكم بثقة المجلسين، وتستقيل إذا سحب أحد المجلسين منها الثقة، أما إذا سحب المجلسان منها الثقة فكانت تذهب إلى الإعدام. وقد ترك المشرّعون هامشاً للرحمة حيث منحوا الكاهن الأعظم حق حجب الدم (سعيد عقل).

٥٩- وعندما اعتمد اليونانيون نظام الحكم الفينيقي الذي نقله إليهم قدموس واخوته، نسبوه إليهم كعادتهم وأطلقوا عليه تسمية Demos–Kratos، أي حكم الشعب أو سلطة الشعب، وعن اليونانيين أخذ الرومان نظام الحكم الديموقراطي، ومنهم انطلق إلى عالم الغرب، ويعني أن الديموقراطية هي اختراع فينيقي كالأبجدية، وان هذين الإختراعين قد خدما الحضارة الإنسانية كما لا أحد.

٦٠- في العام ٨١٤ ق.م. بنى الفينيقيون إمبراطورية ثانية حملت إسم قرطاجة أي  Qart–Hadasht أي المدينة الجديدة، أسستها إبنة ملك صور اليسار أو أليسا أو دَيْدون، فنَمَت وتوسّعت وتعاظم شأنها، فسيطرت على ساحل افريقيا الشماليّة، وامتدّت في عهد هَمِلْقار برقة وإبنه هنيبعل الكبير حتى وصلت إلى قرطاجنة أي قرطاجة الجديدة Cartago–Nova التي صار إسمها في ما بعد إسبانيا، ومن هناك انطلق هنيبعل في حملته العسكرية الشهيرة على الإمبراطورية الرومانيّة مروراً ببلاد الغال (فرنسا اليوم) وصعوداً إلى جبال الألب وصولاً إلى إيطاليا، وقد عُرفت هذه الحرب بإسم الحرب الفُوْنيّة Punic war أي الفينيقية.

٦١- احتلّ هنيبعل شمال إيطاليا ثم أجزاءً كبيرة منها بعد أن هزم الجيش الروماني في أكثر من موقعة، أهمها موقعة “كاناي” أو “كان” التي سحق فيها جيش العدو وقتل منه حوالي ٧٠ ألفاً وأسر عدّة آلاف، ثم وصل إلى ضواحي روما وحاصرها ١٥ سنة قبل أن يخسر معركة زاما ويعود أدراجه إلى قرطاجة التي ما لبثت أن سقطت في يد الرومان العام ١٤٦ ق.م. (جورج مصروعة)٬ والسؤال الكبير الذي يطرحه الجميع هو: لماذا امتنع هنيبعل عن دخول روما عندما كانت ساقطة عسكرياً؟؟؟ ولو فعل لكان غيّر وجه التاريخ.

٦٢- أكملت قرطاجة الرسالة التي بدأتها صور أي الإمبراطورية الأم، وبخاصة في مجال الملاحة والتجارة وعلوم الزراعة وفنون القتال التي برع فيها هنيبعل والتي ما تزال تُدرّس اليوم في أرقى المعاهد العسكرية في العالم باعتباره أحد أشهَر القادة في التاريخ.

٦٣- وإذا كانت قرطاجة (تونس اليوم) إبنة فينيقيا، فإن قرطاجنّة (إسبانيا اليوم) هي حفيدتها، لذلك تلاحظ ان اللهجة التي يتكلم بها أهل تونس وجوارها هي قريبة الشبه إلى اللهجة اللبنانية، وإذا ما سألتَ أهل مدينة فالنسيا Valencia الإسبانية الواقعة على شاطىء البحر المتوسط مباشرةً قُبالة الشاطىء اللبناني عن أصلهم يُجيبك العارفون منهم نحن فينيقيونSomos Phenicos٬ وبالقرب منها توجد مدينة إسمها إلى اليوم قرطاجنة، وليس بعيداً عنها تقع مدينة مرسيليا الفرنسية، وإسمها الأصلي مرسى ـ إيل أي مرفأ الإله التي كانت من أهم المرافىء الفينيقية.

٦٤- بنى الفينيقيون العديد من القلاع والصروح والمعابد تكريماً لآلهتهم في مختلف المناطق اللبنانية، وآثارها الباقية إلى اليوم تدل على براعتهم في فنون البناء والنحت والهندسة، وأشهر تلك الصروح على الإطلاق هي قلعة بعلبك ومعابدها الرائعة الجمال.

٦٥- من الخطأ الشائع القول بأن قلعة بعلبك هي رومانية، ولنا على ذلك عدّة دلائل نكتفي بثلاثة: الأول، إسمها العائد للإله الفينيقي بعل ملك الشمس، والثاني، القلعة القديمة الموجودة تحت القلعة الحالية بناها أجدادنا قبل العهد الروماني بأكثر من ألفي سنة، ثم قاموا في العام ٢٧ ق.م. ببناء القلعة الحالية فوق القلعة القديمة. الثالث، طريقة البناء والهندسة والشكل والنحت والنقوش كلها فينيقية وتختلف كثيراً عن الهندسة الإغريقية ـ الرومانية.

٦٦- أطلق الرومان على معابد بعلبك أسماء آلهتهم جوبيتير وفينوس وباخوس بدل آلهة الفينيقيين بعل وعشتروت وأدون، وذلك بفعل إحتلالهم للمنطقة، فاستنتج المؤرخون ان بناء القلعة تمّ على يد الرومان.

٦۷- جميع علماء الآثار الذين عاينوا قلعة بعلبك ودرسوا هندستها وطريقة تشييدها عجزوا عن تفسير السر وراء ضخامة الحجارة التي استُعملت في بناء القلعة، والتي يتراوح وزنها من ١٠٠ طن إلى ٣٠٠ طن وصولاً إلى “حجر الحُبْلى” الذي يزن ١٦١٥ طناً وهو أكبر حجر منحوت موجود على وجه الأرض.

٦٨- وأكثر ما أدهش هؤلاء العلماء هو الجمع بين ضخامة البناء وجماله في آنٍ معاً، عِلماً أن الضّخامة غالباً ما تتم على حساب الجمال، لذلك تفوّقت بعلبك بضخامة بنائها وأناقته على معبد البارثينون Parthenon اليوناني، ومعبد البانثيون Pantheon الروماني.

٦٩- أكثر ما حيّر هؤلاء العلماء هو اللغز وراء كيفية نقل تلك الحجارة الأضخم في العالم من مقلعها المجهول حتى الساعة، إلى مكان القلعة، وكيفية رفعها إلى جدران البناء، عِلماً أن التكنولوجيا الحديثة تعجز اليوم عن ذلك وبخاصّة حجر “الحُبْلى” المذكور أعلاه، مما دفع الباحثين وعلى رأسهم العالم الروسي “لاغريست” Lagrest إلى القول أن بُناة بعلبك هم جماعات أتوا من خارج كوكب الأرض وعلّموا أهل بعلبك فنون البناء وقفلوا راجعين إلى كوكبهم.

۷٠- خلال حقبة الإزدهار الحضاري الفينيقي لمعت أسماء كبيرة في حقول الشِعر والفلسفة والعلوم وغيرها، وما زالت عطاءاتها الفكرية فاعلة إلى اليوم في الحضارة العالمية، وتشكل الجزء الأكبر من أساساتها.

۷١- من المؤسف القول بأن التراث الفينيقي سُرق بمعظمه ونُسب إلى شعوب أخرى غير الشعب اللبناني، وبخاصة الشعب اليوناني، وهذا يعود إلى سببين رئيسيين: الأول، التلاقح الفكري الكثيف الذي حصل بين الشعب الفينيقي والإغريقي، واستمر لعقود طويلة جعلت الأمور تلتبس على الباحثين والمؤرخين وتَحْول دون التمييز بين الحضارتين. الثاني، إهمال اللبنانيين لتُراثهم على مَرّ الأجيال ما جعله سائباً وعرضةً للسرقة والنهب، من دون أن ننسى سوء النوايا عند الكثير من الباحثين والمؤرخين، وفي ما يلي أهم هؤلاء الأسماء.

۷٢- هوميروس، شاعر الشعراء وأعظمُهم في التاريخ القديم، وغالبية المراجع تشير إلى أنه إغريقي، إلى أن جاء المؤرخ الفرنسي فكتور بيرار Victor Berard (١٨٦٤-١٩٣١) الذي تخصص في البحث عن حياة وأعمال هذا الشاعر الكبير، وكتب عنه عدّة مؤلفات منها “الفينيقيون والأوْديسَّة” و “الفينيقيون وقصائد هوميروس”، وخَلُص إلى الإستنتاج بأن هوميروس فينيقي وليس إغريقياً.

۷٣- وما يؤكد هذه النظرية هو الغموض الذي اكتنف مكان وتاريخ ولادة هوميروس، فمنهم من حدّد تاريخ ولادته في العام ١٢٠٠ ق.م.، ومنهم الآخر حدّده في العام ٨٠٠ ق.م. في مكان ما من آسيا الصغرى، ما يُشير إلى أن الألياذة والأوديسة كُتِبَتا في حقبة إزدهار النهضة الفينيقية وقبل النهضة اليونانية بعدّة سنوات.

۷٤- موخوس الصيدوني، ولد حوالي ١٢٠٠ ق.م. في صيدا وهو أول من اكتشف نظرية الذرّة ولُقّب “بأبو الذرّة”، وجزم بأن هذه الذرّة قابلة للإنقسام والتجزئة وأطلق عليها تسمية Tomo أو Tomos (المؤرخ سترابون). حوالي العام ٥٠٠ ق.م. أي بعده بسبعماية عاماً ظهر في اليونان عالمان هما لوسيب Leucipp و ديموقريط Democrite فتبنّيا نظرية موخوس واعتبرا ان الذرّة لا تتجزأ وأطلقا عليها تسمية Atomos.

۷٥- المُضحك المبكي هو أن الذرّة اليوم تجزأت كما جزم موخوس منذ ثلاثة آلاف سنة ولكن إسمها لا يزال غلطاً، ولا بُدّ من تصحيحه بالعودة إلى تسمية موخوس Tomos.

۷٦- بيتاغور، فيلسوف وعالم عاش في القرن الخامس ق.م. والده تاجر من صور، ولد في جزيرة ساموس من أم يونانية، تعلّم في مدارس صور وجبيل ومن ثم تخرّج من مدرسة صيدا على يد تلامذة موخوس بحسب الفيلسوف جامبليك Jam Belik.

۷۷- طاليس، فيلسوف وعالم ولد حوالي العام ٥٤٧ ق.م. من أبوين فينيقيين بحسب المؤرخ هيرودوت، ويقول أفلاطون عنه انه يتحدّر من سلالة ملك صور أغنور وإبنه قدموس.

۷٨- اقليدس، فيلسوف وعالم لُقّب بِ أبو الجيومتري، ولد في صور حوالي منتصف القرن الرابع ق.م.، وانتقل إلى أثينا ثم إلى الإسكندرية حيث عاش وعلّم فيها.

۷٩- زينون، ولد في صور حوالي العام ٣٣٤ ق.م.، فيلسوف ومؤسس المدرسة الرواقية Stoicisme، عاش في قبرص واليونان، ومات حوالي العام ٢٦٢ ق.م.

٨٠- بورفير Porphyre، ولد في صور في العام ٢٣٤ ميلادي، فيلسوف اشتهر بشجرته التي تشرح الفرق بين النوعيّة والكمّية، وسيادة الأولى على الثانية، مات في العام ٣١٥.

٨١- يقول المؤرخ اليوناني سترابون ما يلي: “كل من يريد أن يتثقّف عليه الذهاب إلى مدارس صور وصيدا”، لذلك نجد ان معظم عمالقة الفكر في الفلسفة والعلوم والشِعر قد تخرجوا من تلك المدارس كما ذكرنا أعلاه.

٨٢- قد يعتقد البعض أن هناك مبالغة في ما قلناه عن نسب هؤلاء العمالقة وجذورهم باعتبار ان الإعتقاد السائد في العالم يعتبر انهم يونانيون، غير ان غالبية المراجع التي نستند إليها هي يونانية.

٨٣- وعلى هذا الأساس نقترح تشكيل لجنة تضم نخبة من الباحثين والمؤرخين اللبنانيين، تكون مهمتها جمع كل الوثائق والأدلة المتعلقة بهذا الموضوع الوطني الشديد الأهمية، وإرسالها إلى المراجع الدولية المختصة مثل اليونسكو والأنسيكلوبيديا، والويكيبيديا ومحرّك البحث غوغل وغيرها من أجل تصحيح هذا الخطأ التاريخي الفادح، واسترداد حق لبنان في تراثه المنهوب.

٨٤- سبق وقلنا ان اللبنانيين لم ينخرطوا في حروب خارجية خلال تاريخهم الطويل، بل حروبهم كانت كلها دفاعاً عن النفس وداخل حدود لبنان، وهذا التقليد القديم يعود إلى طبيعة الشعب اللبناني المحب للسلام والتسامح ونبذ العنف والإنفتاح الحضاري على العالم; ولكن عندما يتعلق الأمر بالدّفاع عن النفس والوطن يتحوّل اللبنانيون فجأة إلى محاربين أشدّاء يُتْقِنون فنون القتال كما لا أحد. وفي ما يلي بعض المحطات المشرقة والمشرّفة في تاريخنا النضالي والعسكري.

٨٥- بعد أن احتل نبوخذ نصّر ملك بابل مدينة القدس في العام ٦٠٥ ق.م. وسبَى أهلها إلى بلاده، جاء إلى صور وحاصرها في محاولةٍ لإخضاعها، ولكنها قاومته طوال ١٣ سنة وأرغمته على فكّ الحصار والعودة خائباً إلى بابل بعد أن وقّع معها معاهدة صلح.

٨٦- إجتاح أرتحششتا Artaxerxes ملك الفرس (٤٦٥ـ٤٢٤ ق.م.) المنطقة بجيش جرّار قوامه ٣٣٠ ألف جندي، ولما وصل إلى صيدا قرّر الملك “تينيس” تسليمه المدينة، فرفض الأهالي وقرروا المواجهة، فتولت قيادة الجيش الصيدوني فتاة يافعة إسمها عشتريم، فأمرت بتجنيد كل من هو قادر على حمل السلاح، وبإحراق الأسطول الحربي كي لا يستولي عليه العدو، وأيضاً بإحراق المدينة بمن فيها وما فيها لكي تَحْرُم الغازي نشوة النصر، ثم ذهبت لملاقاته على أرض المعركة.

يقول التاريخ أن عدد الذين قضوا حرقاً في المدينة بلغ حوالي ٤٠ ألفاً، وان ما أقدمت عليه صيدا هو أول وأكبر عملية إنتحار جماعي في التاريخ، ويقول أيضاً ان أرتحششتا اضطر إلى استدعاء المزيد من الحشود العسكرية إلى تلك المعركة.

٨۷- قبل أن يهزم الإسكندر المقدوني جيوش الفرس ويحتل بلادهم ويصل إلى الهند، جاء إلى فينيقيا في طريقه إلى مصر، فخضعت له جميع الممالك ما عدا مملكة صور التي قاومته بشجاعة أسطورية لم يكن يتوقعها، فبقيَ يتمرّغ تحت أسوارها سبعة أشهر عاجزاً عن اختراقها إلا بعد أن ردم البحر واصلاً صور البرية بصور البحرية، وكان ذلك في العام ٣٣٢ ق.م.

٨٨- إن الحروب الفُوْنية الثلاث التي نشبت بين روما وقرطاجة والتي أتَينا على ذكرِها سابقاً، دامت ١١٨ سنة أي من العام ٢٦٤ إلى العام ١٤٦ ق.م. وتُعَدّ أطول حروب تلك الأزمنة. عندما اجتاح هنيبعل إيطاليا واحتلها لمدة ١٥ عاماً، لم يفعل ذلك لأهداف توسّعية بل دفاعاً عن النفس تِبعاً لمبدأ أفْضَل دفاع هو الهجوم، وذلك بعد أن تمادت روما في تحدّي قرطاجة ومحاولة إذلالها وإخضاعها. أما لماذا لم يدخل هنيبعل مدينة روما وينهي الحرب لمصلحته، فهذا سرّ لم يكشفه أحد حتى الآن.

٨٩- في القرن السابع ميلادي اجتاحت جيوش الفتح العربي بلدان المنطقة برمّتها وبما فيها الساحل اللبناني ووصلت إلى أبواب أوروبا، ولكنها عجزت عن دخول جبل لبنان حيث تصدّى لها جيش المردة وراح يشنّ عليها هجمات متتالية لإجبارها على مغادرة الساحل، ما دفع بالغزاة إلى طلب الهدنة مقابل دفع جزية لأهل الجبل التي كانت كناية عن عدد من أكياس الذهب والخيول العربية (فؤاد افرام البستاني).

٩٠- في القرن السادس عشر ميلادي ظهر الأمير فخر الدين المعني الكبيرحاملاً في قلبه حلم التحرّر من الهيمنة العثمانية، وحلم توسيع حدود لبنان، ولبلوغ هذين الهدفين كان عليه أن يوحِّد الجبل ويكسر والي الشام الذي يشكّل الخطر الدائم على لبنان ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.

٩١- نجح فخر الدين في توحيد الجبل وضمّ جيش المردة إلى قواته، وسار على رأس الحملة العسكرية لملاقاة والي الشام، فأدركه في عنجر وهزمه شرّ هزيمة رغم تفاوت العدد، ثم أعلن استقلال لبنان الكبير الممتد من نواحي حلب إلى ما بعد عكّا، الأمر الذي أجبر السلطنة العثمانية على الإعتراف بهذا الواقع الجديد. وعلى هذا الأساس يُعتبر فخر الدين مؤسس الدولة اللبنانية الحديثة وباني استقلالها.

٩٢- حرص فخر الدّين شديد الحرص على التمسّك بهوية لبنان اللبنانية، فرفض عرضاً من السلطنة العثمانية لمنحه لقب أمير البحر والبرّ أو أمير عربستان، وأصرّ على لقب أمير لبنان، عِلماً انه غالباً ما كان يستعمل لقب أمير فينيقيا للتوقيع على مراسلاته.

كَثُرت الشائعات حول وفاة الأمير فخر الدّين في المنفى، إلى أن عثرنا في كتاب        Lebanon through writer’s eyes في الصفحتين ٨٩ و ١٥٨ على الرواية التالية: طلب فخر الدّين من السلطان مراد الرابع مَنحِه ربع ساعة من الوقت لكي يصلّي قبل إعدامه، فوافق السلطان معتقداً انه سيصلّي على الطريقة العثمانية، فركع الأمير على ركبتيه ورسم على وجهه إشارة الصليب، فصرخ السلطان بالسيّاف قائلاً: “اقتل فوراً هذا الخنزير المسيحي”. وعندما نزعوا ثيابَه بعد إعدامه وجدوا صليباً من ذهب معلّقاً على صدره يشبه في شكله صليب اللورين LORRAINE. وإذا صحّت هذه الرواية يكون فخر الدّين قد مات شهيداً مسيحياً.

٩٣- يوسف بك كرم (١٨٢٣ ـ ١٨٨٩)
سأله “الصدر الأعظم” كيف تحضر أمامي وسيفك على خصرك؟، فأجاب: هذا سيف لبنان، إذا سقط من يدي سقط لبنان.
هو إبن بطرس كرم حاكم إهدن وجوارها، تميّز بشجاعة نادرة مقرونة بالحكمة والغيْرية والسيرة النقيّة، ومَحبة لبنان بعد الله.
رفض الرضوخ للإحتلال العثماني، فثار عليه وأنشأ جيشاً من ماله الخاص، فأرسل “الباب العالي” عدّة حملات عسكرية لقمع ثورة يوسف كرم، فواجه هذا الأخير الجيش العثماني الجرّار في ١٢ موقِعة، انتصر فيها جميعاً انتصاراً ساحقاً، بالرّغم من اختلال ميزان القوى بشكل كبير لصالح العثمانيين.

٩٤- وعلى سبيل المثال نذكر معركة بنشعي الكبرى في ٢٨/١/١٨٦٦ كنموذج عن تلك المعارك، حيث تمكّن يوسف كرم على رأس ٤٠٠ مقاتل من دحر الجيش العثماني المؤلف من ٥٠٠٠ خمسة آلاف جندي، فهزمه شرّ هزيمة ولحق بفُلُولِه الهاربة حتى مداخل طرابلس، فقتل منه حوالي الألف جندي وغَنِم ٦٠٠ بندقية و ٣٠ برميلاً من البارود، ولم يخسر سوى ثمانية شهداء فقط.

٩٥- وصلت شهرة يوسف كرم إلى أقاصي الأرض، فسارعت السلطنة إلى البحث عن حل سياسي للتخلص منه بعد أن فشلت عسكرياً في ذلك، فاتفقت مع قناصل الدول الغربية على إبعاده بموافقة البطريرك الماروني وبتواطؤ من قنصل فرنسا.
حصل الإجتماع في بكركي بحضور جميع المعنيين، وحضر يوسف كرم أيضاً، وعندما أبلغوه قرار الإبعاد قال جملته الشهيرة: “إذا كان الخيار أن أموت أنا ويحيا الشعب، فمرحباً بالموت وليعيش شعبي ويعيش لبنان”.
وسط وداع شعبي حاشد، غادر يوسف بك كرم لبنان في ٣١/١/١٨٦٧ على متن بارجة حربية فرنسية أرسلها له نابليون الثالث.
تنقّل في عدّة بلدان أوروبية محاولاً العودة إلى لبنان ولكنه لم ينجح، فتوفي في مدينة رازينا الإيطالية بتاريخ ٧ نيسان ١٨٨٩. وكأن قدر الأبطال الأنقياء أن ينتهوا في المنافي كما انتهى فخر الدين من قبله.

٩٦- في العام ١٩٥٨ حاول جمال عبد الناصر ضمّ لبنان بالقوة إلى الوحدة المصرية ـ السورية التي سُمّيت يومذاك “الجمهورية العربية المتحدة”، فقاومه اللبنانيون الأحرار برئاسة كميل شمعون وأعادوه خائباً إلى بلاده، وبعد أشهر قليلة سقطت هذه الوحدة غير المأسوف عليها، وساهمت لاحقاً في سقوط كل محاولات الوحدة بين باقي الدول العربية.

٩۷- في العام ١٩٧٥ انطلقت الحرب الفلسطينية على لبنان بزعامة ياسر عرفات تؤازرُه كافة المنظمات والفصائل الفلسطينية، وعدداً من المنظمات الإرهابية مثل منظمة بدرماينهوف الإلمانية، والجيش الأحمر الياباني، والألوية الحمراء الإيطالية، وكارلوس الإرهابي، وعدد كبير من المرتزقة العرب والأفارقة، إضافة إلى دعم كافة الأنظمة العربية وعلى رأسها النظام السوري عِبرَ جيش التحرير الفلسطيني ومنظمة الصاعقة… إلخ. وذلك تنفيذاً للمخطط الأميركي الذي أعدّه هنري كيسنجر والقاضي بإعطاء لبنان إلى الفلسطينيين وطناً بديلاً عن وطنهم تمهيداً لحل الصراع العربي ـ الإسرائيلي.

٩٨- نجح كيسنجر في الحصول على تأييد معظم الدول العالمية بما فيها الدول “الصديقة” كفرنسا مثلاً، ونجح أيضاً في تأليب اللبنانيين على بعضهم، وتحييد الجيش تمهيداً لانهياره. أما الإتحاد السوفياتي فكان مرتبطاً بمعاهدات صداقة ودفاع مع ياسر عرفات وحافظ الأسد.

٩٩- وبالرغم من كل ذلك، وخلافاً لكل التوقعات والنصائح بعدم المواجهة والتسليم بالأمر الواقع، وقف اللبنانيون الشرفاء وقفة واحدة، فارتجلوا جيشاً بديلاً معظم أفراده من تلامذة المدارس والجامعات، وراحوا بسلاح فردي وبدائي يتصدّون لهذه الغزوة ـ المؤامرة.

١٠٠- لم تمضِ أشهر قليلة حتى انتقل اللبنانيون من موقع الدفاع إلى موقع الهجوم، وراحوا يهاجمون المنظمات الفلسطينية في معاقلها أي في مخيماتها التي تحوّلت إلى معسكرات، فبدأت تسقط تباعاً وعلى رأسها معسكر تل الزعتر الشديد التحصين، معلِنةً إنتصار المقاومة اللبنانية على هذا المخطط الدولي الجهنمي.

١٠١- سُمّيت هذه الحقبة بحرب السنتين، وفي أثنائها هاجم الفلسطينيون عدّة بلدات وقرى مسيحية نائية في عكار وشكّا والدامور والعيشية وارتكبوا فيها أبشع المجازر بحق أهاليها العزّل جلّهم من الأطفال والنساء والشيوخ أين منها مجازر التتر والمغول مجسّدةً قمّة الحقد الفلسطيني تجاه شعبٍ ذنبه الوحيد انه استضافهم على أرضه عشرات السنين.

١٠٢- المُلفت للنظر ان الإعلام الدولي، تمشّياً مع المخطط المذكور، مارس سياسة التعتيم على تلك المجازر، ولم يسلط الضوء إلّا على الخسائر التي لحقت بالفلسطينيين، وأبرزها مجزرة صبرا وشاتيلا عام ١٩٨٢ التي نستنكرها جميعاً، فساد الإعتقاد لدى الرأي العام العالمي ان صبرا وشاتيلا كانت المجزرة الوحيدة التي حصلت خلال هذه الحرب، وما زال هذا الإعتقاد سائداً حتى اليوم.

١٠٣- على إثر وقوع مجزرة شكّا، وحّدت قوّات الشمال في إهدن وبشرّي صفوفها وشنّت هجوماً كاسحاً على منطقة الكورة التي كانت معقلاً حصيناً للمنظمات الفلسطينية واليسارية، ولاقتها من الساحل قوّات من أحزاب الجبهة اللبنانية، فسقطت الكورة خلال ساعات معدودة، ووصلت قوّات المقاومة اللبنانية إلى مدخل طرابلس في البحصاص، وتوقفت هناك مُحْجِمةً عن دخول المدينة خوفاً من أن تأخذ الحرب طابعاً طائفياً.

١٠٤- بعد تحرير المناطق الشرقية من كفرشيما إلى الأرز، عقد عدد من ضبّاط الجيش، أو من تبقى منهم، إجتماعاً في ثكنة الفياضية في آب ١٩٧٦، بحثوا فيه خطة عسكرية لإسقاط المنطقة الغربية من بيروت، تتألف من ثلاث مراحل: الأولى، تقضي بالوصول إلى عاليه صعوداً من الكحّالة، الثانية، متابعة السير نحو سوق الغرب، والثالثة، النزول إلى خلدة وتطويق المنطقة الغربية من الخلف.

١٠٥- طلب هؤلاء الضبّاط الإجتماع بنا، بشير الجميّل وداني شمعون وممثل عن التنظيم وأنا (اتيان صقر)، ولما عرضوا علينا هذه الخطّة وافق الجميع عليها، بينما أنا تحفظت على المرحلة الأولى منها، ورفضت الإشتراك بها لأنها قد تشعل حرباً بيننا وبين الطائفة الدرزية، واقترحت أن نذهب مباشرة إلى سوق الغرب عن طريق القماطيّة، وعندما أصرّوا على رأيهم، وضعت مقاتلي حرَّاس الأرز في حالة تأهّب في مكان قريب من الكحّالة استعداداً للإنطلاق إلى سوق الغرب وخلدة في حال نجاحهم في الوصول إلى عاليه.

١٠٦- فشلت المهمّة بعد وقتٍ قليل على انطلاقها إذ سقط عدد كبير من عناصر الفرقة المهاجمة عند اجتياز منطقة ضهر الوحش.

قصدنا تدوين هذه الواقعة لسببين، الأول، للدلالة على المعنويات العالية التي كانت تتمتع بها المقاومة اللبنانية بُعَيدَ تحرير المناطق الشرقية صيف العام ١٩٧٦; والثاني٬ لدحض مزاعم السوريين وأعوانهم القائلة بأن الجيش السوري جاء إلى لبنان لإنقاذ “المسيحيين” من الهلاك، عِلماً ان هذه الإشاعة انطلقت قُبيل دخول السوريين إلى المناطق الشرقية، وسرَت بين الناس، وما زالت سارية إلى اليوم.

إذاً الحقيقة الساطعة هي ان جيش الإحتلال السوري دخل لبنان يوم كان “المسيحيون” في عز قوتهم وذروة انتصاراتهم.

١٠۷- أما لماذا وافق زعماء الجبهة اللبنانية على دخول جيش الإحتلال السوري إلى المناطق الشرقية المحرّرة للتو من الإحتلال الفلسطيني، فنضع علامات استفهام كبرى أمام هذا السؤال ونتركه للتاريخ، رغم أننا نملك بعض المعلومات عن هذا الموضوع ونتحفظ عن ذكرها.

١٠٨- لم تدم فرحة المقاومة اللبنانية بانتصاراتها طويلاً إذ قرّرت الإدارة الأميركية بالإتفاق مع حافظ الأسد إرسال الجيش السوري إلى لبنان لوقف “الحرب الأهلية”، فدخل تحت تسمية خادعة هي “قوات الردع العربية” بأعداد كبيرة فاقت الأربعين ألفاً، مصحوبة بدباباته ومدافعه وترسانته الثقيلة والخفيفة، ترافقه حفنة من الجنود الخليجيين والأردنيين والليبيين بقصد التمويه ولم تلبث أن غادرت تاركةً جيش الإحتلال السوري يتحكّم بمصير لبنان ٣٠ عاماً.

١٠٩- استطاع حافظ الأسد بدهائه المعروف إقناع زعماء الجبهة اللبنانية بالموافقة على دخول جيشه إلى المناطق المحرّرة كما ذكرنا، عندها طلبتُ أنا من الشيخ بشيرالذي كنا قبل أيام معدودة، قد انتخبناه قائداً للقوّات اللبنانية، أن يدعو إلى اجتماع طارىء مشترك بين القوّات والجبهة لبحث هذا الموضوع الخطير، بعد أن حاولتُ عبثاً إقناع الرئيس شمعون والشيخ بيار والرئيس الياس سركيس برفض هذا الدخول.

١١٠- تمّ عقد هذا الإجتماع في اليوم التالي في قيادة حزب حرَّاس الأرز التي كانت في الوقت عينه المقرّ المؤقت للقوَّات اللبنانية، وحضره جميع أعضاء الفريقين، فكان الإجتماع قصيراً وفاشلاً لأن الجميع كان موافقاً سلفاً على المبادرة السورية، ولأن ما كتب قد كتب.

١١١- عندها اتفقنا في قيادة حزبنا على ضرورة إتخاذ موقف ما للتعبير عن رفضنا لهذه المبادرة ـ المؤامرة، فدعونا في اليوم التالي إلى مؤتمر صحافي عقدناه في مركز الحرَّاس في منطقة السبتية، وأعلنّا خلالَه الإعتصام في مكان ما في الجبل، فانتقلنا من الأشرفية إلى العاقورة، ثم إلى تنّورين ثم إلى عيون السّيمان وانتهينا في دير مار يوحنا في الخنشارة بسبب قساوة الطقس.

١١٢- حصل هذا في شتاء العام ١٩٧٦ـ١٩٧٧، وعندما حلّ العام ١٩٧٨ كان كيل أهالي المنطقة الشرقية قد طفح من تجاوزات الجيش السوري، فقررنا طرده من هذه المناطق بالإتفاق مع رفاقنا في أحزاب الجبهة اللبنانية. وبوقت قصير تمكّنتْ قوّات هذه الأحزاب من تطويق مراكز السوريين، وبخاصةٍ مقار قيادتهم في برج المرّ وبرج رزق وبناية حبيش وبناية كرم الزيتون ومحاصرتهم بشكل مُحكم، فدارت بيننا وبينهم معارك ضارية دامت حوالي الشهر أدّت إلى مقتل عدد مرتفع من السوريين المحاصرين الذين راحوا يطلبون من قيادتهم الإستسلام كما أفادتنا أجهزة التنصّت.

١١٣- عندها أمر حافظ الأسد قواته بالإنسحاب من المناطق الشرقية، فراحت تخلي مراكزها الواحد تلو الآخر مجرجِرةً وراءَها أذيال الهزيمة، فكان هذا المشهد أروع ما شاهدناه في هذه الحرب، لا يضاهيه روعة إلّا المعسكرات الفلسطينية وهي تسقط تباعاً وتستسلم إلى المقاومة اللبنانية من تل الزعتر إلى جسر الباشا إلى النبعة إلى ضهر الجمل وضبية والكرنتينا.

١١٤- وهكذا تحرّرت مناطقنا للمرّة الثانية من إحتلال كان يحلم بضمّ الكيان اللبناني إلى الكيان السوري، غير ان الفرحة لم تدم طويلاً لأن حافظ الأسد قرّر الإنتقام على طريقته الوحشية المعهودة، فزرع الجبال المطلّة على بيروت الشرقية بعشرات المدافع والراجمات الصاروخية المتعددة الأفواه، وراح يقذف بها عشوائياً الأحياء السكنية ليلاً نهاراً وعلى مدى أسابيع متواصلة حتى أصبحت المناطق المحرّرة مناطق مدمّرة حيث سقط العديد من الضحايا، سيّما وان الصواريخ والقذائف طاردت الأهالي إلى ملاجئهم، وبخاصة قذائف المدفعية من عيار ٢٤٠ ملم المحظورة دولياً.

كل هذه الأحداث حصلت في صيف ١٩٧٨ وأُطلق عليها إسم حرب المئة يوم.

١١٥- إذاً المحطّات التي تألقت فيها المقاومة اللبنانية خلال الحرب الفلسطينية ـ السورية على لبنان هي ثلاث. المحطة الأولى، تمثلت في ارتجال جيش بديل عن الجيش اللبناني والصمود في وجه أخطر مؤامرة دولية على لبنان نفّذتها المنظمات الفلسطينية وحلفاؤها. المحطة الثانية، تمثلت في الإنتقال من مرحلة الصمود إلى مرحلة الهجوم، ومحاصرة المعسكرات الفلسطينية وإسقاطها. المحطة الثالثة، محاصرة القوات السورية وطردها من المناطق الشرقية ولكن بثمن مرتفع من الشهداء المدنيين والدمار الهائل… إلى أن جاء العام ٢٠٠٥ حيث انتفض الشعب اللبناني كلُه في وجه الإحتلال السوري، فانطلق في تظاهرة مليونية أدّت إلى طرده من كافة المناطق اللبنانية.

١١٦- اللافت للنظر هنا ان المناطق الشرقية تحرّرت ثلاث مرّات بدلاً من مرة واحدة، الأولى، عام ١٩٧٦، الثانية، العام ١٩٧٨، الثالثة، العام ٢٠٠٥، والسبب يعود دائماً إلى الأخطاء السياسية التي اقترفتها القيادات المارونية، ما يعني ان الأداء العسكري للمقاومة اللبنانية كان باستمرار متفوّقاً على الأداء السياسي.

١١۷- في آذار ١٩٨١ فرض السوريون حصاراً خانقاً على زحلة تمهيداً لاحتلالها، فرفض الأهالي وقرروا المواجهة، فسارع الشيخ بشير إلى دعمهم لوجستياً وعسكرياً، ثم أرسل إليهم عن طريق الجرد مئة مقاتل بقيادة جو إدّة بينهم ٢٢ مقاتلاً من حرَّاس الأرز بقيادة كيروز بركات حيث اتخذوا من حوش الأمراء مقرّاً لهم.

١١٨- إستبسل الزحليون كعادتهم في الدفاع عن مدينتهم بالرغم من موقع المدينة المعزولة جغرافياً عن المناطق الشرقية، ومن اختلال ميزان القوى بين المهاجمين الذين استخدموا كعادتهم كل أنواع القذائف والصواريخ وحتى سلاح الجو لتدمير الأحياء والمنازل على رؤوس الأهالي، وبين المدافعين الذين تصدّوا لهم بأسلحة فردية مقرونة بشجاعة نادرة.

١١٩- بعد ثلاثة أشهر من المعارك الضارية والصمود الرائع من قبل الأهالي، توقف القتال نتيجة الضغوط السياسية الهائلة التي مارستها الجاليات اللبنانية عامة والزحلية خاصةً على عواصم القرار، فاحتفلت زحلة ومعها اللبنانيون الأحرار بالإنتصار على الغزاة، ولكن بثمن مرتفع دفعته من دماء شهدائها ومن خراب غير محدود في المنازل والأحياء والمحال التجارية، مع الإشارة إلى أن خسائر العدو فاقت بكثير خسائر زحلة بالأرواح والعتاد العسكري.

١٢٠- في ٦ حزيران ١٩٨٢ اجتاحت القوّات الإسرائيلية لبنان من جنوبه إلى عاصمته، وقضت على المنظمات الفلسطينية في صور وصيدا وبيروت، وأرغمت ياسر عرفات على مغادرة لبنان مع ١٥ ألف من كوادره، ودفعت بالقوات السورية للإنسحاب من بيروت إلى البقاع، الأمر الذي مهّد الطريق أمام الشيخ بشير للوصول إلى سدّة الرئاسة ومن بعده الشيخ أمين، غير ان القيادات المارونية كعادتها لم تُحسن التعامل مع هذا الحدث الإستثنائي الذي أتاح لها فرصة إغلاق جبهة الجنوب نهائياً باعتبارها بوابة الحرب والسِلم، وإرغام القوات السورية على الإنسحاب من لبنان تزامناً مع إنسحاب القوات الإسرائيلية.

١٢١- وتمشّياً مع سياسة إضاعة الفرص التي أتْقنها زعماء الموارنة عمد هؤلاء إلى إلغاء إتفاق ١٧ إيّار الذي وافق عليه مجلس النواب بالإجماع وبدون إكراه، الأمر الذي أدّى إلى انسحاب القوات الإسرائيلية من طرف واحد، وعودة قوات الإحتلال السوري إلى بيروت كسابق عهدها، ما يعني عودة الحرب إلى المربّع الأول.

١٢٢- وإمعاناً في ارتكاب الأخطاء المميتة، أرسلت تلك القيادات قواتها إلى الشوف لمقاتلة الدروز والإنخراط في معركة طائفية لا معنى لها ولا هدف سوى تفتيت الجبل وتهجير “المسيحيين” من بيوتهم وقراهم إلى المناطق الشرقية.

١٢٣- هناك من يخلط ما بين المقاومة اللبنانية والقوات اللبنانية، الأولى عمرها من عمر لبنان، وتمثلت في مقاومة الغزوات المتتالية التي ضربت هذا البلد عِبرَ العصور، وكان لنضالها المستمر في الزمان والمكان الفضل الأول في بقائه صامداً إلى اليوم، وقد اتخذت عدّة أسماء منها الجراجمة والمردة والمقدَّمين… إلخ. بينما الثانية تأسست في صيف ١٩٧٦ أي مباشرة بعد تحرير معسكر تل الزعتر وملحقاته على يد المقاومة اللبنانية; وقد تمّ ذلك بعد عدة إجتماعات عُقدت بين أحزاب الجبهة اللبنانية في مقر قيادة حزب حرَّاس الأرز، وانتهت بالإتفاق على توحيد البندقية والقيادة في هيئة عسكرية واحدة دُعيت القوّات اللبنانية، وبانتخاب الشيخ بشير الجميّل قائداً لها، وهدفها الأول منع الإقتتال الداخلي.

١٢٤- إرتَكبَتْ هذه الهيئة خطأين أساسيين أدّيا إلى انتحارها: الأول، إنحرافها عن مسارها العسكري المرسوم لها في نظامها الداخلي إلى المسار السياسي فأصبحت حزباً فوق الأحزاب بدلاً من أن تكون ذراعها العسكري، فتحوّلت إلى أداة للوصول إلى السلطة. الثاني، إنخراطها في نزاعات وحروب داخلية أشد ضراوة وأكثر دموية من كل المعارك التي خاضتها المقاومة اللبنانية ضدّ الإحتلالين الفلسطيني والسوري، إبتداءً من مجزرة إهدن ١٩٧٨ مروراً بمجزرة الصفرا ١٩٨٠، فحرب الجبل ١٩٨٣، فحرب الإلغاء بين القوات والجيش ١٩٩٠ التي قضت على كل تضحيات المقاومة اللبنانية وإنجازاتها ومكتسباتها; من دون أن ننسى عملية تهجير شرق صيدا الغامضة وغير المبرّرة ١٩٨٥، والإنتفاضة الثانية ١٩٨٦غير الشرعية وغير المبرّرة أيضاً.

الخاتمة:
لقد سلّطنا الضوء في هذه الدراسة الموجزة على المحطّات المشرقة من تاريخنا المجيد، ولم نأتِ على ذكر المحطّات المظلمة إلّا عَرَضاً، ذلك لأننا نعيش اليوم أسوأ مرحلة سياسية في تاريخنا الحديث والمعاصر، والسبب الأول هو منظومة لبنان السياسية الحالية الجاهلة والفاسدة والمارقة بمعظمها التي تخصّصت في نهب أموال الشعب، وتدمير كيان الدولة تدميراً منظّماً وممنهجاً، والسبب الثاني هو حركة التاريخ التي تتحكم بمسار الأمم ومصيرها تبعاً لمبدأ الصعود والهبوط في دورة الزمان الجيّد حيناً والسيّىء حيناً آخر.
نحن على يقين ان لبنان سوف يتجاوز حتماً هذه المرحلة القاتمة كما فعل دائماً عِبرَ التاريخ، وكأن القدر قد حَكم عليه أن يُعايش الأخطار ليتغلّب عليها، وأن يصارع الموت لينتصر عليه.
كم من الأمم نشأت ونَمَتْ وتوسّعت ثم زالت واندثرت ولم يبقَ منها سوى الذكرى، بينما لبنان نشأ ونما وعاش في قلب الخطر، فبقى واستمرّ، وسيبقى وسيستمرّ.
صحيح ان لبنان بلدٌ صغيرُ المساحة إذا ما قيس بالأميال المربّعة، ولكنه من أكبر بلدان العالم إذا ما قيس بالأميال المكعّبة، أي عمقاً وارتفاعاً.
أليس هو وطن أدونيس، الأسطورة الذي كان يموت وينهض من موته في اليوم الثالث؟؟؟
ووطن الفينيق، الطير الأسطورة الذي كان يحترق ثم ينهض من رماده ليعود إلى التحليق من جديد؟؟؟
الجواب نعم.
لبَّـيك لبـنان
اتيان صقر ـ أبو أرز