لم تكن طلة السيد حسن نصر الله التلفزيونية نهار الثلاثاء من شاشة المنار كسابقاتها، فثمة تبدل واضح في المواقف، أقله في مواضيع ثلاثة: المخطوفين العسكريين، عرسال والجيش. والتغيير هو في ما قاله وما لم يقله. لأول مرة، شاهدنا السيد نصر الله يقرأ ما يريد قوله ولا يرتجل كعادته، معتمدا» على قصاصة ورق صغيرة يضع عليها فقط المحاور الرئيسية لخطابه أو حديثه. وهذا الأمر، إن دل على شيء، فعلى جدية الموقف ودقته. كما لأول مرة، نشهد منه مقاربات عقلانية، واقعية، موضوعية، تنطلق من قراءات لموازين القوى الحقيقية لتؤسس عليها مواقف وأهداف قابلة التحقيق، وليس مقاربات من منظار إيديولوجي «مقاومتجي» إسلامي جهادي على منوال ولاية الفقيه، يشوه قراءة الواقع والوقائع فيؤدي إلى سياسات مغامرة لا تؤذي لبنان فحسب، بل تؤذي حزب الله بذاته.
ولكن ماذا قال وماذا لم يقله؟
أولاً، بما خص مشكلة المخطوفين العسكريين، قال:
– إنه مع مبدأ المفاوضة (والحزب قد فاوض حتى على جثامين)،
– إن الحكومة هي الطرف المفاوض،
– أن المفاوضة تتم عبر وسيط صديق أو خصم،
– حذر أهالي المخطوفين العسكريين من الخطف والخطف المضاد والتعرض لللاجئين السوريين، محرما» هذه الأعمال «شرعا»» ومبينا» عدم جدواها مع تنظيم مثل داعش.
أما ما لم يقله السيد نصر الله، فهو:
– أنه ضد التبادل،
– ظل منفتحا» على أي نتيجة تتمخض عنها المفاوضات، مشترطا» فقط أن تستخدم أوراق القوة التي بيد لبنان، وهذا يشكل الشرط الحد الأدنى الذي يبقي له ماء وجهه إزاء التراجع عن موقف رفض مبدأ التفاوض.
وهنا، لا بد من التذكير من أن موقف حزب الله منذ اللحظة الأولى كان، على لسان بعض مسؤوليه الكبار وحلفائه وعبر وسائله الإعلامية المباشرة وغير المباشرة، قطعا» ضد مبدأ التفاوض مع الإرهابيين التكفيريين الذين لا يحترمون أي عهد ولن يحترموا أي عهد أو إتفاق، وبحجة أن التفاوض معهم والتبادل يصيب هيبة الدولة بالصميم ويشجع الدواعش على الإستمرار بأعمالهم البربرية، ومنها خطف الرهائن!
ثانياً، بما يخص عرسال والجيش، قال:
– أنه كان معلوما أن عرسال، بمعنى من المعاني، كانت قاعدة خلفية للمسلحين. إنما، لم تصبح مشكلة يجب التصدي لها إلا عندما علم أن السيارات المفخخة المتجهة نحو الضاحية كانت ترسل من خلال عرسال.
– أن إعتقال الجيش لم يكن السبب بمعركة عرسال، إنما الدواعش هي التي إتخذت مبادرة المعركة بهدف التمدد والسيطرة على لبنان بإستخدام حجة الإعتقال هذا.
– تحدث عن دعم تصدي الجيش للدواعش. وهنا، لا بد من الملاحظة أن كلمة التصدي لها معنى دفاعي وليس هجومي.
أما ما لم يذكره، فهو:
– أن قيادة الجيش قصرت في المعركة في عرسال (وأذكر هنا بالحملة الشعواء التي خاضتها وسائل الإعلام التي تدور في فلك حزب الله ضد قيادة الجيش)، ثم الحملة على الحكومة أو رئيسها أو الجهة التي يمثل التي كبلت أيدي قيادة الجيش.
– ان المطلوب هو خوض الجيش معركة حاسمة في عرسال لا طاقة له أن يربحها إلا بالتنسيق الكامل مع «المقاومة» والجيش السوري. هذا ما روج له حزب الله عبر وسائل متعددة.
– أن المطلوب فصل عرسال عن جرودها تمهيدا» لإبادة «الدواعش».
ومن الواضح أن الضعف النسبي الذي أصاب الجيش الأسدي وحزب الله بعد تمدد داعش السريع وسيطرته على مساحات واسعة في سوريا والعراق وعودة الميليشيات الشيعية العراقية التي كانت تقاتل إلى جانب الجيش الأسدي إلى العراق، كما ضرورة التخلص من «عقبة عرسال» لربط المناطق الأسدية المحاذية للبنان بمناطق حزب الله، من الساحل السوري إلى الجنوب اللبناني، تحقيقا» لكيان يكون جزءا» من الأمبراطورية الإسلامية الإيرانية في حال تقسمت سوريا، من الواضح أن هذين العاملين كانا وراء الإلحاح على توريط الجيش عبر مطالبته بالحسم العسكري! من هنا، نرى أنه ثمة تحول واضح في مواقف حزب الله. فكيف يمكن تفسيره وما هو مداه.
أولاً، عوائل المخطوفين العسكريين باتوا يصعدون مواقفهم في مواجهة تلكؤ «المسؤولين» عن تحرير ذويهم ويحملون حزب الله بشكل خاص من خلال تصلبه مسؤولية مأساتهم.
ثانياً، بات الوضع الشعبي الشيعي، ولو بخفر، يتململ من سياسات المواجهة المتمادية لحزب الله، ولا سيما بما يخص تورطه العسكري في سوريا دفاعا» عن الأسد والذي يستنزفهم ويضعهم في «بوز المدفع» ويستجلب لهم الويلات الأمنية وغير الأمنية في لبنان. فطاقة أي مجتمع على الإحتمال محدودة في آخر المطاف!
ثالثاً، إستنزاف الطاقة القتالية لحزب الله في سوريا (أكثر من 700 قتيل من النخبة، وهو رقم ضخم!).
رابعاً، الوضع العسكري الصعب لحزب الله في القلمون وتفعيل القدرات العسكرية للدواعش بعد إنتصاراتهم النسبية في منطقة القنيطرة، مما قد يهدد في مرحلة لاحقة توسعهم بإتجاه الجنوب اللبناني، حصن حزب الله الرئيسي.
خامساً، تداعيات ضربات التحالف الدولي «المشبوه» بتركيبته «المعادية» وأهدافه غير المعلنة في العراق كما في سوريا، التي قد تؤدي إلى كثافة «داعشية» في مناطق «سيطرة» الأسد، ولا سيما في القلمون. وبالمناسبة، أليست سياسة محاربة «التكفيريين» في القصير والقلمون التي أدت إلى تجمعهم في عرسال وجرودها؟؟!!
سادساً، التواصل المستجد بين إيران والعربية السعودية والذي أنتج تسوية في العراق واليمن، وبالتالي ضرورة التماهي معه بالنسبة لحزب الله في علاقاته مع الإعتدال السني.
سابعاً، التخوف من أن تؤدي سياسة التشدد بالنسبة إلى موضوع المخطوفين العسكريين، وما يمكن أن يؤدي إليه ذبح العسكريين الواحد تلو الآخر من تداعيات خطيرة أمنيا» مع اللاجئين السوريين الذي وصل عددهم إلى المليون والنصف نسمة، كما أن الموقف المطالب بالحسم العسكري سوف يؤدي إلى ضرب وحدة الجيش، إضعاف الإعتدال السني لحساب الأصوليين، الوصول إلى حرب سنية- شيعية لا محل لتفوق حزب الله الصاروخي فيها، إندفاعة «الدواعش» نحو البقاع وليس فقط عرسال!!!
فهل إستوعب السيد نصر الله دقة الأوضاع وخطورة سياسات حزب الله الداعية إلى الحسم؟؟!! وهل فعلا» تراجع عنها؟! وهل سوف يستنتج العبر ويعيد النظر في تورطه في القتال القاتل للبنان وله في سوريا، ويراهن، ولو لمرة على دولة لبنانية تحميه وتحمي كافة الفئات اللبنانية؟؟!!