الكولونيل شربل بركات/مسبار الامارات يصل إلى المريخ ومسبار لبنان إلى أين؟

153

مسبار الامارات يصل إلى المريخ ومسبار لبنان إلى أين؟
الكولونيل شربل بركات/12 شباط/2021

كانت دولة الامارات أول امس تحتفل بوصول “مسبار الأمل” الذي اطلقته باتجاه المريخ ليأخذ مدارا حوله ويقوم بدراسة الغلاف الجوي للكوكب والذي قد يفسر، ربما، سبب عدم وجود حياة عليه. وبينما تقوم دول أخرى بدراسة سطح هذا الكوكب ومنها الولايات المتحدة والصين والمجموعة الأوروبية وحتى الهند، فإن مهمة مسبار الأمارات المشاركة بالجزء، من هذه الدراسات العالمية، المتعلق بالغلاف الجوي لهذا الكوكب.

تعتبر مشاركة الامارات العربية، في هذا الوقت من عمر التقدم العلمي باتجاه الكواكب، نقطة مفصلية واساسية لشعوب الشرق الأوسط بمجملها، لكي يكون لها دور على المستوى العالمي في شؤون تتعلق بمستقبل البشرية جمعاء. بينما لا يزال البعض ينادي بنظريات التقاتل وفرض السيطرة على الآخرين، وذلك بالسعي لزيادة التسلح واستعمال الارهاب وإعادة الفكر البشري إلى عصور التخلف. وقد كانت “الدولة الاسلامية” عانت منها ذات يوم في ظل سيطرة الطارئين؛ من بويهيي الفرس من جهة وسلاجقة الأتراك من جهة أخرى. وساهم ذلك في فرض الانحطاط على الشرق الأوسط، فأخّر بالتالي التقدم البشري، جاعلا العالم ينتظر مئات السنين، ليعود هذا التراث نفسه، والذي بقي يدرّس في الأندلس، وبعد ترجمته إلى اللاتينية، على ايدي متنورين منهم يهود الأندلس وموارنة لبنان بعدها (تلامذة المدرسة المارونية في روما)، يعود فيزدهر ليسهم بالنهضة الأوروبية ابتدأ من القرن السادس عشر، والتي ما زالت مستمرة حتى ايامنا هذه.

اليوم تحاول البشرية جمعاء تخطي الصراعات بين الشعوب وتعمل على صناعة تاريخ مجيد ومشترك يسهم في التقارب ويعمل على تفاعل الكل للنهوض من سلبيات الماضي وميراث الأحقاد والبغضاء. ومن هذا التوجه يساهم بعض العرب المنفتحين، والذين كادوا أن يتخلصوا من عقد الماضي، بتطوير واستغلال الثروة لاعمار الصحاري بالواحات الرحبة والجنائن الخضراء والمدن المستقبلية. وهم ينافسون مدارس الهندسة العالمية في تطوير العمارة وتنويع الانتاجية وتصدير وجه جديد للحضارة، بالرغم من الجفاف والرمال التي تحيطهم. بينما يقبع الفكر في سهول سوريا والعراق، والتي يمكنها أن تغذي العالم، في جحور الخوف والانعزال، تحت سطوة أولئك العائدين من غياهب تاريخ الحقد القاتل، والذي يتاجر ليس فقط بالقتل بل وبالانتحار.

إن حاجة الخليفة ابو جعفر المنصور إلى مداواة وجع في معدته، ساهم في تشجيع صناعة الطب والترجمة، التي تطورت مع حفيده هارون الرشيد، ليصبح “بيت الحكمة” زمن المأمون مصدر رزق للعلماء، ومكتبة للعلوم جمعت الفكر البشري، الذي كان اليونانيون قد طوروه بنقلهم خبرات الشعوب التي سبقتهم، وتنظيم المعرفة، وتغليب المنطق، وتهذيب النفوس. فصارت بغداد مركز العلوم والصنائع. وقد احتار الملك الفرنسي شارلماني، الذي وصلته تلك الساعة المائية كهدية من هارون الرشيد ولم يستوعب عملها عقل جماعته يومها، فاستدرك عاجلا ليبدأ بتأسيس المدارس وتشجيع التعليم. ومكتبة بيت الحكمة هذه صدّرت فيما بعد فكر الخوارزمي في الجبر، وابن سينا في الطب، وابن الهيثم في الضوئيات، والرازي في الجراحة المتطورة وصناعة الكحول، والبيروني في الأوعية المتصلة، وحتى خيمياء جابر بن حيان التي ساهمت في الانتقال إلى علم الكيمياء الحديث، عدى عن كل ما حوته من علوم الفلك والهندسة والفلسفة والجغرافيا والتاريخ وغيرها من العلوم.

وفي ظل هذا التقدم التكنولوجي والتطور الفكري الذي تشجعه دولة الامارات، حيث يعمل الكثير من اللبنانيين، نجد لبنان، الذي كان مدرسة الشرق الأوسط وجامعته، ورائد العلوم والمعرفة، وفلسفة الانفتاح والتعاون بين البشر، يتقلص دوره بسيطرة جماعة السلاح على كل مؤسسات الدولة، وفرض تراث الجهل والتعصب الذي استوردوه من أئمة إيران. وهم يسعون لتشجيع انتشار الفكر الأخونجي ايضا، القادم من دولة أردوغان، والساعية إلى إعادة الأتراك لأيام السلطنة في كل شيء، والعمل على نشر التخلف في الفكر ورفض الآخر. في عالم يكاد أن يصبح أصغر من قرية، في ظل تكنولوجيا الاتصالات والأقمار الصناعية، التي تغلف الأرض وتقرّب المسافات وتلغي الحواجز.

فهل إننا لو فكرنا بسبر ما آلت إليه حالة لبنان، السائر بسرعة صوب تهجير كل الطاقات عنده، وتقليص هوامش التفاهم والتواصل، وقطع كل جسور المعرفة والتعاون، سنصل إلى أية نتيجة منطقية تعطي البعض فكرة عما آلت اليه سياساتهم الجبانة في مواجهة حزب السلاح، وتغاضيهم عنه، والتهائهم بالعمل على حلب ما تمكن من بقرة الوطن، ليتركوها وهي تموت، ويرحلون إلى حيث كدثوا أموالهم.؟ فهل يعرف هؤلاء ما صنع راشد بن مكتوم وابنه محمد في تلك الصحراء (وإمارته ليست من الامارات التي تنتج البترول)، وكان حلم الإبن يوما أن يبني في دولته ما يشبه بيروت. وها هي بيروت تفقد كل أحلامها. وهو، باقل من عمر الحرب في لبنان، صنع معجزة في الصحراء، وأصبح اليوم ينافس الدول المتطورة والتي تسبر الفضاء بامكانياتها العلمية وتوجهاتها نحو التقدم.

الشيخ زايد الذي جمع الامارات المستقلة وصنع منها دولة موحدة، كان بدون شك من طينة البطريرك الحويك الذي جمع فتات لبنان التاريخي، يومها، ليصنع منه دولة قادرة على العيش واحترام حرية ابنائها، وتمكينهم من التقدم وبناء المستقبل. ولكننا لانزال، وبوجود من لا يعرف معنى الحرية، ولم يفهم قيمة الوطن والمسؤولية، حتى بعد مئة سنة من الجمع، لا نزال نسعى إلى الانقسام، تارة تحت شعار تحرير فلسطين، وطورا تحت شعار الأخذ بثأر الحسين، وأخرى تحت شعار محاربة الامبريالية والاستعمار، وحتى تحت شعار الأممية الشيوعية التي انتهت في كل العالم ما عدا عندنا، وربما أيضا تحت شعار استعادة سلطة الأمراء والمقدمين من اية فئة كانوا. فهل إن منطق الجمع، الذي سار بشكل جيد في الصحراء وحتى مع وجود النفط، لا ينفع في لبنان الموعود بوجود النفط والغاز، والذي يملك أجمل عطايا الله في طبيعته وطقسه وانفتاح بنيه وعبقريتهم الظاهرة في كل مجال؟ وهل إن لعنةً ما نزلت على هذه البلاد ورحمةً نزلت على أخرى؟ وماذا يمكننا أن نفعل حتى ترحل اللعنة وتعود البركة ويكثر الخير من جديد؟ هل إن لعنة الفلسفة والتعصب الذي نزلت بنا منذ الخمسينات، أو حتى قبلها مع ظاهرة “يوسف العظمة” الضابط التركي الذي رفض لفيصل أن يتفاوض مع الفرنسيين حول ادارة سوريا، فقام بتحدّي قوة الانتداب في “ميسلون” ليزرع الحقد بين السوريين، كما كان زرعه في جنوب لبنان يوم أمر بالهجوم على عين إبل؟ وهل نحن اليوم لا نزال نقطف من زرعه ونركض صوب الجلاد لنهرب من واقع ميسور نحو هم مرتجى؟

يقال بأن الزمن يعلّم والخبرة تغني. ولكننا في لبنان ونحن لا نعرف النقد الذاتي، ونكتفي باضافة الحقد على المآسي، لن نصل ابدا إلى مصافي الأمم الراقية. وسيبقى بدو الصحراء بنقاء فكرهم وتعلقهم بأوطانهم عبرة لمن اعتبر. فلهم بركات الرب، وسبيلهم النجاح، وقدرهم تحقيق الأحلام، والسير على ركب الحضارة، للوقوف بين الأمم بكل كرامة وعزة، ولنا نحن المتغطرسين المذلة والقهر… فهل من يعتبر؟…