الحلقة الثانية عشرة والأخيرة من كتاب الكولونيل شربل بركات الجديد: “لبنان الذي نهوى”، وروابط كل الحلقات: عناوين حلقات اليوم/حزب الله يسيطر من جديد/عهد ميشال عون أو السقوط الكبير/الخاتمة
الحلقة الثانية عشرة والأخيرة من كتاب الكولونيل شربل بركات الجديد: “لبنان الذي نهوى”… بحث سياسي لمرحلة المئة عام من تاريخ لبنان الكبير 11 أيلول/2021
عناوين حلقة اليوم *حزب الله يسيطر من جديد *عهد ميشال عون أو السقوط الكبير *الخاتمة
حزب الله يسيطر من جديد بعد مؤتمر الدوحة وانتخاب ميشال سليمان رئيسا للجمهورية كلف الرئيس السنيورة بتشكيل أول حكومة على عهد سليمان على أن تكون حكومة وحدة وطنية، كما نص اتفاق الدوحة، وقد تألفت من 16 وزيرا لتحالف 14 آذار وعشرة لتحالف 8 آذار و3 لرئيس الجمهورية. ودامت مشاورات التأليف 45 يوما ونالت الثقة في 12 آب 2008 وتضمن بيانها “حماية المقاومة” وقد أشرفت هذه الحكومة على العملية الانتخابية التي أجريت في 7 حزيران 2009. أما بعد الانتخابات الجديدة فكلف سعد الحريري لتشكيل الحكومة الجديدة حيث بدأت مرحلة من التعقيدات. فقد حاول الرئيس الحريري الأبن تشكيل حكومته بعد الاستشارات النيابية والتي سمته باكثرية 86 نائبا على 128 واتفق على أن تكون حكومة وحدة وطنية من ثلاثين وزيرا خمسة عشر منهم تمثل الأكثرية النيابية وعشرة للمعارضة وخمسة للرئيس، وهكذا بدأ سعد الحريري بالتنازل من أول دخوله كمكلف لتشكيل حكومة كونه لم يضمن أكثرية تمنع تجميد عمل الحكومة التي أدخل فيها مبدأ جديد سمي بالثلث المعطل وتضمن بيانها الثلاثية المشهورة “جيش وشعب ومقاومة”. وهنا بدأت مرحلة تلاعب حزب الله واسياده بالنظام الديمقراطي اللبناني واظهار فشله، كون الرئيس المكلف لم يستطع تأليف حكومته إلا بعد خمسة اشهر اعتذر في نهايتها ليعاد تكليفه، وذلك منذ الانتخابات النيابية في التاسع من حزيران وحتى العاشر من كانون أول سنة 2009، وقد كانت أهم مخاوف سوريا وحزب الله تتلخص بموضوع المحكمة الدولية التي لن يستطيعا التهرب منها. ولذا كان عليهما فرملة سيرها من لبنان وبواسطة الحريري الأبن، صاحب العلاقة المباشرة، ولذا فقد طلب من الرئيس اللبناني ميشال سليمان زيارة سوريا للتباحث بالأمور العالقة، وقام الرئيس سليمان بزيارتين إلى دمشق وكان على ما يبدو قبول سوريا بتسلم الحريري رئاسة الحكومة مشروط بقيامه بزيارة دمشق فور تسلمه مهامه الحكومية. وهكذا وبعد أن اقتنع الرئيس الحريري بالقيام بهذه الزيارة تمت الموافقة على الحكومة ونالت الثقة في العاشر من كانون الأول كما اشرنا ليذهب الرئيس مباشرة بعد نيله هذه الثقة إلى دمشق في الثاني عشر من الشهر نفسه أي بعد يومين على نيله ثقة المجلس، ليقدم أوراق اعتماده أمام الرئيس الأسد، ويصرّح من هناك بأنه لا يتهم سوريا بمقتل والده، ما سمح للرئيس الأسد بالتوجه صوب المملكة العربية السعودية ومصر والسعي لدى العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبد العزيز والرئيس مبارك والطلب منهما المساعدة على التهدئة في لبنان وتسهيل الأمور من أجل “الوحدة العربية”. وهكذا تقرر قيام الملك السعودي مصطحبا الرئيس السوري بزيارة إلى لبنان في 31 حزيران 2010 . أهم ما حملته زيارة العاهل السعودي برفقة الرئيس الأسد إلى لبنان كان التعامل مع ما سيصدر عن المحكمة الدولية من قرارات. وقد تلخصت هذه كلها بجملة “تخطي مرحلة الخطر ودرئ الفتنة وحلحلت الأوضاع بأن تسير العدالة مع الوحدة الداخلية” وهذا جل ما كانت دمشق تحلم به أن يسامحها السعوديون، بالطبع بعد مسامحة أصحاب الشأن اي عائلة الحريري، ومن هنا نفهم منع الاشارة إلى محاكمة الدول في قضية الحريري والتشديد على المشاركين بالفعل. في هذه الأجواء بقي خوف حزب الله من قرار المحكمة الدولية ظاهرا في اتهامه لها بأنها أداة صهيونية أميركية لضرب “المقاومة” وزادت التهديدات من قبل الشيخ نعيم قاسم والسيد نصرالله وغيرهما من أن “من يريد تجربتنا فليتفضل” ونحن “لسنا مكسر عصا عند أحد”. وبعد استبعاد الرئيس السوري من مسؤولية اغتيال الحريري بدأ التحضير لتبرئة حزب الله. وهنا، وفي لقائه مع الملك السعودي، مرر الأسد رفضه لاتهام حزب الله قائلا بأن “المحاولة الفاشلة لالصاق التهمة بسورية يراد الآن إلصاقها بالمقاومة في لبنان”، فكانت هي المقدمة لمنع اتهام حزب الله، ومنذ تلك الزيارة التي قيل عنها الكثير وترجمت لبنانيا بما أسماه الرئيس بري “مبادرة السين – سين” أصبح الكلام حتى في المحكمة الدولية “التفتيش عن الأفراد الذين قاموا بعملية إغتيال الرئيس الحريري” وليس على الدوافع ومن هنا تبرئة سوريا وحزب الله. ومن ثم يقوم الحزب بمنع توقيف من تطالب المحكمة باستجوابهم لا بل يعتبرهم السيد حسن بمصاف القداسة ما يعني بأن قضية الاغتيالات لفلفت حتى على مستوى العدالة الدولية بمنع مثول أي من المتهمين أمامها. الفارق بين عودة سوريا في 2008 إلى الساحة اللبنانية تحت غطاء حزب الله وبين عودتها في 1984 تحت غطاء حركة أمل والحزب الاشتراكي وبقايا الأحزاب اليسارية لم يكن كبيرا إلا بمقدار العنف الجماعي الذي مورس زمن الجميل مقابل العنف الفردي الذي مورس زمن الحريري وذلك لاخافة الغرب الذي كانت سفنه وقواته ترابط في بيروت يومها، ما لم تتطلبه الحالة الحاضرة، كون اغتيال بعض المنظورين ومن ثم مفاعيل حرب تموز، أدت المهمة بشكل ناجح، فخاف بقية الزعماء وحاولوا إعادة الأمور إلى اللعبة السياسية المسموح بها، ولو أن القوات الغربية كانت منتصرة هذه المرة ولا تزال منتشرة في المنطقة وقادرة على فرض أي قرار تتخذه الحكومة البنانية المنتخبة. ولكن القضية بقيت نفسها وأبطال الفيلم هم ذاتهم والواقعون تحت نتائج المتغييرات هم؛ الشعب اللبناني برمته والاستقرار في كافة أرجاء الوطن. الجديد في زمن حكومة الحريري الأبن هو شل المؤسسات ليس عن طريق الشارع هذه المرة إنما عن طريق الحكومة التي شارك فيها حزب الله ليمنعها من العمل والانتاج، ومجلس النواب نفسه الذي أعيد فيه استعمال الرئيس بري للخربطة من ضمن صلاحياته كرئيس لمجلس النواب أكثر منه كقائد لحركة أمل. فكانت دعوته إلى الجلسات أو تمنعه عن ذلك هي مؤشر التعطيل، واصبح الحكم يدور في دوامة هذا التعطيل المتعمد، إما للمطالبة بالثلث المعطل أو التعطيل من خلال هذا الثلث. المهم أن النية هي تعطيل الحكم واسقاط البلد. ولا يجب أن ننسى بأن مهمة حزب الله من الأساس لا تعدو عن كونها إفشال الدولة واسقاط الحكم ومنع قيام لبنان السيد الحر والمستقل والذي لا يتبع لأي قوة اقليمية أو دولية، ولكنه يؤمّن بحياده وبعد نظر مسؤوليه مصالح ابناءه واستمرارية بقائه كدولة فاعلة تسهم في تفاهم دول المحيط وتعمل على تحسين أوضاع شعبها وتفتح أمامهم فرص العمل ومجالات التقدم والرفاه. لم يمض على حكومة الحريري أكثر من بضعة أشهر ليعلن حزب الله وحلفائه سقوطها في 12 كانون الثاني 2011 وعلى خلفية المحكمة الدولية حيث انسحب وزراء 8 آذار من الحكومة، وفي 13 منه أصدر الرئيس سليمان بيانا أعلن فيه اعتبار الحكومة مستقيلة وتكليفها بتسيير الأعمال. في الخامس عشر من آذار 2011 بدأت الانتفاضة الشعبية السورية السلمية في مدينة درعا وانتقلت شيئا فشيئا إلى أغلب المدن السورية وقد قوبلت بالعنف من قبل النظام السوري الذي أطلق عددا من السجناء كما كان فعل مع العبسي ليبرر استعماله للسلاح بوجه المدنيين. وأطلق ما سمي “بشبيحة النظام” يعتدون على الناس ويثيرون الفتن. وهكذا تحول الصراع الذي كان يهدف إلى التخفيف من قبضة السلطة إلى حرب أهلية إين منها حرب لبنان. وكأن الله أعمى عيون الأسد وجماعته بقدر الظلم الذي اقترفوه بحق الشعب اللبناني، فإذا بهم يحولونه باتجاه ابناء بلدهم فيقتلعون السوريين من بيوتهم ويدمرون المدن الواحدة تلو الأخرى. وفي لبنان، وبعد شهرين على سقوط حكومة الحريري التي لم تتمكن من العمل بسبب أجواء التعطيل المحيطة بها، أعلن الرئيس نجيب ميقاتي في 13 حزيران 2011 عن تشكيل حكومته الثانية من 19 وزيرا يمثلون حزب الله و8 آذار و11 عضوا اختارهم ميقاتي وسليمان ووليد جنبلاط. ومن الجدير بالذكر بأن جنبلاط الذي خاف من انتقام السوريين وشعر بأنه وحيدا في الساحة ومعرضا للاستهداف كان بدأ يحضّر للالتفاف، ما حققه مع حكومة الميقاتي كونه خرق كتلة 14 آذار وأيد هذه الحكومة التي كانت من لون واحد تقريبا بدون أن تتأثر بالوحدة الوطنية التي كانت مطلوبة زمن الحريري. ولو أنه كان رأى بأم العين ما يجري في سوريا من خلخلة لنظام الأسد، فلو أنه بقي “واقفا على ضفة النهر منتظرا أن يرى بعض الجثث” كما صرح لاحقا ولم يلتحق بحكومة حزب الله فهل كان تغير اي شيء؟ وهكذا انتهى حتى مظهر 14 آذار كتحالف سياسي وسقطت كل تطلعات الشعب الذي كان طالب بخروج القوات السورية وإذا به يعود ليقع تحت حكم سوريا وزعيمها بدون الحاجة لنشر قواته على الأرض، وهو الذي بدأ يحتاج لكل عنصر لكي يدافع عن نظامه. ومن هنا لم يكتف الأسد بمن تبقى له من قوات مدججة بالسلاح لقمع انتفاضة شعبه واستعماله كل الأسلحة المتوافرة لديه وحتى الطيران والمدفعية والغازات الممنوعة لا بل استنجد بحزب الله وبالتالي بمليشيات أخرى أرسلها الحرس الثوري من شيعة العراق وباكستان وأفغانستان وبعض الإيرانيين، ولكي ينفذ الأوامر الإمبراطورية التي يبدو بأنها كانت وراء اشعال الفتنة لتبرير تهجير السكان واستبدالهم، ما سنراه لاحقا خلال مرحلة الحرب السورية الطويلة. وبالرغم من قرار النأي بالنفس الذي اتخذ في قصر بعبدا إلا أن الحزب الذي يأتمر فقط بأوامر الولي الفقيه والحرس الثوري توجه بكل قوته لمساندة الأسد وتدمير سوريا. في آب 2012 أوقف الوزير السابق ميشال سماحة بتهمة حيازة متفجرات تسلمها من اللواء علي المملوك نائب الرئيس السوري للشؤون الأمنية ونقلها من سوريا لتسليمها لمجموعات تخريبية للقيام بأعمال تفجير في مدينة طرابلس. وقد افتضح أمره من قبل شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي التي كان يديرها العميد وسام الحسن. ما أدى إلى تصميم دمشق على التخلص من وسام الحسن. وفي 19 تشرين أول 2012 أي بعد شهرين تقريبا من القاء القبض على سماحة انفجرت سيارة مفخخة في الأشرفية قتل من جرائها وسام الحسن بامضاء على المملوك. في 22 آذار 2013 استقالت حكومة نجيب ميقاتي وبقي البلد بدون حكومة شرعية، وفي السادس من نيسان كلف النائب تمام سلام تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة، ولكنه لم يتمكن من ذلك قبل 15 شباط 2014 أي بعد حوالي 11 شهرا من التعطيل استعدادا لاسقاط البلد بغياب القرار. وخلال الفراغ الحكومي هذا قام حزب الله باغتيال الوزير محمد شطح، وقد كان آخر من تم اغتياله من رموز 14 آذار. وقد استمرت حكومة سلام إلى ما بعد نهاية عهد ميشال سليمان الذي ترك خروجه من القصر الجمهوري فراغا لعدم تمكن المجلس النيابي المجدد له من انتخاب خلف لرئيس البلاد بسبب عدم تأمين حضور ثلثي المجلس في الجلسات الانتخابية الخمس التي جرت فيها محاولة الانتخاب. ويعود ذلك لتعنت حزب الله وحلفائه من تكتل 8 آذار لفرض انتخاب ميشال عون رئيسا، ما تم لهم في نهاية المطاف بعد قبول الرئيس الحريري بطرح اسم فرنجية للرئاسة كحل اقترحه بري ووافق عليه جنبلاط، مع العلم بأنه من جماعة 8 آذار. وعندها قام قائد القوات اللبنانية سمير جعجع الذي أقتنع في النهاية بأنه بين خيار عون وخيار سليمان فرنجية يبقى عون أفضل كونه كانت له مواقف وطنية معارضة للاحتلال السوري يوم كان رئيسا للوزراء، بينما جاهر فرنجية دوما بأنه لا يمكنه أن يعارض الرئيس الأسد، وهو يعتبر نفسه ملتزم بقراراته في السياسة اللبنانية. وعندما حصل التوافق بين جعجع وعون على تقاسم حصص المسيحيين لم يعد هناك من عائق لانتخابه في 13 تشرين أول 2016، وهو الذي سيهدم آخر مداميك البلد بدون اية معارضة تذكر. وقد أدى انتخابه إلى سقوط كتلة 14 آذار نهائيا ورضوخ الجميع لمطلب حزب الله. وهكذا قدم الرئيس سلام استقالته في 18 كانون الأول 2016 ليكلف الرئيس الحريري بتاليف حكومة أشرفت على الانتخابات النيابية بعد أن كان المجلس مدد لنفسه مرتين. وقد تمت هذه الانتخابات بحسب قانون انتخابي فصّل على قياس حزب الله ورضخ له الجميع وأعطته أكثرية نيابية خولته القبض على كل مفاصل البلد.
عهد ميشال عون أو السقوط الكبير كان عون تعهد بأن يتعاون مع الجميع خلال عهده لكي يعيد بناء الدولة ومؤسساتها ولذا فقد كان اختياره لسعد الحريري لتشكيل أول حكومة وقد شكلت بنفس مبدأ الثلث المعطل وبشروط معينة في توزيع الوزارات، ما لا يهمنا لو كانت الروح التي تدير هذه السلطة متوازنة وتسعى للنهوض بالبلد باتجاه التطور واعادة سيادة الدولة على أراضيها، والتخلي عن التبعية لدول المنطقة الساعية إلى السيطرة على جيرانها. من هنا وبعد أن خفّت الحرب السورية التي استعمل فيها، كما قلنا، الغازات السامة الممنوعة دوليا، وبعد اضطرار الرئيس الأميركي أوباما إلى الاعتراض على ذلك، تم استبدالها بالبراميل المتفجرة والتي يحوي كل منها طنا من المتفجرات كافية لتدمير حي بكامله. وقد تطلبت كميات كبيرة من نيترات الأمونيوم كمادة متفجرة يمكن شراؤها للاستعمالات في المشاريع المدنية حيث يكون هناك حاجة لتفجير أنواع الصخور والعوائق الطبيعية. ومن هنا كان استقدام باخرة من هذه المادة إلى ميناء بيروت حيث ستخزن في أحد العنابر داخل الميناء ويتولى جماعة حزب الله نقلها إلى سوريا حيث تستخدم في صناعة البراميل المتفجرة. وقد كانت الكمية المستوردة بطريقة غير شرعية كبيرة جدا بلغت أكثر من 27 ألف طن من هذه المواد القابلة للتفجر، كونه كان هناك نوعا من الحظر على تزويد سوريا بمواد متفجرة بسبب الحرب الدائرة فيها، ولذا فقد استعين بالتحايل القانوني لادخال هذه الشحنة الكبيرة والتي “صودرت” وخزنت في مرفأ بيروت بدون الأخذ بعين الاعتبار الخطر الناجم عن سوء التخزين. ومن ثم استعمل حزب الله كميات كبيرة منها نقلت إلى بلدان أوروبية وعربية وحتى شرق آسيوية للمساعدة بالقيام بتفجيرات من قبل خلايا إيرانية نائمة ساعة الضرورة. الجديد في الحرب السورية التي بدأت بمطالب شعبية بطريقة التظاهر السلمي لرفع قانون الطوارئ من جهة، وفتح مجال المشاركة في السلطة من جهة أخرى، كان رد الأسد تحويلها إلى حرب أهلية باطلاقه بعض المساجين الاسلاميين وتركهم يتصرفون بشكل غطى على أعمال جماعته ضد المدنيين وخلق ما سمي “بداعش” (الدولة الاسلامية في العراق والشام) والتي قامت بأعمال ارهابية لم يكن العالم يحلم بمثلها ما شجع كافة الاسلاميين في العالم للالتحاق بصفوفها بمساعدة تركيا التي فتحت ابوابها للعبور، وقد يكون هذا التصرف من قبل تركيا التي يتحكم فيها الرئيس اردوغان والذي يدّعي بأنه وريث الخلافة العثمانية ومشروعه إعادة احيا هذه الخلافة من جهة، وسماح دول الغرب بسهولة التحاق الاسلاميين بدولة “داعش”، وتشجيع روسيا الضمني على التحاق كافة العناصر من الجمهوريات الاسلامية التي كانت جزء من الاتحاد السوفياتي سابقا بصفوف “داعش”، خطة للتخلص من هؤلاء، ما سنراه بالتحاق روسيا بالحرب السورية تلك للدفاع عن النظام السوري من جهة، وتشكيل قوة دولية بقيادة الولايات المتحدة لضرب “داعش” من جهة أخرى، بينما تدفع قطر وتركيا أموالا لتشجيع هؤلاء المتعصبين للالتحاق بصفوف التنظيم الذي كبر فجأة، ومن ثم عاد فانتهى إلا من مناطق تواجد القوات التركية والتي ستستعمله في حروبها من ليبيا إلى ناغورنو كاراباخ الأرمنية وغيرها من المواقع الساخنة في المنطقة. في هذه الأجواء المتقلبة حيث يعمل حزب الله بكل قوته لمساندة نظام الأسد، يجري استهداف لبنان بطريقة مبرمجة لاظهار هذا الحزب وكأنه يدافع عن البلد. ومن هنا تصبح الحدود الشرقية مجالا للأحداث قبل وصول عون إل الرئاسة. ويحاول الرئيس سليمان أن يعطي وجها محايدا للبنان يسمى “اتفاق بعبدا” الذي يتخذ فيه لبنان مبدأ “النأي بالنفس” أي عدم التدخل بما يجري في سوريا، ولكن حزب الله لا يلتزم به. وهكذا يحاول الجيش القضاء على المجموعات التي كانت اختطفت بعض من جنوده في منطقة عرسال الواقعة على الحدود الشرقية مع سوريا، ويقوم بعملية “فجر الجرود” حيث يكاد أن يقضي على عناصر داعش في المنطقة ليتفاجأ بأن حزب الله قد قام باتفاق على سحبهم وأعادة اطلاقهم في المناطق الشمالية التابعة لسيطرة القوات التركية، ما يعتبر فضيحة بالنسبة للبنان ولكل ما كان يدعيه حزب الله، وما يظهر الترابط الغير معلن بين السياسة الإيرانية وغيرها من القوى التي تدعي المحاربة تحت راية الاسلام، وهي لا تعرف عن الاسلام إلا القتل والسبي والنهب وقطع الرؤوس، لتشوه سمعة المسلمين وتعزلهم عن المجتمعات العالمية التي تعتبرهم غير جديرين باللحاق بركب الحضارة. وتصبح سوريا، التي كانت يوما لاعبا اساسيا في المنطقة، مسرحا للعب الكبار فيها، ولا تأثير لحاكمها المعتد باي من أمورها، ويكثر التهجير وتزداد المعاناة، وتتحول المدن التي كانت مرة واحات للعمل والانتاج إلى خرب من الركام، والسهول الغنية التي كانت تصدّر المنتجات الزراعية إلى أراض قاحلة، ويتحكّم بعض المسلحين حتى بالنفط السوري. ومن جهة أخرى تصبح سوريا بأكملها مسرحا للتدريب بين الحرس الثوري الإيراني الذي يتلطى تحت مقولة محاربة اسرائيل والطيران الاسرائيلي الذي لا ينفك يلاحق مواقعه ويقصف تجهيزاته. في هذه الأجواء القاتلة يرتقي ميشال عون الثمانيني العمر سدة الحكم في لبنان مع شلة من المزروعين حوله لتوجيه ردات فعله باتجاه واحد؛ شل المؤسسات، وهو ما يريده “حليفه المزعوم” ربيب الحرس الثوري وذراع الامبراطورية الفارسية، حزب الله، الذي صمم منذ انشائه على دمار لبنان وها هو ينجح. فقد أرهق خزينة الدولة بكثرة الموظفين الغير عاملين والتعويضات على جماعاته كيفما أتفق، وأرهق الاقتصاد بالتهريب ومسالكه الكثيرة، وأهلك سمعة لبنان وصداقاته بالانحياز لإيران ضد كل العالم القريب، أي العرب ودول النفط خاصة، والبعيد أي أوروبا والولايات المتحدة وغيرها من القوى الداعمة للبنان والتي ترى ضرورة بقائه واحة للتعاون بين شعوب المنطقة والعالم. وأخيرا بتحكمه بالقرار الذي، عن سابق تصور وتصميم، ضرب البلد تلك الضربة القاضية، بالفوضى التي عمل لها يوم شجع على التظاهر، كونه أراد القبض على البنك المركزي ردا على العقوبات التي تعرّض لها من قبل الولايات المتحدة، ومن ثم افشل تحرك الناس ضد حكم الفاسدين، ووجه عناصره تنادي “شيعة.. شيعة” وتعتدي على المتظاهرين، ومنع قيام حكومة قادرة على اعادة الثقة بالبلد. ومن جهة ثانية افتعل تفجير المرفأ الذي كان السيد حسن هدد اسرائيل به مرة، ولكنه هنا اعتمده لتهجير اللبنانيين الذين أبقوا صورة مختلفة عنه للبنان حاول تغييرها بالقوة وبالطريقة الوحيدة التي يتقنها؛ القتل والدمار وتهجير من يخالفه الراي. وكل ما قيل عن انفجار الرابع من آب لا يعدو عن كونه نسخة منمقة عن حرب سوريا التي تحاول إيران تغيير الديمغرافيا فيها بواسطة التهجير والاسكان، وهي تحاول ذلك ايضا في لبنان ومنذ زمن وبالوسائل الناعمة، ولكن هذا الانفجار كان الطريقة المثلى لارباك الجميع مرة واحدة، وقطف ثمار التخطيط الجهنمي، بافراغ لبنان من طاقاته وافقار شعبه، لكي لا يعود له من حيل للمواجهة والوقوف ضد مخططاتها. كان طرح حزب الله المذهبي الضيّق والمتخفي خلف مقولة “المقاومة الأسلامية” كثوب واسع فضفاض، قد أعاد الشيعة اللبنانيين، الذين لم يكونوا منغلقين أبدا، فيما عدا بعض المشايخ الذين يفتشون عن دور لهم في جعل الدين أساس القوانين والتشريع وممارسة النظام، إلى دائرة التعصب. وكان بعض السيّاد الذين يحبون أن يرجعوا بالنسب إلى آل البيت، لكي يحق لهم تقاضي الخمس مما ينتجه الشيعة، هم وراء ارتباط شيعة لبنان بالجزيرة العربية كموطن ومصدر للفخر (انتم خير أمة أخرجت للناس)، وهم بذلك رفضوا انتماءهم اللبناني الذي يعد أحد أعمدة لبنان منذ ما قبل عظمة صور وصيدا. فعاملة، وفي وثائق تل العمارنة، ذكرت كإحدى القبائل التي سكنت لبنان تحت اسم “عاملاتو”، كما ذكر العبران أو ما نسميهم العرب الرحّل تحت اسم “عبيرو”، وهم نفسهم من اسماهم الكتاب المقدس العبرانيون، “فعرب” و”عبر” هما نفس الأسم بقلب حرفي الباء والراء. ويرجع الفرق بين العرب والعامليين إلى ذلك الزمن، وهو ليس موضوع ايمان أو اعتناق مذهبي أو ديني. فعاملة، التي لا تزال تسكن جنوب لبنان، هي من ضمن الشعوب الأساسية التي سكنت هذا البلد وشكلت جزءً من حماته، خاصة حماية مملكة صور والمدينة الأم، وبقيت في زمن الرومان تشكل وحدة من فرق “الخيالة اللبنانية”، ومهمتها حماية المدن الساحلية من غزوات البدو، أي “العبيرو” أو “العرب” لا فرق. ولا يعني أن يأتي أبو ذر الغفاري ويسكن بين أبنائها فيتشيعون معه، وهم كانوا حاربوا النبي نفسه من ضمن اتحاد القبائل في غزوة أُحد، لا يعني ذلك أن يصبحوا من عديد القبائل العاربة أو العابرة أي المتنقلة، فهم من السكان المستقرين منذ آلاف السنين. وحتى لو أن بعض الفرس استعانوا ببعض أئمتهم ليجعلوا لهم دينا يختلف عن دين الأتراك، فاستقدموا من يعلمهم أصول التشيّع ويعطيهم هوية مختلفة في العصر الحديث، تجعلهم يخرجون في ولائهم عن طاعة الخليفة العثماني، لا يعطي هذا التصرف شيعة لبنان هوية أممية أو فارسية، ولا يخرجهم عن كونهم لبنانيون لا يختلفون عن الدروز أو الموارنة أو غيرهم من السكان الذين تجذّروا في هذه الأرض وتعلقوا بها ودافعوا عن ترابها وحريتهم بكل فخر. ولكن طرح الحزب منذ انشائه وكمقدمة للسيطرة على نقاط استراتيجية في لبنان ولبث التفرقة بين سكانه لتسهل السيطرة عليه، طرح بأن الأرض للشيعة والموارنة دخلاء عليها، متناسيا بأن الموارنة قاتلوا الأمويين ودفّعوهم الجزية قبل أن يستقر أبو ذر الغفاري في جنوب لبنان وقبل أن يتعلم يزيد ابن معاوية ركوب الخيل ويأمر بمحاربة أبناء الأمام علي، وأن الشيعة الجنوبيين أي عاملة تختلف عن شيعة البقاع وبعض هؤلاء ربما يكونوا من القبائل الذين قدموا من أنحاء العراق حديثا، أي زمن العباسيين وما بعده وحاولوا أحيانا التطاول على بعض من جبال لبنان ولم يفلحوا، والبعض الآخر كان سكن في السواحل ايام الفاطميين وتحسنت أحواله في ظل حكمهم فاعتنق مذهبهم ولكنه اضطر إلى العودة إلى البقاع مع اضطهاد المماليك ايام فتاوى “ابن تيمية”. أما الموارنة، وبالرغم من سقوط المقدم سالم بالتجربة بسبب الجشع ما أسقاط جبة بشري بيد قلاوون، إلا أنهم بعد واقعتي الفيدار والمدفون لم يتركوا اراضيهم وبلادهم واستمروا بالسكن في جبال لبنان خارجين عن طوع المماليك ومحافظين على تراث الجدود. وهم سمحوا لبعض الشيعة بالعودة لاحقا والاستقرار بينهم في بلاد جبيل وبعض أنحاء كسروان. خطة الفارسي المتطلع صوب البحر المتوسط ليست جديدة فمنذ قوروش العظيم وقمبيز ومن خلفهما على سدة المملكة تطلع الفرس إلى السيطرة على هذه البلاد ولو أن الأسكندر المقدوني قهرهم فيما بعد، ولكنهم عادوا ايام البيزينطيين لينظموا مملكتهم ويحلموا بالامتداد مجددا، حيث استغل كسرى الثاني أنوشروان مقتل صديقه الأمبراطور موريس ليهاجم سوريا ويحتل دمشق والقدس ويسكن بعض قبائل المرد الجبلية في ممرات جبال لبنان ليتمكن من الدخول نحو السواحل، ولكن الأمبراطور هرقل سرعان ما يدركه فيسقط عاصمته ليقتله ابنه الذي قبل بشروط هرقل ومن جملتها استرجاع خشبة الصليب المقدس التي سرقت من كنيسة القيامة وإعادة القبائل التي اسكنت في لبنان إلى مواطنها. من هنا فليعلم جماعة حزب الله بأن لبنان سيعصى كما عصى سابقا على الفرس ولن يتهجر أبناؤه ولن يتركوا أرضهم وتراث أجدادهم، وحتى الشيعة الحقيقيون منهم سينقلبون على عملاء الخمينية ويطردونهم من هيكل الله، جبل لبنان، بالتكاتف مع اخوتهم أبناء الأرض من كل المذاهب والطوائف والمعتقدات مهما تجبّر الغزاة وحاولوا أذلالهم، بإفقارهم وقطع كل مجالات العمل وأنواع التموين عنهم. وسوف ينتهي زمن الفجور والتمدد الفارسي بالقوة مهما عظمت قوة الامبراطورية الجديدة ووسائل قمعها، وستعود شعوب المنطقة للتعامل باحترام والتزام لحدود السيادة، وسيزهر السلام من جديد ويعم الشرق الأوسط، فتنتهي الحروب والصراعات، وينطلق فجر من الازدهار والتعاون ينسي زمن الاضطهاد والعنف، زمن التفرقة وزرع الحقد بين الشعوب. وستتبارى أمم الأرض مجددا على التقدم نحو الخير والبناء والتنافس بمجالات الابداع والانفتاح وسيولي ذلك الزمن الذي حاول المنغلقون فيه تعميم مفاهيمهم المتعالية والتي تميز بين الناس على اساس معتقداتها ليسود عصر تقبّل الآخر كما هو والتطلع نحو تفاهم الشعوب وتعايشها على الطريقة اللبنانية الحقيقية التي ستثبت نجاحها وأهميتها.
الخاتمة لم يكن لبنان مرة أقوى مما هو عليه اليوم فهو وإن تبدلت عليه الدول والحكومات وسيطر على شعبه بعض الفاسدين أو الخونة أو قصيري النظر فإنه لا يلبث أن يعود فينتفض حتى ولو بدى بأنه مات وقضى عليه، فأسطورة طائر الفينيق الذي يقوم من رماده ماثلة ابدا في ذهن ابنائه، وهم ولو تهجر بعضهم وخاف البعض الآخر من الظلم أو المواجهة، ولو هرب منه الكثيرون، إلا أن ترابه ينتج العنفوان، وصخوره تبعث على الصلابة، وشموخ جباله يعيد الثقة بالنفس. وهو وقد توسط العالم المعروف واستقر على تلك الواجهة الشرقية للبحر المتوسط ، حيث تتفاعل شعوب الأرض وتتنافس على التبادل الذي لا بد له من أن يتحول إلى تعاون، سيجد له دورا فاعلا في التاقلم مع الوقائع واستغلالها بطريقته الفذة التي تعيد ترتيب الأولويات وتنتج فرص الازدهار وتؤمن مسيرة التقدم وترتقي مع الكل نحو عالم أفضل. ففي المئة سنة التي مرت علينا شهدنا صعودا وهبوطا من أزمة 1929 الاقتصادية العالمية إلى الحرب العالمية الثانية ومشاكلها ومن ثم حروب فلسطين المتتالية وافرازاتها في دول المنطقة. ولكن عصر الانفتاح على مصر محمد علي قبل الحرب الكبرى ونظام المتصرفية كان أعطى لبنان ذلك الاستقرار وجعل منه محطة بين اسطنبول ودلتا النيل من جهة ومع المدن الايطالية والفرنسية من جهة ثانية. وبعد اختلاط القوى ودخول عصر السفن البخارية والقطارات أعاد لبنان ترتيب نفسه والتحق سريعا بالحداثة بالرغم من مآسي الحرب العالمية الأولى وما نتج عنها. وفور انتهاء الحرب العالمية الثانية وتشعّب مصالح الدول فيها وتغير القوى المسيطرة، رفع لواء التحرر ليكون من أوائل الكيانات المستقلة ويسلك مسارات التقدم. وانفتح في عهد الرئيس شمعون على الشرق بكل ثقله وتنعّم بما أنتجته دول النفط من ثروات بدءً من السعودية إلى أيران والعراق ليدخل عصرا جديدا من الازدهار بعد الثورات المتتالية من حوله. وفي خضم الحرب الداخلية التي أريد لها أن تشرّع التهجير وتهدم الكيان بقي محافظا على ألونه وتعايش بنيه، وبالرغم من كل المآسي والتضحيات عاد مع الرئيس الحريري الأب إلى صنع مثالا جديدا من التطور، ولو في ظل الاحتلال السوري، ولكن عبقرية اللبناني في تجاوز المحن فتحت له اسواقا جديدة ومجالات عمل وأعادت له حتى السيادة والحرية، ولو أنه ورث ورما داخليا سيقضي على أحلام العز من جديد بأن يلزمه بالاستمرار كساحة حرب مفتوحة لا تخدم بنيه ولا تشبه قيمه. وبالرغم من كل ما يدور الآن ويؤدي إلى دمار البنى التحتية التي يستند عليها اقتصاده وحياة بنيه، إلا أن المستقبل القريب سيضحك له مجددا، وسيعود الفرح يملآ شوارعه وساحاته، والازدهار يعم مدنه وقراه، فلبنان ليس دولة عابرة ولا مجتمعا مركبا بالقوة يسهل هدمه وتغيير مفاهيمه، إنه خلاصة التجارب البشرية ومثال تعاون الناس على تجاوز مشاكلهم. وقد دعاه البابا يوحنا بولس الثاني “مختبر البشرية” حيث تتجاور الحضارات لترتقي إلى مصاف التعايش بينها بدون تضارب بالمصالح أو تقاتل ولكن بتكامل يظهر في العديد من الأمور الحياتية. واليوم ومع طرح صاحب الغبطة موضوع حياد لبنان باعتراف الكل وخاصة بلدان الجوار بأهمية هذا الحياد وقبولهم به، يدخل لبنان مجالا جديدا في صناعة التاريخ وبناء قواعد التعايش وتنظيم الواقع والمشاركة بتوزيع الخير والثروات. ولكننا لا يمكننا الاستمرار ونحن نضع على عيوننا غشاء عدم تقبل الواقع ورفض الحلول، فمشاكلنا مع جارتنا الجنوبية محلولة باحترام قواعد الجيرة الحسنة، خاصة وأن حدود البلدين معترف بها من قبل الجميع، ولكن مصالح البلدين التي تتجاوز الخلافات على الحدود لتنتقل إلى التعاون المستقبلي والحقوق التي تنتج عنها هي ما يجب أن يكون بيت القصيد، والتخطيط لتقاسم أهمية الموقع الجغرافي في بناء اقتصاد الخدمات العابر ليس فقط لدول المنطقة بل للحركة التجارية العالمية هو الهدف الأهم. وها هو “الاتفاق الابراهيمي” بين اسرائيل ودول الخليج العربي بدأ يصبح واقعا ملموسا سيفتح أبواب التعاون خاصة في مجال النقل والاستثمار، فكل الحركة الاقتصادية المعتمدة على النقل البحري ومن ثم البري لا بد لها أن تعتمد الأسهل والأقل كلفة، والتواصل عبر جبال لبنان شكّل دوما عبئا بينما استعمال سهول فلسطين باتجاه الأردن يوفر بالوقت والمسافة، وقد طور ميناء حيفا ليصبح مستعدا لاستقبال أعداد كبيرة من السفن التجارية. وبينما ينام مرفأ بيروت تحت أنقاض انفجار الرابع من أب وتقف كل الحركة التجارية عبره كون الطريق إلذي يمر في سوريا الممزقة لم يعد آمنا، زد على ذلك مشاكل الكهرباء والانترنيت والاستقرار السياسي وهيمنة مافيات التهريب، فمن الطبيعي أن تتحول شيئا فشيئا تجارة الخليج التي لا تمر عبر قناة السويس إلى ميناء حيفا. ولكن لا يكمن الحل بأن نغلق حيفا لتعمر بيروت أو العكس، ويجب أن نسارع إلى التفاهم حول مصالح البلدين الأهم من كل الشعارات الفارغة، فالحركة التجارية المرتجاة ستكون أكبر بكثير من قدرات مينائي حيفا وبيروت مجتمعين، (جدير بالذكر أن ميناء جبل علي في دبي استقبل 13 مليون حاوية سنة 2019 بينما ميناء في نفس السنة استقبل مليوم حاوية)، ومن هنا يجب أن ننتقل من الفكر الضيق بامتلاك كل شيء، إلى الفكر الواسع في التجارة التي تعلمناها منذ الفينيقيين، حيث نخترع دورا لنا لنشارك بمرحلة انفتاح قادمة ولا بد، ونحلم بأن يصبح موقعنا الجغرافي مرة أخرى سببا للبحبوحة والثراء، ومنطلقا لمشاريع كثيرة لن تقف عند السياحة والاستشفاء والتعليم والثقافة، بل يصبح لبنان مجددا واحة لتلاقي كافة الحضارات وموئلا لاستقبال شركات عالمية كبيرة مجددا. أما البعد الاقليمي بين فارس وتركيا وبلاد العرب ومصر فيمكن أن يسهم في ثراء البلد وتنوّع مصادر رزق ابنائه، ولكن ليس بالانتماء والتبعية، بل باستعمال وسائل التقارب من أجل المصالح المشتركة. فلا هيمنة من جهة على لبنان مهما كانت قريبة أو بعيدة، ولنا مصالح مهمة مع الجميع، من بلاد العرب، وخاصة مجموعة دول الخليج، إلى مصر وايران الحديثة التي ستتوقف عن التوسع، إلى تركيا التي ستتخلى ايضا عن طموحات أردوغان، وسينفتح البحر نحو التعاون مع جاراتنا الأوروبية، من قبرص إلى اليونان وأيطاليا وفرنسا وغيرها من الدول، وسيكون شمال أفريقيا لا بل القارة الأفريقية برمتها مجال عمل للبنانيين كما بدأنا نراها منذ عدد من السنوات. إذا هذا الضيق الكبير الدي نمر به ليس نهاية العالم إنما بداية خلق التعاون الشرق أوسطي الجديد ومفتاح تطور علاقات دول كثيرة، وستسود الطمأنينة كل دول الجيرة، ويثبت لبنان كدولة منفتحة ومتماسكة تحميها علاقاتها مع الكل، وينظم القانون فيها قواها الذاتية، ويستعمل الشعب حقه بمراقبة مصالحه لكي لا يطغى الفساد مجددا فيسقط كل الفرص، ومن هنا أهمية هذه المرحلة الصعبة قبل الانفراج الكبير لكي نفهم خطر “التشاطر” و”التذاكي” الذي كان يسمح لنا بأن نمرر السرقة والاستغلال تحت هذه المصطلحات. إن لبنان كان وسيبقى بلدا حرا جميلا يعيش فيه كل محب للفرح والنشاط والعمل، ويتعاون ابناؤه مع كافة المشارب بدون عقد نقص أو تعالي، وسوف تزهر الثروة مجددا فيه وينتشر الفرح ويعم الازدهار كل مناطقه وأبنائه، ولا خوف من أحد على أحد. ولكن وكما تعلم السويسريون أهمية النظام والدقة للحفاظ على بلدهم، يجب على اللبنانيين أن يمارسوا المساءلة ويتعلموا احترام القوانين فيرسموا مجددا أبجدية العالم الحديث التي ستسهم في السلام الجديد وتوزيع الخير والرفاه. هذا اللبنان الذي نهوى لن يزول وسيبقى بالرغم من كل المساوئ عاصيا على الشر، متماسكا بكل ابنائه، ومنفتحا على القريب والبعيد. ولن يكون ذلك اليوم بعيدا مهما قست الظروف.