الكولونيل شربل بركات/النار الالهية ولباس الكهنة/ شرح لمفهوم الله عند الأديانة

144

النار الالهية ولباس الكهنة
الكولونيل شربل بركات/27 أيار/2021

كنا تطرقنا في بحث سابق لموضوع الانسان والنار وكيف أنه اكتشف كيف يقارب هذه النار التي تحدثها الصواعق فتشعل بعض الأغصان ثم يطفئها المطر في فصل الأمطار اي ما نسميه الشتاء، ولكن صواعق الخريف، حيث تكون الطبيعة لا تزال جافة نوعا ما، تحدث بسقوطها بين الأشجار والاعشاب اليابسة حرائق تشعل مساحات أحيانا، جعلته يتعرّف على قدرتها وسرعة انتشارها وعلى كمية الحم التي تبعثها. ولكنه خافها بالطبع وهرب منها كما كل الحيوانات وعاد ليتمنى حدوثها في الشتاء القارص لتشعل بعض الاغصان فتدفئه وتبعث شيئا من الضوء في لياليه المظلمة.

هذا الانسان القديم راقب بكل انبهار موضوع النار تلك، وحاول المحافظة عليها وبعد سنين طويلة تشكلت لديه خبرة في معالجتها نتجت عن المراقبة والتجربة، فإذا به يتمكن من تطويل أمدها وحتى في النهاية اعادة توليعها بواسطة النفخ بالجمر، ولكن هذه تطلبت مزيدا من القش اليابس وكثيرا من الاغصان لتبقى مشتعلة.

ولما كانت هذه النار تساعده على التدفئة والرؤية ليلا فقد ساعدته أيضا على ابعاد الحيوانات التي تخافها، فاصبحت بالتالي تخافه هو، ومن ثم شكلت له نوعا من الحماية. ولكن احداث هذه النار بقي عقدة كبيرة لم يتمكن من حلها، ولو أنه تمكن من تطويل أمدها، كما قلنا، بتغذيتها شيئا فشيئا ومعالجة امتدادها وحصرها في مكان معين.

من هنا كان انتظار موسم سقوط النار من السماء لكي يؤمن الانسان العتيق زاده منها وخاصة قبل بدء موسم البرد والليل الطويل الذي يرافقه.

في الشرق الأوسط وحتى ايامنا لا يسقط المطر صيفا وأول سقوطه يبدأ مع حلول الخريف وما نسميه نحن الصليبيات في أواخر أيلول، ويتمسك به اليهود في عيد المظلات الذي يجب أن ينتهي بالمطر في كل عام ليدل على رضى الله على شعبه. وقد رافق سقوط المطر في الميثولوجيا الكنعانية قيام البعل، أي انبعاث الخير من جديد. فالمطر هو مصدر الحياة للأرض وبعده تعود لتنموا الاعشاب وتخضر المساحات التي كان أيبسها الصيف وحره. ومن هنا يوم يقسو الحر، بدءً من أواخر أيار وبدايات حزيران، ينتصر “موت” على “بعل” في تقاليد هذه البلاد، ويسيطر بجفافه ليقضي على كل حياة نباتية، وبالتالي غذاء الحيوان والانسان. فموت مبغوض من الكل ولذا تقوم الربة عناة في اسطورة “البعل وموت” بتهديده بأنها ستحرقة بالنار وتذريه بالمذراة وتنثره في الهواء، وهي تبكي الحبيب بعل الذي ينتظر الخريف ليعود مع أول الغيث.
في مراكز التجمع حول الانهار والأودية الخصبة كان هناك ضرورة للتنظيم الاجتماعي، ومن هذا التنظيم استمرارية النار وحمايتها، لتكون مصدرا للناس الذين اعتادوا على استعمالها في حياتهم اليومية بعد آلاف السنين من اكتشاف طرق لاستخدامها. ولذا فقد دارت حول حدوث النار أو سقوطها الكثير من النظريات وكلها ارتبطت بذلك “الساكن في العالي” والذي يقصف الرعود فتحدث تلك النار. ومن هذا التنظيم المدني قام “حراس النار” وهم الفئة التي تراقب حدوث “النار الالهية” وتحصرها وتتابع استمرارها وتوزعها فيما بعد على من يحتاجها. ولكي يستطيع هؤلاء “الحراس” الاستمرار في عملهم، كان على العامة تقديم أنواع من التقادم؛ أولا من الحطب لكي يستمر ايقاد النار فلا تنطفيء، ومن ثم ما يمكن أن يسهم في مأكل وحاجات حراس النار هؤلاء. وهكذا نشأت صناعة الكهنوت.

اضطر حراس النار فيما بعد لدراسة وتجربة الكثير من الطرق لمعالجة النار واستمراريتها، ولذا فقد اصبح هناك اختصاص بهذا الموضوع. وبما أن حاجة الناس للنار صارت تتطور أكثر فأكثر، كان يجب أن يدور حول أهمية النار الالهية الكثير من الاسرار، لتستمر الصنعة وتنمو أهمية هذه النار وطقوس سقوطها.
من هنا كان يجب التشديد على مزاج “الساكن في العالي” اي أن غضبه أو فرحه من تصرفات العامة يؤدي إلى تسهيل ارسال الخير الذي يتلخص بسقوط النار أو حجبه وتمنّعه عن ارساله، ولو مؤقتا، حتى يتم استرضاءه بتجديد التقادم التي تعني الندم على التصرف الخاطئ مقابل المغفرة والرضى. وفي العهد القديم مثلا كانت اشارة التهام النار لتقدمة هابيل وعدم التهامها لتقدمة قايين دليل على رمزية رضى الرب أو عدم رضاه عن تقدمة كل منهما. ومع مرور الزمن دخل تصرف الناس والزامهم بالقواعد العامة مجال عمل حراس النار هؤلاء، وصار الحاكم، الذي عرف أهمية توجيه الناس وليس فقط تخويفهم، يسهم في تعظيم دور الكهنة هؤلاء، لكي يساعدوه بضبط تصرفات الناس وتوجيههم نحو قواعد “الخير العام”. وهكذا صار “الساكن في العالي” محورا اساسيا تدور حوله عملية تحقيق الرغبات، وبالتالي التقادم، التي يرضى عنها أو لا يرضى، فيعطي أو يحجم.

بعد آلاف السنين من الممارسة الكهنوتية ومراقبة حدوث النار وتوجيه الرعية صوب الحق والعدل، وهما رغبة “إيل” (الذي يسكن فوق-عال) والتي تتجاوز الحاجات الخاصة اليومية إلى ما هو أعم واشمل، صار هناك خبرة كبيرة لدى الكهنة، خاصة كهنة هيكل ملقارت في صور، حيث بنوا الهيكل ليحضر الناس فيه مشهدية سقوط النار الالهية. فكان الهيكل كما يصفه أبو التاريخ هيرودوت، يقع على أعلى مرتفع في الجزيرة وهو مفتوح للسماء وفيه زوج من الأعمدة واحد من الذهب الخالص والثاني من النحاس وبينهما يقع المذبح الذي توضع فوقه الذبيحة وتحتها حطب التقدمة الذي سيشعلها في حال قبولها.

هذه العملية المسرحية التي يراها كل سكان المدينة وزوارها في كل سنة تقوم على سقوط النار من السماء وانتقالها بين العامودين لتقع على المذبح بينهما حيث تشتعل الأعشاب اليابسة والحطب الجاف كدليل على تقبل “إيل” للتقدمة وارسال ناره لتلتهمها أمام عيون الحضور المشدوهين.

كان موقع الهيكل في أعلى نقطة من الجزيرة مهم جدا وقد مارس الفينيقيون هذا الاختيار لموقع الهيكل في أعلى نقطة من المدينة أو على رؤوس الجبال كما يقول العهد القديم (السواري) كتقليد متبع وقد رايناه مثلا في موقع الأعمدة فوق القمة التي تشرف على جبل طارق. وكما أشرنا في مقال سابق حول الموضوع فإن المراقبة لسنوات طويلة وتوارث المعلومات أعطت هؤلاء الكهنة الكنعانيين معرفة باصول ما نسميه اليوم Electrostatic وخبرة بأهمية حتى توجيه الشحنات الكهربائية السالبة تلك والتي نفهمها ونفسرها علميا، وهي تتكون من الالكترونات Electrons التي تتجمع في اسفل الغيوم بنتيجة حركة الماء المتركز من البخار بسبب البرودة ما يجعل أعلى الغيوم يصبح أيجابيا بينما اسفلها سلبيا يفصل بينهما طبقة من الهواء العازل، وأثناء تنقلها وبزيادة كمية الشحنة تنتقل هذه الشحنة السلبية عبر الهواء صوب الشحنة الإيجابية صعودا أو صوب الأرض نزولا لتلتقي الشحنة الايجابية فيها، وهنا دور السواري والغابات على رؤوس الجبال أو الأعمدة في الهياكل خاصة المعدنية منها (الذهب والفضة) الموصلة الجيدة للكهرباء في جذب هذه الصواعق.

نعرف اليوم بأن قوة الصاعقة هذه تعادل مليون جول في المفهوم الفيزيائي للعلوم، ولكنها وإذا لم تصطدم بنوع من الأخشاب لتحرقها فهي تدخل الأرض بدون احداث اشعال نار، من هنا كانت السواري على رؤوس الجبال والغابات التي اعتنى الفينيقيون بابقائها وخاف منها اليهود، بحسب العهد القديم، وحاولوا دوما قطعها وتدمير الهياكل المحيطة بها، كونهم وبعد زمن موسى حيث كانت النار قد اصبحت أشياء عادية تحفظ وتنقل في الهياكل وبين الناس بدون الحاجة لمن يحرسها وبدون التحقق من حدوثها، كما كان في السابق، مع الابقاء على احترامها ووجودها في الهياكل تحت أشكال معينة تختلف بحسب الديانة المحلية، وصار الساكن العالي وقد سمي مع ابرام، العابر بين بلاد الشرق الأوسط القديم، ال-ها أو اله ومن ثم ال-اله (للدلالة على تفرده بالالوهية هذه) فصار اسمه الله عند أبناء اسماعيل بينما تمسك موسى ومن بعده وبدون أن يفهموا معنى الأسم تمسكوا ب ها وهي صفة الساكن العالي والذي يعطي ويأخذ الحياة (ها أو ياه) وهي أهم من مكان سكنه في العالي، وصار هو المهم وليس النار التي يرسلها للناس، ولو أن موسى لم يقدر أن يرى الله إلا في تلك النار التي كانت تلتهب في العليقة رمزا لوجوده وارتباطه بها أو ارتباطها به لا فرق.

كهنة هيكل ملقارت إذا كانوا برعوا في تفهّم حركة الصواعق ونزولها ووقوع الهيكل على الجزيرة يجعل من أرضها أكثر جذبا لهذه الصواعق ومن هنا كانت أهمية وتكرار حدوثها المتوقع في زمن معين هو نهاية ايلول تقريبا حيث تبدأ بعض الغيوم المشحونة بالتشكل لنزول المطر ما يؤدي إلى سقوط أولى الصواعق. ولا يعني هذا بأن هذه الصواعق كانت تسقط فقط في ذلك الموسم ولكنه أول أوانها.

كان على الكاهن الأكبر الذي انتقلت إليه خبرات الأجيال من الكهنة السابقين أن يتلقى الصاعقة ويوجهها إلى المذبح لتشعل الذبيحة، وهذه عملية شديدة الخطورة ونحن نواجه شحنة كهربائية كبيرة جدا (مليون جول كما قلنا)، ولذا كان يجب الاحتراز والحذر وتجهيز الكاهن بالحماية الكافية من هذه الشحنة، من هنا ثيابه الكهنوتية الخاصة بهذه الاحتفالات، وهي الأهم والتي تشكل المهمة الأولى له لكي تزيد أهميته ويعظم تقديره وبالتالي ما يرشد الناس به إذ يرون قدرته على تلقي النار الالهية.

خطورة الموقف ليس فقط بالوقوف أمام العامودين اللذين ستقع عبرهما الشرارة وحيث لا يمكن لأحد أن يقترب خوفا من أن تصعقه تلك النار والتي لا مجال للتداوي منها فهي تقتل على الفور. لذا كان هذا الجزء من الهيكل محظورا على العامة أو المصلين وحتى صغار الكهنة وغير المتمرسين، ويدخله واحد من المتمرسين فقط أثناء الفترة التي تقع فيها الصواعق. وقد سمي في هيكل سليمان فيما بعد “قدس الأقداس” ولا يدخله إلا الكاهن الأكبر أو أحد المتمرسين من الكهنة أثناء تقديم القرابين والتبخير، كما نراه مع ذكريا يوم ظهر له الملاك وبشره بولادة يوحنا.

بعد كل التجارب والمراقبة التي علمتهم خطورة هذه النار الالهية والتعاطي معها بدون الكثير من الأخطار، ولا نزال حتى يومنا هذا نخافها بكل تأكيد، تمكن الكهنة من استنباط بعض ما يحمي الكاهن المتواجد بالقرب من مكان سقوط الصاعقة وإذا بذلك الزي الذي، ولقيمته في التراث البشري، لا يزال يلبسه الملوك أحيانا وبالطبع الأساقفة في الاحتفالات الرسمية، وسنشرح هذا بالتفصيل.

نبدأ من الرأس، فبالرغم من الشعر الطويل واللحية الكبيرة التي قد تشكل عازلا للكهرباء، ولكن بسبب قوة الشحنة، على الكاهن أن يلبس قبعة دائرية عالية لا تلمس رأسه ويجب أن تكون مروسة في أعلاها لتتلقى أي شحنة قد تسقط باتجاه الراس وهذه القبعة يجب أن تطلى أو تزين بخيطان من الذهب الذي يعتبر أكثر المعادن وصلا للكهرباء لكي تنقل اي شحنة باتجاه الأرض ولذا فهي تنتهي بذنبين في أخرهما شراريب مذهبة ايضا تسقط كل ما يأتي من الأعلى باتجاه رداء الكاهن. ويتألف الثوب من عدة طبقات يلبسها الكاهن فوق بعضها تؤمن ابعاد الشرارة عن جسمه، ولكنه فوق كل ذلك يلبس رداءً سميكا مزين بخيوط مذهبة ويصل إلى الأرض تقريبا وهذا ينقل كل ما يسقط حتى من القبعة ليوصله إلى الأرض. ولكن ولكي يستعمل الكاهن يديه يجب أن يكون هذا الرداء مفتوحا من الأمام ليقدر أن يخرج اليدين من الجهة الأمامية، لذا تكثر الخيوط المذهبة على طول هذه الفتحة من الأعلى إلى أسفل الثوب. ولكي يحمي نفسه عندما ينفتح الرداء يضع ما نسميه البطراشيم وهي قطعة ايضا مذهبة تدور حول الرقبة وتحمي الصدر والمنطقة التي قد تظهر عندما ينفتح الرداء وهي ايضا تنتهي بشراريب مذهبة في آخرها باتجاه الأرض. ولكنه يضع ايضا حول يديه قطعا صغيرة من القماس السميك والمذهب والمنتهي دوما بشراريب لينقل اي شرارة باتجاه البطراشيم ومنها إلى الأرض. ومن ثم حول الرقبة من الجهة الخلفية هناك غطاءً يحمي رقبته بين ذنبي القبعة وينقل اي شرارة إلى الرداء السميك والمزين كما قلنا ليقود اي شحنة صوب الأرض. بهذا الزي يكون الكاهن محمي من تأثير الصواعق لأنها، حتى لو ضربته، ستنتقل صوب الأرض بسرعة وبدون أن تؤثر عليه. وقد زيدت العصا فيما بعد والتي تشكل أكبر جزء من مشهدية سقوط النار الالهية بعد كل الخبرات، فهي عصا نحاسية أو معدنية مذهبة تنتهي من الأعلى بدوائر تصل إلى ما فوق راس الكاهن لتشكل حماية أكبر له، ويتالف مقبضها من قطعة خشبية أو عاجية عازلة تحمي يد الكاهن من أية شحنة كهربائية تدخلها، لتصل إلى الأرض. ولكن مع الوقت والخبرة لبعض كبار الكهنة وليكون لهم وقع مهم بين الرعية فقد كان من يجرؤ منهم يحاول توجيه الشرارة بواسطة هذه العصا صوب المذبح فيتأمن اشعال حطب التقدمة. من هنا أهمية الممارسة وخطورتها وسرية هذه الطقوس التي لا يجب أن يحاول أحد أن يستعملها، لأن حياته ستكون دوما بخطر. فلم يكن هؤلاء يعرفون كافة التفاصيل العلمية عن هذه العملية وجل ما يعرفونه هو من المراقبة والخبرة مغلفة بضرورة الحذر، وعدم التسرع مهم جدا لأنه يؤدي عند اي خطأ إلى الموت المحتم.

إذا لباس الكاهن أو الأسقف في المناسبات المهمة، والتي ورثتها الديانات خاصة المسيحية بكل تفاصيلها، واستمرت بتناقلها، له أهمية كبيرة في تراث البشرية، ويعود إلى مفهوم هذه النار الالهية التي ترافقنا حتى اليوم، ومع أغلب الأديان في الطقوس المعتمدة. فالنار لا تزال تحرق الأشرار في جهنم، ولكنها أيضا النور الذي يشع علينا والحرارة التي تدفئنا. وهي مع اليهود في عيد الأنوار تظهر في الشموع واضاءتها وأيضا في كل سبت، وهي في مصابيح الجوامع مع المسلمين، وترافق البوذيين والهندوس في معابدهم وأعيادهم. ولا نزال نبقيها مشتعلة في الكنائس للدلالة على وجود روح الله في القربان المقدس، ونتبارك بها في بيوتنا. ولن تتوقف البشرية عن استعمالها كرمز للخالق وتكريمه، ولكننا بتطور ذهننا وتعاطينا في أمور المجتمعات وأخلاقياتها أعتمدنا دوما على الهام الروح وتوجيه الخالق، وتجاوزنا التفاصيل التي صارت صغيرة وهي كانت تحمل معاني كبيرة للأنسان القديم السائر على دروب التطور، وقد أوصلتنا إلى تنظيم حياتنا على هذه الأرض فصرنا نشارك الخالق في أعمال الخلق كما يقول سعيد عقل في خماسيته:
قلت لربي الكون هل أعدله
صنع يديك ناقص بعضه
تنحته من الصعب لم تخذله؟
قال: كي ترضى… لا ترضى…
تسرق الأزميل تستكمله

رد كاتب المقال على استفسار أحد القراء في أسفل

مفهوم الله عند الأديان
الكولونيل شربل بركات/29 أيار/2021
علق أحد الأصدقاء على مقالة “النار الالهية وثياب الكهنة” بقوله: “الظاهر بأن احترام النار هو وحده المشترك في كل الأديان”. وهنا أردت أن أجاوبه بالتفصيل لأن الموضوع يستحق البحث.
اولا برايي أن الأديان تتفق على كثير من الأمور ومنها الأمور التي تتعلق بالخير والشر بنوع اجمالي، وبأهمية الأنسان كمساعد في إدارة الكون، وبوجود تلك القوى الفائقة القدرة والتي مهما أمعنا في محاولة فهمها أو التعرف عليها لا نستطيع. وهنا يحضرني قصة عن القديس أغسطينوس القرطاجي من القرن الرابع للميلاد والذي يعتبر من فلاسفة الكنيسة. وتقول الرواية بأنه بينما كان يتمشى على شاطئ البحر ويفكر بمفهوم الله، وإذا به يلتقي ولدا صغيرا ينقل الماء من البحر بواسطة صدفة ويضعه في حفرة صغيرة صنعها بين الرمال وهو مهتم يروح ويجيء مسرعا كي لا يتساقط الماء من الصدفة. فراقبه القديس ومن ثم سأله: “ماذا تفعل”. فقال الصبي: “أريد أن أنقل هذا البحر وأضعه في هذه الحفرة”. فقال له القديس ضاحكا: “بغض النطر عن الوعاء الذي تحاول أن تنقل به الماء حيث لا يصل إلى الحفرة إلا القليل منه، ولكن هل يمكن أن تستوعب هذه الحفرة الصغيرة ذلك البحر المترامي الأطراف؟”. فجاوبه الطفل: “إن نقل هذا البحر الكبير إلى هذه الحفرة الصغيرة وبهذه الصدفة واستيعابها له أهين من أن تدرك بعقلك المحدود ما تحاول أن تفهمه عن الله الذي هو أكبر من الكون كله”. وهنا يقول القديس بأنه فهم الصورة فكف عن البحث.
من هذه القصة يمكننا أن نفهم بأن وجود الله ومحاولة التقرب منه من كافة الشعوب أمر طبيعي ولكن استيعابه ليس بالسهل أبدا. ولذا فنحن نرى الله بخلائقه ونفهم بعضا من ارادته بالمقابلة أو التشبّه، ولكن عندما نحاول التدخل في كل أمور الحياة وتلبيسه (سبحانه) أنظمة على قياسنا فإننا لا بد فاشلون. ومن هنا فكل الأديان متشابهة نوعا ما، وحتى الذين لا يعترفون بالله، فإنهم يقرون بوجود تلك القدرة التي يسميها كل حسب إيمانه، والذين لا يؤمنون يسمونها الطبيعة والقدرة وما إلى هنالك، ولكنهم بتركيبتهم الجسدية لا يقدرون أن يتكلوا على الصدفة حتى في مفهوم الارتقاء والتطور ونظرية الانفجار الكبير Big Bang، حيث ينكرون الله ولكنهم يعتقدون بالمسبب وبالقانون الطبيعي. إذا تختلف التسمية ويبقى المفهوم. وما مشكلة تعدد الاديان إلا مظاهر تتعلق بالسلطة والتنظيم وبتطور الشعوب ومفاهيمها وطرق عيشها وحتى لغتها.
القرأن الكريم مثلا شدد على نقطتين مهمتين عن موضوع الله وهما: “الله أكبر”، و”الرحمان الرحيم” وهذين المفهومين عن الله يلخصان كل شيء تقريبا، فمهما حاولنا أن ندعي بأن الله يطلب هذه وتلك من الأمور فإن الجواب حيث لا نتفق بأن “الله أكبر” أي أكبر من الخلاف وأكبر من التفسير وأكبر مما نعتقد، وليت من يدعون بأنهم “المسلمون” اليوم يعودون لهذا المفهوم، فالله أكبر من أن تحدده شريعة وقوانين، وهو أكبر من أن يطلب أن ندافع عنه ونقتل في سبيله، وهو أكبر من أن ندخله في صراعاتنا اليومية على السلطة والملكية وغيرها. ومن ثم فهو “رحمان رحيم” وهنا التشديد على فعل الرحمة. فإن كنا نود أن نتقرب من الله أو نتشبه به، فيجب علينا نحن أيضا أن نكون رحماء مع أخوتنا في البشرية، وهو سيغفر لنا كما نغفر لغيرنا، كما وردت في صلاة المسيحيين، وعند البوذيين والهندوس ايضا الكثير من أوجه المحبة والرحمة. وهنا أستذكر مجددا القديس أغوسطينوس الذي يقول: “أحبب وأفعل ما يحلو لك” وهل إن دعوة أيل لعناة “أن أزرعي الحب في الأرض” تختلف عن هذه الدعوة؟
من هنا فإن الأديان هي أوجه لمعتقداتنا وتصورنا عن صاحب القدرة منظم الكون ومحاولة تفهم المطلوب منا وقد كنا أنهينا المقال السابق بخماسية الشاعر سعيد عقل التي تدعونا إلى مشاركة الله في خلقه والعمل على تجميل الكون وتحسينه، ومن ضمن هذا المفهوم تحسين العلاقة بين الناس وتطويرها نحو الأفضل. وكلنا صار يعرف أكثر المعنى الشامل لكلمة الأفضل والتي تعيها البشرية، وقد أصبحت الكرة الأرضية بكاملها ملعبها، وبنفس الوقت ملجأها، ولا مجال للأعتقاد بأن جزءً من هذه البشرية سيكون قادرا وحده على تحسين عيش الكل. ولكننا، بتضافر جهودنا وتفهمنا لحاجات بعضنا البعض ومخاوفنا المشتركة، نضع القواعد والقوانين التي لا بد أن تتشابه فتعم بدون أن تتصلب فتنكسر وتتشاوف فتبتعد عن روح الله.