ابو أرز- اتيان صقر: الوطن الأسطورة … لبنان القداسة والتاريخ والبطولة والرسالة/الجزء الأول- الأرض

302

الوطن الأسطورة …  لبنان القداسة والتاريخ والبطولة والرسالة (الجزء الأول)..الأرض
ابو أرز- اتيان صقر/21 شباط/2022

اضغط هنا لقراءة الجزء الأول
اضغط هنا لقراءة الجزء الثاني
اضغط هنا لقراءة الجزء الثالث

المقدمة: الحديث عن لبنان يبدأ ولا ينتهي، حكايته عمرها من عمر التاريخ، وسردها بكل فصولها يتطلب مجلدات عديدة، لذلك اعتمدنا الإيجاز في مقاربة هذه الحكاية التي تشبه الأساطير في فرادتها وروعتها، وسنسلط الضوء على بعض محطاتها المشرقة التي تكشف النقاب عن عطاءات حضارية مذهلة قدّمها هذا الوطن الصغير على المسرح العالمي الكبير، تاركاً بصماته الواضحة على صفحات التاريخ والتراث الإنساني العالمي.

أولاً: الأرض         

١- لبنان هو أول أرض حملت إسماً في التاريخ كما يقول المؤرّخ البريطاني أرنولد توينبي Arnold J. Toynbee، وأوّل الأسماء التي حملها كان “أرض إيل” أي أرض الله، وإيل هو إله اللبنانيين منذ أقدم العصور، وهذا الإسم نجده بكثرة في ملاحم أوغاريت – رأس شمرا في شمال لبنان.

٢- وبحر لبنان كان يسمّى “بحر إيل” أي بحر الله، وحقوله “حقول إيل” أي حقول الله، ومرادفها باللغة الفينيقية “شدوم – ايلوم”، ومن هذه الكلمة أطلق الفرنسيون تسميتهم على أجمل بقعة في عاصمتهم “الشان – ايليزه” بحسب توينبي.

٣- المؤرّخ البيروتي الفينيقي سنخوني – أتن الذي عاش في القرن الرابع عشر ق.م.، والذي شرح مخطوطاته فيلون الجبيلي، ونقل عنه أوزيب الإغريقي، يقول إن اسم لبنان سابق لإسم فينيقيا بآلاف السنين، ما يعني أن فينيقيا لبنانية وليس العكس، وإننا لبنانيون قبل أن نكون فينيقيين.

٤- عُرف لبنان أيضاً بإسم كنعان، وكنعان أوّل من سمّى نفسه “فينيكس”، وفينيكس إتّخذ لنفسه شعاراً هو النسر الذي كان رمز القيامة من الموت في الطقوس الفينيقية، ومن كنعان – فينيكس إشتق الفينيقيون إسمهم حوالي الألف الثالث ق.م.

٥- بينما بعض المؤرخين يعتقدون أن اسم فينيكس يعني اللون الأحمر باللغة اليونانية القديمة، وقد أطلق اليونانيون هذا الإسم على اللبنانيين نسبةً للون الأرجوان الذي استخرجوه من صدفة الموريكس واستعملوه في صباغة ثيابهم وأشرعة سفنهم.

٦- وبحسب المؤرخين ديودور و هيرودوت كان لبنان يُعرف أيضا بجبل الطيوب حيث كانت تنتشر رائحة أطيابه على طول الشاطىء اللبناني، لذلك جاء في نشيد الأناشيد للملك سليمان: “رائحة ملابسكِ يا حبيبتي عطره كلبنان”، فتٌجيبه، وأنت يا حبيبي بهيٌّ كلبنان.

۷- وعُرف لبنان أيضاً بأرض اللبن والعسل، إذ كانت أرضُه تُدعى أرض البحبوحة التي “يجري فيها اللبن والعسل أنهاراً”، ولا يزال حتى اليوم في لبنان نبعان يحملان إسمي نبع اللبن ونبع العسل.

٨- ويرى بعض الباحثين أن إسم لبنان مشتق من كلمة لبن التي تعني اللون الأبيض باللغة العبرية، نسبةً للثلوج التي تُكلّل قمم جباله طوال أيام السنة.

٩- يختصر جواد بولس تعريف جغرافية لبنان بأنها حلف بين الجبل والساحل، وقد يكون هذا الحلف هو السّر في ديمومة هذا البلد وشعبه على مَرّ العصور، فالجبل هو الذي تولّى حمايته من الغزاة والطامعين به، والساحل فتح له واسعاً آفاق البحر الذي بنى عليه أمجاده ومستعمراته ومغامراته الأسطورية التي أكسبته شهرةً عالمية في فنون الملاحة والتبادل التجاري، وأغدقت عليه ثروات طائلة.

١٠- هذا الحلف وهب الإنسان اللبناني خصائص مميّزة ومتلازمة في شخصيته. فالجبل وهبه روح الصلابة والصمود والتحدّي والقدرة على تحمّل شظف العيش وعُشق الحرية والتشبث بالأرض والدفاع عنها حتى الإستشهاد.

١١- والسّاحل وهبه روح الإنفتاح والمغامرة والطّموح والبراعة في فنون الملاحة التي مكّنته من الدوران حول الكرة الأرضية بحراً، واكتشاف أميركا قبل كريستوف كولومبوس بآلاف السنين كما سنرى لاحقاً.

١٢- أما سهل البقاع الواسع والخصب الواقع بين السلسلتين الجبليتين الغربية والشرقية، فقد وهب أهله روح الكرم والسخاء، وإتقان فنون الزراعة على أنواعها، حتى قيل عنه في زمن الرومان أنّه كان يغذّي ذات يوم إهراءات روما بالقمح.

١٣- جغرافية لبنان كناية عن كتلة جبلية مستطيلة واحدة ومتراصة، تحدّها الصحراء من الشرق (بادية الشام)، والبحر الأبيض المتوسط من الغرب، ولها ساحل ضيّق نسبيّاً يمتد على ضفاف هذا البحر من النهر الكبير شمالاً إلى الناقورا جنوباً بطول ٢٢٥ كلم تقريباً.

١٤- وهذه الكتلة الجبليّة تتألف من سلسلتين جبليتين متوازيتين كما أشرنا أعلاه:

الأولى، السلسلة الغربيّة٬ وتمتد من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب من دون انقطاع، وعلى سفوحها المطلّة على البحر تنتشر معظم البلدات والقرى اللبنانيّة، ما يعني ان وجهة لبنان التاريخية هي البحر الذي كان عِبرَ التاريخ وما يزال الرئة التي يتنفس منها.

الثانية، السلسلة الشرقيّة، وتمتد هي الأخرى من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب ومن دون انقطاع، وتفصل لبنان عن الصحراء العربيّة، وتنتهي سفوحها عند بادية الشام شرقاً.

١٥- هاتان السلسلتان الجبليتان اللتان تفصلان لبنان عن الصحراء العربيّة فصلاً تامّاً ومُحكَماً، قد اعتبرهما الدكتور فؤاد افرام البستاني بمثابة “خطَّي الدّفاع” الذين شكّلا حاجزاً طبيعياً ومنيعاً في وجه الغزوات الصحراوية التي توالت عليه عبر الأزمنة، وما تزال حتى اليوم.

١٦- وبالعودة إلى هذا الحلف بين الجبل والسّاحل، نعتقد أنّه كان عاملاً أساسياً في تأسيس وازدهار الممالك الفينيقية العظيمة:

مملكة صور كانت تمتد من الساحل صعوداً إلى جبال الجليل.

مملكة صيدا كانت تمتد من الساحل صعوداً إلى جبال جزين.

مملكة جبيل كانت تمتد هي الأخرى من الساحل صعوداً إلى جبال أفقا ـ العاقورة.

وكانت تفصل بين هذه الممالك مجاري الأنهر التي كانت تنساب من سفوح الجبال إلى البحر.

١۷- أمّا طرابلس فكانت العاصمة “الفيديرالية” لتلك الممالك التي كانت تجتمع فيها دورياً للتنسيق في ما بينها، وعلى هذا الأساس أطلقوا عليها إسم Tri–Poli، وهذا يعني أن نزعة التوحّد في دولة واحدة وقوميّة واحدة كانت تراود الشعب اللبناني منذ أقدم العصور.

١٨- وهذا الحلف قد يكون أيضاً وراء ظاهرة امتلاك معظم اللبنانيين منزلين، واحد في الساحل للسكن الشتوي، والثاني في الجبل للسكن الصيفي، وهذه ظاهرة قد تكون فريدة في قِدمها ونوعها.

١٩- والظاهرة الأخرى لهذا الحلف هي إمكانية ممارسة السباحة في البحر والتزلج على الثلج في غضون نصف ساعة تقريباً، نظراً لقرب المسافة بين الساحل والجبل، وهي أيضاً ظاهرة فريدة في العالم.

٢٠- وبما ان التاريخ إبن الجغرافيا كما يقول جواد بولس، وان الإنسان هو إبن الأرض، فقد طَبَع حلف الجبل والبحر الشعب اللبناني بطابع خاص يتمثل في الجمع بين إتقان فنون القتال في زمن الحرب، وفنون التعامل التجاري في زمن السِلم.