نديم قطيش/إنصافاً لبشير الجميّل

131

إنصافاً لبشير الجميّل
نديم قطيش/أساس ميديا/26 آب/2024

يحتلّ رئيس الجمهورية الراحل بشير الجميّل، الذي مرّت ذكرى انتخابه الـ 42، في 23 آب الفائت، موقعاً معقّداً في تاريخ لبنان الحديث. جسّد بشير فكرة القومية اللبنانية الجامعة بحماسة غير مسبوقة في بلد مزّقته الهويّات المتضاربة التي كان هو جزءاً من صراعاتها الدامية.
عبّر بشير الجميّل عن رؤية وطنية ترتكز على إحساس عارم بالسيادة والاستقلال ومناهضة حاسمة للتأثيرات الخارجية، على الرغم من أنّ وصوله للرئاسة ما كان ممكناً بغير توظيف الاجتياح الإسرائيلي لمصلحة مشروعه. رفع لواء الدولة الناجحة وافداً إلى موقعها الأوّل من قيادة ميليشيا القوات اللبنانية خلال الحرب الأهلية اللبنانية، حاملاً رصيداً من القسوة والعنف بحقّ المسلمين والمسيحيين على حدٍّ سواء.
هذا بعض من التناقضات الصارخة التي صنعت تجربة بشير وجعلت له موقعاً غير مسبوق في تاريخ التجربة السياسية اللبنانية.
قوميّة بشير.. جدل وقوّة
شكّلت قومية الجميّل قوّته الأبرز، وكانت في الوقت نفسه مثار الجدل الأكبر حوله. ربط العقل البشيريّ رؤية لبنان الموحّد ضمن هويّة وطنية واحدة، بالسعي إلى إنجاز استقلال لبنان، وعزله عن التأثيرات السورية والفلسطينية ولاحقاً الخمينيّة، التي تنبّه لها باكراً. لتحقيق ذلك لم يتردّد الجميّل في التحالف مع إسرائيل التي لم يرَ في مشروعها أطماعاً خاصة في لبنان كمثل الأطماع السورية أو الفلسطينية، بل رأى تقاطعاً براغماتيّاً بين طرفين يعاديان الأطراف نفسها.
والحال، غالباً ما تستعاد هذه الحقبة من تاريخ لبنان بشكل انتقائي وبسياقات مبتورة لا تعطي تفاصيل العلاقة بين بشير وإسرائيل حقّها. وغالباً ما يتمّ القفز فوق توتّراتها وتعقيداتها الكثيرة بغية تأبيد استنتاجات تفوح منها روائح النكايات السياسية أكثر من السعي الموضوعي لتأطير هذه التجربة في سياقها التاريخي وفي ما تلاها من تحوّلات لبنانية وعربية.
شكّلت قومية الجميّل قوّته الأبرز، وكانت في الوقت نفسه مثار الجدل الأكبر حوله. ربط العقل البشيريّ رؤية لبنان الموحّد ضمن هويّة وطنية واحدة
لعبت إسرائيل دوراً حاسماً في صعود بشير إلى السلطة، وشكّل دعمها العسكري والسياسي له رافعة متينة حقّقت انتخابه رئيساً للجمهورية صيف عام 1982. بيد أنّ الزعيم المارونيّ الشابّ حاذر طوال الوقت أن يزيد جرعة الترابط بين مصالحه المباشرة والمصالح الإسرائيلية، مدركاً أو حالماً بضرورة إقامة توازن دقيق يحمي صفته التمثيلية كقائد لبناني في محيط معادٍ لإسرائيل.
بشير الجميّل المقاوم لإسرائيل
يُحسب لبشير أنّه قاوم كلّ مناورات إسرائيل المصمّمة لجعله وكيلاً مباشراً لها. رفض بشكل خاصّ التوقيع الفوري على اتفاق سلام مع الدولة العبرية كما كان يرغب ويضغط مناحيم بيغن أو حتى قبول حرّاس شخصيين إسرائيليين، خشية أن تقوّض هذه الإجراءات شرعيّته داخل لبنان والعالم العربي الأوسع. شكّلت رغبته في تأكيد سيادة لبنان وتجنّب تصويره كدمية لإسرائيل مصدراً دائماً للاحتكاك بينه وبين الإسرائيليين، وهو ما قاد إلى تسميم العلاقة بين الجانبين، وفتح الأبواب حتى اليوم لنظريّات مؤامرة خصبة عن “بيع” إسرائيل له لسوريا.
زادت هذه التوتّرات تعقيداً بسبب اختلاف الأهداف الاستراتيجية بين الجميّل وإسرائيل. فبينما رأت إسرائيل في الجميّل والميليشيات المسيحية حلفاء أساسيّين في جهودها لمواجهة النفوذ السوري والفلسطيني في لبنان، كانت أولويّات الجميّل مركّزة أكثر على توطيد سلطته داخلياً وتوسعة مروحة علاقاته العربية وتنسيق جهوده ورؤيته مع العواصم الإقليمية المؤثّرة، لا سيما القاهرة والرياض وعمّان، واللجنة الوزارية العربية المنبثقة عن الجامعة، ضمن مشروع محدّد لاستعادة استقلال لبنان وسيادته ودولته ووحدته الوطنية. رأى بشير أنّ وصوله للرئاسة سيكون المنصّة المناسبة بالتعاون مع الشركاء المسلمين لترتيب العلاقة مع الفلسطينيين والسوريين، في حين رأت فيه إسرائىل بيدقاً لمواصلة السعي باتجاه تحقيق أهداف الاجتياح بوسائل أخرى.
الفرصة الضّائعة
في ظلّ البؤس الحالي الذي يعاني منه لبنان، يمكن النظر إلى تجربة بشير الجميّل بأنّها فرصة ضائعة وحَملٌ مبكر بأفكار قبل أوانها. ينهار لبنان اليوم وتتآكل سيادته ويتفكّك مجتمعه تحت وطأة قضايا إقليمية متعدّدة وأجندات خارجية، ورثت الأثقال الفلسطينية والسورية والناصريّة كلّها.
عبّر بشير الجميّل عن رؤية وطنية ترتكز على إحساس عارم بالسيادة والاستقلال ومناهضة حاسمة للتأثيرات الخارجية
اللافت أنّ صدى بشير الجميّل ومواقفه القومية اللبنانية الخالصة، و”فانتزمات” التحرّر من التأثير الخارجي، يتردّد اليوم في التعبيرات اللبنانية الكثيرة التي تنتهج نهج “لبنان أوّلاً” بشكل عابر للطوائف والبيئات. وكلّما تورّط لبنان في الصراعات الإقليمية، تعالى صدى البشيريّة في خطاب اللبنانيين وتجدّد لديهم التقدير لأهمّية الهويّة الوطنية الموحّدة التي تضع مصالح لبنان فوق كلّ شيء. كأنّ خيارات بشير تمهيد للمسارات التي ستتّخذها المجموعات اللبنانية والدول العربية في مراحل لاحقة، لا سيما مواقفه الحازمة ضدّ الوجود العسكري الفلسطيني والسوري في لبنان، ودفعه نحو هويّة لبنانية تضع السيادة الوطنية فوق القضايا العربية الشاملة.
بعد سنوات قليلة من اغتيال بشير اندلعت أعنف المواجهات الشيعية الفلسطينية ضمن ما يعرف بحرب المخيّمات بين منظمة التحرير وحركة أمل عام 1985 لتعكس شيئاً من صواب خيارات بشير حيال ضرورة اجتثاث السلاح الفلسطيني، وإن فعلتها أمل لحسابات تتعلّق بحافظ الاسد لا بمصالح لبنان. وبالمثل، كانت المواجهة التي غطّاها سنّة لبنان وعلى رأسهم قيادة تيّار المستقبل مع المتطرّفين الإسلاميين في عام 2007، وما أدّت إليه من تدمير لمخيّم نهر البارد تجسيداً آخر لما قام به بشير حيال الفصائل الفلسطينية التي إمّا تصرّفت وفق مصالحها أو وُظّفت لمصالح أجهزة ودول وعواصم أخرى.
ومع ذلك لم يلُم أحدٌ المسلمين على ما قاموا به بمثل ما يلام بشير إلى يومنا هذا، على الرغم من أنّ سعي الفصائل الشيعية والسنّية بُرّر بحماية مصالحها ومصالح البلاد ضدّ العناصر المزعزعة داخل المخيّمات الفلسطينية. في كلتا الحالتين، تبنّت الجماعات اللبنانية نهج الجميّل في إعطاء الأولوية للاستقرار الوطني على حساب الولاءات الخارجية لقضايا وعناوين ولافتات غير لبنانية، وهي استراتيجية كان الجميّل قد تبنّاها خلال قيادته القصيرة.
يحتلّ رئيس الجمهورية الراحل بشير الجميّل، الذي مرّت ذكرى انتخابه الـ 42، في 23 آب الفائت، موقعاً معقّداً في تاريخ لبنان الحديث
لهذه الأسباب قُتل بشير
أمّا على الصعيد الإقليمي الأوسع، فمثّلت جهود الجميّل المبكرة في التعامل مع إسرائيل، بعد الصلح المصري الإسرائيلي، واتّباعه نهجاً براغماتياً تجاه سيادة لبنان، انعكاساً مبكراً لموجات السلام التي سيشهدها العالم العربي لاحقاً من اتفاق أوسلو مروراً باتفاق وادي عربة وصولاً إلى الاتفاقيات الإبراهيمية.
على الرغم من أنّ محاولاته للتواصل مع إسرائيل كانت مثيرة للجدل وانتهت باغتياله، إلا أنّها كانت تمهيداً لقرارات لاحقة اتّخذتها العديد من الدول العربية لإقامة علاقات رسمية مع إسرائيل وإن لظروف وأسباب ومعطيات مختلفة. ولئن مثّلت اتفاقيات السلام المذكورة فرصاً متفاوتة لإعادة ترتيب كبيرة في المنطقة، طغت عليها الاعتبارات الاقتصادية والاستراتيجية البراغماتية، بدل سرديّات الكفاح المسلّح، اندرجت خيارات بشير بشكل مبكر في سياق مماثل، رأى أنّ حماية لبنان تقوم على عزله عن الصراعات وحماية دولته ونظامه السياسي الذي انتهى اليوم لمصلحة ميليشيا الحزب.
دفع بشير الجميّل حياته ثمناً لخلاصات سياسية حاسمة وصل اليها قبل غيره بكثير. كانت وطنيّته الحقّة ورؤيته لأحوال المنطقة سبباً في اغتياله وحرمان لبنان من اختبار كانت وتظلّ كلّ المؤشّرات بشأنه تشي بأنّه كان مهيّأً لوضع لبنان على مسار مختلف.
يمثّل إرث بشير الجميّل بهذا المعنى مساراً لإحياء ما يمكن إحياؤه من فكرة الوطن اللبناني، وإلهاماً حقيقياً لتجاوز أزماتنا الراهنة وإعادة بناء البلد نفسه كجمهورية متماسكة وقويّة. التزامه الثابت بالسيادة، ورفضه للهيمنة الخارجية، ورؤيته للوطنية الشاملة توفّر مبادئ أساسية لإعادة بناء دولة مفكّكة وكيان على شفير الانقراض.