منير الربيع: أشمل من طموح جعجع الرئاسي: القوات تلاطف حزب الله

222

أشمل من طموح جعجع الرئاسي: القوات تلاطف حزب الله
منير الربيع/المدن/الخميس 21/02/2019

لا تنفصل العوامل النفسية عن أداء السياسي وشخصيته. وغالباً ما تتحكم في دوافعه وخياراته وممارساته. بل وغالباً ما تكون العوامل النفسية والمعنوية، في بلداننا، ذات تأثير أكبر من العوامل المادية أو الواقعية المحض.

يُعتبر سمير جعجع من أكثر الذين تعرّضوا إلى التهشيم المعنوي. ويكاد يكون أكثر من تعرّض لأعنف الهجمات، حتى ما بعد خروجه من المعتقل. هذه حقيقة مؤثرة في العوامل النفسية، التي لها فاعلية في خياراته، من دون إغفال الإرادة السياسية المتصلة باستمرارية “القوات” في لعبة السلطة، وبالاحتساب العقلاني لموازين القوى، التي لا بد أنها تتحكم بمسارات سياسية متعددة لدى جعجع، فرضت عليه وعلى حزبه تغييرات جذرية.

“التفاهم” مع عون و”التقارب” مع الحزب!
حدث ذلك في توقيع التفاهم مع التيار الوطني الحرّ. فنجح جعجع بنزع صفة الشيطنة، التي لطالما ارتكز التيار عليها، بوصفه زعيم ميليشيا قاتلت الجيش اللبناني.

في لحظة تغيّر بموازين القوى، لجأ جعجع إلى دعم الرئيس ميشال عون لرئاسة الجمهورية. واليوم ثمة ما يتكرر بشكل مشابه. ما بين القوات وحزب الله. الجو إيجابي بين الطرفين، واللغة جيدة. اللقاءات على صعيد العمل المؤسساتي، ولا سيما في مجلس النواب قائمة، و”التقارب” أصبح مشهوداً، ويرتبط بجملة ملفات سياسية، تقنية، ورئاسية. آخر ما قاله جعجع يثبت ما نوحي به: “في “اللبنانيات” التقنية سنلتقي مع الحزب، في مجلسي الوزراء والنواب. وقد التقينا في أكثر من ملف وقضية، في مقدمها بواخر الكهرباء. لكن الهوة السحيقة التي تفرقنا في السياسة، لا يمكن أن تختفي، ما دام لبنان الوطن السيد المستقل ليس أولوية في أجندته”، يقول جعجع، ويضيف: “أما تحيات النائبة ستريدا جعجع لـ”السيّد” فمن باب اللياقات الاجتماعية لا أكثر..”

بالمقابل، أيّ توجه لحزب الله نحو الدخول أكثر في العمق اللبناني، أي كما سماها جعجع (اللبنانيات التقنية)، والتدخل في مختلف المجالات والملفات، سيفرض عليه التعاطي مع القوات اللبنانية. وبموازاة ذلك، ستكون مجانبة القوات الحديث عن سلاح حزب الله، باللغة التي كان يتناول بها الموضوع سابقاً، انسجاماً مع مقولة منسوبة لحزب الله، فحواها: “فليتم تحييد مسألة السلاح من التداول، وكل الأمور الأخرى سيكون مقدوراً عليها”.

النبرة المتغيرة والتشابه
حين وقع الإشكال بين النائب نواف الموسوي والنائبين نديم الجميل وسامي الجميل، حاولت القوات اللبنانية قدر الإمكان التخفيف من حدّة الإشكال، والحد من تداعياته. هكذا، تواصل النائب جورج عدوان مع مختلف المعنيين من أجل تأمين اعتذار الحزب. وتؤكد المعلومات أن أكثر من اتصال جرى بين الموسوي ومسؤولين قواتيين، قبل الاتصال بينه وبين النائبة ستريدا جعجع، والذي قالت فيه للحزب إنه حين يخاصم يخاصم بشرف. تلقى بعض اللبنانيين موقف السيدة جعجع بالكثير من الإستغراب والتساؤل، وتخيّل البعض أن القوات تسدل الستارة على تاريخ كامل ونهج مديد في التخاطب مع الحزب. وكأن عبارة “المخاصمة بشرف”، تمثّل صك براءة “قواتي” للحزب من كل التهم الموجهة إليه.

التعامل المختلف بدأ يظهر منذ فترة في الخطاب السياسي. لم يعد هناك كلام هجومي من القوات تجاه الحزب. في فترة من الفترات، والتي اعتصم فيها الرئيس سعد الحريري بالصمت، كان جعجع وحده الذي يخرج معارضاً لحزب الله، ومتحدياً سياسته. اليوم تتغيّر النبرة كما يتغير “جدول الأعمال”: التركيز على مكافحة الفساد والتعاون الحكومي. هذا، واضح في التناغم والإلتقاء حول ملف مكافحة الفساد. والتشابه هنا بين الحزبين منطقيّ نسبياً، كونهما الأقل شبهة في سيرة الصفقات والمحاصصات. بل ربما وحدهما لم ينغمسا مباشرة في فضائح الفساد.

“النقاء” الحزبي
ثمة نوع من البتولية في التعاطي ما بين القوات والحزب، أو من قبل القوات تجاه الحزب، وهذه فكرة أساسية تفيد الحزب سياسياً واستراتيجياً. إذ أن القوات تسعى إلى التشبّه بالحزب في صورة “النقاء” و”الابتعاد عن الفساد”. وهي تريد التقارب معه لأنها تشبهه (في البعد “الأخلاقي” لا السياسي). سابقاً كانت القوات اللبنانية تركّز على أن الفساد في البلد، نتيجة السلاح خارج الشرعية، واعتبار أن الفساد هو مشروع يصب في صالح الحزب، صانع الهشاشة في مؤسسات الدولة، ومانع الإصلاح الحقيقي. بينما الواضح اليوم هو تغيّر هذا المنطق القواتي، والتغاضي عن وجود طرف يستقوي على الدولة، ولا يجد من يعارضه، خصوصاً أن حزب الله يحقق سيطرته بناء على هذه القواعد القائمة، من الفساد إلى اختلال التوازنات، لأن قيام دولة فعلية وقوية قد يتعارض مع إصرار حزب الله على الهيمنة والسيطرة.

المعادلة الحالية قائمة على ما يشبه التواطؤ بين الطرفين، عدم شتم حزب الله للقوات، مقابل مديح القوات للحزب. هذه المعادلة تؤشر إلى أن الحزب يأخذ من القوات أكثر مما تحققه هي. بمعنى أنه يكفي الحزب صمت القوات عن الفكرة الأساسية المتمثلة بطبيعة سيطرة حزب الله على البلد، وتغييب العناوين السيادية والسلاح، أي الصمت والسكوت عن القضايا الاستراتيجية، وغض النظر عن الهيمنة السياسية أو العسكرية. تُعتبر هذه المعادلة هدية كبرى، استطاع الحزب الحصول عليها. قد تكون خطوات القوات هذه نتيجة الإرغام الذي فرضه عليها واقع التحالفات. وقد تبقى القوات مستمرة برفع شعاراتها المبدئية، لكنها لم تعد برنامج عمل سياسي في البلد.

الطموحات الرئاسية
كان جعجع يضع نفسه في مواجهة حزب الله، ويقدّم حالة القوات على أنها حالة مخاصمة للحزب، من الندّ للند. اليوم يحدث تحول كبير، يقضي بالإنضواء تحت المظلّة التي يريدها حزب الله، ويفرض شروطها ويرسم خطوطها الحمر. لم تعد القوات تتحدى في تجاوز هذه الخطوط الحمر، ملتزمة قاعدة عدم استفزاز حزب الله. وأصبحت تحت تلك المظّلة، لمواجهة جبران باسيل والتيار الوطني الحرّ. ففي الوقت الذي كان يدور فيه “الغزل” بين القوات والحزب، كان النائب جورج عدوان، يتحدّث عن التجاوزات الإدارية والوظيفية من قبل تيار المستقبل في مؤسسات الدولة وإداراتها، سواء بالتوظيف أو بقطاع الاتصالات. وهذا الكلام له أبعاد سياسية بلا شك، تؤكّد وضع القوات نفسها بمخاصمة التيار الوطني الحرّ. كانت الرسالة من عدوان إلى المستقبل، منقسمة إلى شقين، الأول فحواه: التحالف مع التيار على حساب القوات، سيدفع الأخيرة إلى فتح ملفات كل تجاوزات المستقبل، والثاني مضمونه: التقارب بين الحريري وباسيل ستقابله القوات بالانفتاح على خيارات أخرى، بدأت بالمصالحة مع تيار المردة، وقد لا تقف عند حدود ملاطفة حزب الله.

لا ينطلق هذا التوجه القواتي من خلفية الطموحات الرئاسية فقط. لكن لو لم تكن هذه الحسابات موجودة، لما كان جعجع بحاجة إلى تغيير سياسته تجاه حزب الله. المرحلة الآن ليست للمواجهة السياسية، بل للقطاف، ولتثبيت الحضور بشكل أكبر في الدولة، وتحصيل المزيد من الاعتراف، فتندرج المصالحة مع سليمان فرنجية وحزب الله، كأكبر مكسب سياسي له، بما يتخطى الحسابات السياسية، أي محو الصورة التي لطالما لعب عليها حزب الله والتيار الوطني الحرّ، بوسمه زعيم ميليشيا. هذه الصورة تمثّل همّاً أساسياً لجعجع، لا فقط كعامل نفسي مزعج، إنما من أجل ترويج مختلف له ولحزبه يسهل طموحات رئاسية مشروعة. فإذا كان نجح بذلك مع جمهور التيار الوطني الحرّ سابقاً، فهو يسعى الآن إلى ذلك مع حزب الله وجمهوره أيضاً.

يدرك جعجع القاعدة الثابتة الجديدة في لبنان: لا يمكن لأي طرف أو شخص تحقيق ما يريد إلا من خلال نسج تفاهم مع الحزب. وعون وباسيل والحريري خير دليل على ذلك.

قد يأخذ الحزب من القوات ما يريده، لكن من الصعب جداً أن ينال جعجع غايته الرئاسية. مع ذلك، وبالحدّ الأدنى قواتياً، لا ضير من سمعة حسنة أكثر وصورة أفضل.. وتوسيع الحضور السياسي في الدولة، استناداً إلى “تنظيم” تلك العلاقة مع الحزب.