الكولونيل شربل بركات: الشرق الأوسط مجددا مركز التغيير

98

الشرق الأوسط مجددا مركز التغيير
الكولونيل شربل بركات/04 شباط/2021

بين حضارة وأخرى، في العصور القديمة، كانت تمر مئات السنين تتمازج خلالها الثقافات في ظل تغيّر السلطات والدول، وهي تنتقل بسلاسة اجمالا، ولكنها تنطبع بشكل أو بآخر بممارسات القوى وتفسيراتها للحقوق والقوانين.

في عصرنا الحديث، اي منذ الثورة الصناعية الكبرى، التي غلّبت الدول الصناعية في أوروبا وأعطتها فائض من القوة والاستقرار جعلها تبسط مفاهيمها على الكرة الأرضية بكل مداها، وتعرّف الشعوب على ثقافتها التي تأثرت بالتشريع البريطاني، والثورة الفرنسية، ومفاهيم الديمقراطية الشعبية، وقد استندت في اللاوعي إلى روحية تعاليم الدين المسيحي الذي كان عمم البنوة الالهية لكل شعوب الأرض. هذه المفاهيم إذا، وقد كانت انتشرت في دول بعيدة مثل روسيا وشمال أميركا، حاولت أن تؤمن نوعا من الأمن للمواطنين، والعدالة في توزيع الفرص، من أجل الاستمرار في الجهد والعطاء، وتطوير السبل والوسائل للوصول إلى عالم أفضل.

ولكننا في ظل هذه الموجات، من نظريات حقوق الأفراد داخل المجتمعات والشعوب فيما بين الأمم، عايشنا ذلك النفس المعارض، الذي تطور من مجرد المعارضة نحو الفلسفة الشيوعية التي نقضت استقرار الدول، وفتحت الباب على مصراعيه للتغييرات الغير منضبطة، في ظل مقولة حقوق الشعوب وتساوي الأفراد. فإذا بالتجربة الروسية، أي الثورة البلشفية، والتي نتج عنها السيطرة على مساحات شاسعة من الأراضي، وشعوب مختلفة في النظرة إلى الأمور، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، تغوص في مشاكل كبيرة، وتتصارع مع مخلفات حضارات لا تتشارك معها نفس التجارب، ما فرض في كثير من الأحيان تغييرات اثنية، ونقل لشعوب وسكان من أراضيهم التاريخية رافقها الكثير من الظلم. ومن ناحية أخرى أعادت الصين إلى نوع من العزلة لتبني حضارة خاصة بها في ظل حرب النظريات.

ثم عايشنا سقوط الاتحاد السوفياتي وانتهاء الثنائية القطبية في توزع دول العالم، ومن ثم الثورة التكنولوجية الجديدة التي جعلت الكرة الأرضية، تكاد أن تصبح قرية عالمية، يسكنها كل أنواع البشر، ويتعاونون بشكل مبهر، في ظل نظام عالمي ترعاه قوانين الأمم المتحدة، وتغذيه طموحات البشرية المتنافسة نحو الخير العام وتنسيق الجهود، في سبيل مستقبل جديد مبني على حرية الفرد ضمن احترامه للقوانين، وتعاون الدول من خلال شرعة واحدة ومفاهيم جامعة، تمنع أي نوع من السيطرة والقهر وتحترم حقوق الشعوب وخصوصياتهم.

ولكننا في مرحلة التسارع التكنولوجي لم نتنبه لتلك الغرائز الدفينة التي بدأت شيئا فشيئا تتسلل إلى بعض النفوس وتدغدغ مفاهيم أعتقدنا بأنها بائدة. وها هي الشعوب نفسها، التي كانت تدين الأمبراطوريات وتعتبر كلمة امبريالية كلمة نابية، تعود لتحلم بالأمبراطوريات القديمة التي مر عليها الزمن منذ آلاف السنين. فإذا كان حلم العروبة التي تعيد أمجاد الأمويين قد سقط مع الدول التي أغناها ظهور النفط، كمحرك اساسي للاقتصاد العالمي، فخافت على ضياع الثروة. فإن هذه العروبة نفسها قد أصبحت عرضة للتآكل من قبل أحلام الأمبراطورية الفارسية من جهة، والأمبراطورية العثمانية من جهة أخرى، وبينهما حلم أمجاد سليمان الملك، ولكن بغياب عز صور ونظامها المزدوج في الحكم والاقتصاد.

يقول قائل بأن الدول الكبرى هي التي تتحكم بالأمور وتسرّع قيام الفوضى في عالم الشرق الأوسط خاصة. لأنها تريد التخلص من بؤر الأحلام القديمة، قبل أن يسود سلام عالمي جديد منفتح ومنظم، لا وجود فيه لأي نوع من التطلعات التوسعية المبنية على القدرة والعدد، والتي يغزيها حب السيطرة ورغبة الغزو. ومن هنا فإن ما نراه من تقاتل، يتوسع أحيانا، وغرائز تتفجر هنا وهناك، ما هو إلا نهاية مرحلة ستدفن إلى الأبد، كان آخرها اظهار رئيس الولايات المتحدة بأنه ظالم ومستبد يريد أن يفرض بقوة السلاح والمال سيطرة بلاده على النظام العالمي.

ولكننا إذ نرى، بين تعطش أردوغان إلى إعادة فرض سيطرة الأتراك على الشرق الأوسط وامتدادها صوب تركة جنكيزخان في آسيا الوسطى، وبين أحلام الخامنئي في إحياء مملكة قمبيز أو كسرى انوشروان التي امتدت يوما من افغانستان إلى شمال أفريقيا ومن البحر الأسود إلى باب المندب، وقيامهما بتحريك الشعوب للتقاتل تحت مسميات وشعارات مختلفة، تقود أحيانا إلى تغييرات ديموغرافية في دول كانت تدّعي أحزابها تصدير الفكر الثوري وقيادة الحركات التقدمية، ودول أخرى متطورة طالما اعتقدنا بأنها تصنع القرار الدولي وتتحكم به، نخال بأن كل تلك المنظومة العالمية، التي حلمنا بأنها تضبط الأمور، تبدو وكأنها لا سلطة لها على ما يجري، وأن الأحداث تسير في أزقة ضيقة قلما تتأثر بقواعد الحضارة ومخاوفها.

وبينما يقف لبنان، الذي طالما مثل ذلك المختبر العالمي لتعايش الشعوب وتفاهمها على توزيع المناصب والثروة، في وضع لا يحسد عليه حيث تتناتهشه غزوات الجوار المستاسدة، وغباء ابنائه التائهين بين ولاء فئوي ضيق وانتشار عالمي غير محدود الشراهة أو الانتماء، وحيث يفتقد سكانه إلى اللقمة اليوم بعد أيام البحبوجة والعز والعيش الرغيد، الذي حسدتهم عليه شعوب كثيرة. هذا اللبنان يقف ضائعا، بينما تتشكل بقربه تحالفات كبرى قد تصبح يوما ما، وإذا ما استقرت الأمور، أسواقا تجارية ومجالات عمل واسعة تستقطب تعاونا دوليا من كل الاتجاهات.

فهل إن دور لبنان سيكون طليعيا في التعامل والانفتاح على كل تلك الأسواق؟ وهل سيكون لأبنائه الذين تعاطوا مع الفرس وتعلموا في مدارسهم، لا بل قاتلوا في صفوفهم أحيانا، بينما يستعد آخرون لتناسي مشاكلهم التاريخية مع الأتراك والتنسيق معهم في مجالات متعددة، وهل يكون الانفتاح على الغرب طيلة هذه السنين والذي تكلل بالنجاح والاستمرار، والتعاون الذي لا يزال متماسكا مع اسواق الكتلة العربية الناشئة والمنفتحة على الجارة الجنوبية، هل سيكون لهؤلاء اللبنانيين دور في تقاسم الرفاه الآتي؟ وهل إن المستقبل سيشهد تعاونا مع السوق الأوروبية من جهة، والبازار الإيراني من جهة ثانية، وأسواق آسيا الوسطى عبر تركيا، بالاضافة إلى اسواق العرب والأفارقة وامتداداتهم نحو الصين والهند، واللتين اصبحتا اسواقا للتصدير والاستهلاك على السواء تنظم وسائل دخولها الواسع إلى ركب الأسواق العالمية عبر هذا الشرق الأوسط الكبير؟

هل إن استعمال الأتراك في امبراطورية اردوغان، لشعوب أسيا الوسطى وبعض السوريين وغيرهم اليوم من سكان شمال افريقيا، في حروبهم الاستعراضية حول البحر المتوسط وأفريقيا وآسيا، واستعمال الفرس الإيرانيين لبعض اللبنانيين والعراقيين واليمنيين والسوريين وقبائل من أنحاء باكستان وأفغانستان، باستغلال ما تبقى من النظريات الدينية، هي لتدجين هؤلاء وغيرهم، وترويضهم على العلاقات العابرة للحدود، في عالم سيكون أكثر انفتاحا وتقبلا من عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى، الذي كان أعطى الشعوب حدودا جغرافية لتأمين وحدتها وتفاعلها وشعورها بالأمان والاستقرار؟

اسئلة كثيرة تطرح اليوم وفي عز الأزمات لكي يعرف من يرسم المستقبل كيف ينجو من أفخاخ التزمت ويتحضر لأسواق الغد التي ستنفتح بسرعة لن يقدر غير المستعدين على دخولها، ولكنها تعد بالاستقرار والرفاه، وتعد بشرق أوسط جديد منفتح ومتكامل، لا تفصله حدود التعقيدات، ولا تمنع التحرك فيه قيود التاشيرات، ولكنه يتطلب تفهما للمرحلة الجديدة سيكون من الصعب جدا على من لا يزال يغط في الأحلام القديمة أن يستوعبه بالسرعة الكافية ليمارس حقوقه بالمشاركة في صناعة الغد.