الكولونيل شربل بركات/صفحات من تاريخ لبنان: بين دامو وعشتار

143

صفحات من تاريخ لبنان: بين دامو وعشتار
الكولونيل شربل بركات/01 شباط/2021

في تلال الجنوب اللبناني، وبالضبط عند مفترق الحدود الحالية التي ترسم بداية لبنان الحديث الجغرافية، وحيث خط الحدود هذا المتجه من الغرب إلى الشرق، أي من راس الناقورة صوب أرض مارون التي يذكرها أب التاريخ الفينيقي المعروف سانخوني أتن، يبدأ بالانحراف شمالا صوب الحرمون، تقع بركة داما. وبركة داما هذه تبعت فيما مضى لهيكل الاله “دامو” أو “دموزي” الذي يسمى في بلاد ما بين النهرين “تموز”، ولا يزال الفرس يحتفلون بعيده منذ آلاف السنين وحتى اليوم، وهو بحسب اساطير حضارة ما بين النهرين يعتبر الزوج الأول، ويرمز في معتقدات هذه الشعوب إلى بناء العائلة التي تستند إلى الخصوبة الذكرية والتي تشكل أساس الاستمرار والخلق بانجاب البنين. ودامو ولو لم يكن الآها كنعانيا إلا أنه أعتمد رمزا للزواج كما هو البعل رمز لخصوبة الطبيعة. وإذا كان بعل القابض على الصواعق هو من يتحكم بالمطر، اي بخير السماء، فإن دامو هو رمز الزواج المقدس والذي يسهم في بناء العائلة وسيلة استمرار المجتمع البشري والأساس الصالح لانجاب البنين. من هنا أهميته وارتباط طقوسه بموضوع الزواج.

لم يفهم اليونانيون القدماء أهمية الرموز الدينية عند الكنعانيين، وهم يوم وصلتهم مع قوافل التجار المتنقلين بين جزر بحر إيجه والبر الشمالي الكبير مارسوا بعضها بشكل عشوائي، كما هي اليوم عادات الأعراس في بلادنا، والتي تُفقِد الحدث أهميته لتشدد على الظواهر الخارجية من مثل الثياب وزيادة البذخ والتشاوف في المأكل والمشرب والزينة والبهرجة وأنواع الموسيقى والرقص، وتحويل جوهر الاحتفال المقدس إلى عملية تباهي بشرية محضة، قد تساعد التجار ومصممي الأزياء ومتعهدي الحفلات على الكسب، ولكنها تفقد الزواج، والعطاء الذي يرافقه بعض الاسراف المادي الغير المحسوب أحيانا، أهمية تلك القيم البشرية وهدفها الأساسي، والذي هو بناء العائلة رمز الانجاب والاستمرار.

ولا تزال كلمة “دام” Dame المنتقلة إلى اللغة الفرنسية من اللاتينية والتي أخذتها بدورها منذ الرومان عن هذا الرمز، تستعمل للدلالة على المرأة المتزوجة، كما كلمات أخرى تستعمل في لغات متعددة وحتى اليوم بشكل طبيعي وبدون أن نعرف اساسها، ولكنها تدلنا إذا ما تعمقنا بمعانيها عن استمرارية وتنقل الحضارة البشرية الجامعة بين شعوب الأرض.

أما “عشتار” وهي ما سماه اليونانيون استارتي Astarte والعبريون “عشتاروت” بالجمع، فهي التي ترمز إلى الخصوبة عند النساء أي الالهة الأم. وعلى تلة أخرى من تلال الجنوب اللبناني غير بعيدة عن هيكل “دامو”، كان يقع هيكل “عشتار” أو “أشيرة” أو “أشيرتا”، والتي لا تزال تحمل اسمها المتحول إلى “شرتا” بسقوط الألف، تلك التلة الجميلة إلى الجنوب الشرقي من عين إبل.

بين هيكل دامو وهيكل عشتار كانت تحدث في الزمن القديم الاحتفالات السنوية بالزواج المقدس، وهو ليس كما صوره اليونانيون؛ عملية احتفالات جنسية غير منضبطة، انما بالعكس تماما فهي عملية تكريس مقدسة للاحتفال بالأعراس بشكل جماعي، أي اجراء أحتفال كبير لارتباط عدد من الشبان مع زوجاتهم الشابات. وهو تقريبا ما يجري اليوم، فأغلب الزيجات تتم في الصيف وخاصة بين شهري تموز وآب، لأن الدورة الطبيعية للاقتصاد المبني على الزراعة تصل إلى قمتها بالعطاء في هذا الشهر، وقد حُصدت الغلال ودخلت الحبوب إلى الخلايا في البيوت وبدأت الأشجار المثمرة تعطي انتاجها والطقس الجميل الدافيء، والذي رحلت عنه حرارة حزيران التي يبّست كل شيء، يصبح محببا أكثر فأكثر خاصة مع تلك النسيمات الخفيفة التي تقلل بالتاكيد من وطأة الحر. وبنتيجة الزواج في تموز يمكن توقع أفواج من الأطفال مع دخول الربيع في نيسان من السنة التالية، وهو شهر خير وبركة تكثر فيه خيرات القطعان وانتاج الأراضي الخضراء. إذا فكل العوامل مهيأة للاحتفال بالارتباط بين الشبان والشابات الذين يتحضرون لبناء عائلاتهم. وهي فرحة كل الأهل لأنهم يرون في تلك الخطوة استمرارا للطاقات الجديدة التي تعطيهم الثقة بالمستقبل.

وللتشديد على أهمية هذه الخطوة فإن التراث المشترك لهؤلاء قد أعطى عملية الزواج هذه الكثير من الأهمية، ولا نزال نحن نمارسها حتى اليوم. ومن هنا، وبما أن الاحتفال يجب أن يكون كبيرا، لا بل الأهم في حياة هؤلاء، فإنه على كل من يريد الارتباط في هذه السنة أن ينتظر يوم الاحتفال هذا. ولنا من التصوير الشاعري للرحابنة في “بياع الخواتم” مثالا مصغرا وجميلا عن هذه العادات في “عيد العزابي” وهو الاحتفال الجماعي بارتباط كل الذين يتجهزون للزواج في نفس السنة مرة واحدة.

إذا الاحتفال بطقوس الزواج المقدس في كل المنطقة كانت تتم في شهر تموز، وتحت رعاية الكهنة الذين يمثلون السلطة الاجتماعية، والتي تقود عملية الحفاظ على العادات والتقاليد ورعاية تنفيذها بالشكل الصحيح.

وهكذا فإن كافة الأهداف من هذا العرس الجماعي تتأمن فالاعلان عن من ارتبط بمن، عملية مهمة يجب أن تُعرف لكي يعلم الجميع بأن هذا الشاب أو تلك الفتاة قد ارتبط نهائيا بشريك حياته، ولا يجوز له بعدها أن يحاول التقرب من غير رفيق عمره، أو أن يحاول أحدهم التقرب منه بقصد الارتباط. ويجب أن يكون معروفا في كل المنطقة التي شاركت الاحتفال.

إذا بعكس ما يشاع فالزواج المقدس هذا المفتوح، أي الذي تدعى إليه كل المنطقة، هدفه الأساسي الاعلان عن من ارتبط بمن، ومن ثم الاحتفال بمعنى الفرحة بأن عائلات جديدة قد أضيفت إلى هذا المجتمع، ما يدعو إلى التباهي والفخر، وتكمله مظاهر البهجة التي تظهر فيها الطاقات والأغاني والرقصات وكل ما يمكن أن يرافق تجمع الأهالي بمناسبات الفرح. وفي مثل هذه المناسبات يتم ايضا التعارف بين أجيال جديدة من الشباب والشابات الذين يتحضرون للارتباط في المواسم القادمة.

كان الاحتفال يتم إذا بتجمع الشباب في هيكل دامو بينما تتجمع الفتيات في هيكل أشيرة، وبعد أن يلقي كاهن دامو عظة توجيهية للشباب الذين قرروا الارتباط، وتلقي كاهنة هيكل عشتار عظة مماثلة لتوجيه الفتيات اللواتي قررن بدورهن الارتباط، ينطلق الجمهور الذي تجمّع في هيكل دامو بمرافقة الشباب بين الهزج والمرح وبالطبع الرقص والدبكة والأغاني التي يرددها الجميع، ينطلقون من هيكل دامو صوب هيكل اشيرة وهذا هو لب الموضوع حيث، وعلى طول الطريق، تتجمع الوفود من الأقارب والأصدقاء والمعارف للمشاركة بالاحتفالات، وهي تصبح بالطبع أهم أحتفال سنوي يقام في المنطقة خاصة ايام البحبوحة والرخاء.

يقول لاجرانج وهو باحث بالكتاب المقدس، بأن الفتى يسوع لا بد قدم من الناصرة إلى هذه المنطقة ليحضر أحد هذه الاحتفالات التي كانت تجري بين هيكل دامو وهيكل عشتار. وهي ليست بالغريبة فإن لوالدته العذراء مريم اقارب في جنوب لبنان، ولا يزال مقام “النبي عمران” مكرما حتى اليوم بالقرب من القليلة، وهو ما يفسر وجودها في عرس قانا الجليل، الذي أطلق خلاله السيد المسيح عملية البشارة بأولى عجائبه والتي حول فيها الماء إلى خمر.

لماذا اختار يسوع المسيح الاعلان عن بدء البشارة في هذه المنطقة التي عرفت فيما بعد ببلاد “البشارة”؟ وهل أنها كانت صدفة أم أن كل شيء يسير بتخطيط الهي رباني؟

لماذا اذا يشارك يسوع فرحة عرس، ولو لعريسين يهوديين، في أرض الكنعانيين أو ما كان يسمى بجليل الأمم، ومنها يطلق رسالته التبشيرية التي أكملت العهد القديم بأن منحت حق البنوة لكل سكان الأرض وليس فقط لشعب الله المختار بحسب الشريعة وكتب الأنبياء؟

الجواب يمكن أن نراه في جواب المرأة الكنعانية للكلام الجارح الذي وجهه إليها الرب يسوع، وكان برفقة تلاميذه، عندما طلبت أن يشفي ابنتها. فهو قال لها بأن “خبز البنين لا يرمى للكلاب”. وهذه النقطة اساسية في معتقدات الشعب اليهودي، شعب الله المختار، نقطة التفوق أو التمييز، وهو المسيح المنتظر الذي أرسل ليقود هذا الشعب نحو الخلاص، فكيف ينقذ غيره من الشعوب؟ والمسيح الذي كان زار هذه المنطقة عدة مرات لا بل تعاطى مع سكانها وعرف معتقداتهم واخلاقياتهم، وحتى بدون أن نُدخل الالهام الرباني، كان يعلم بأن تلك المرأة سوف تتقبل “الاهانة”، لا بل سوف تحرج مرافقيه في جوابها بأن “الكلاب ايضا تأكل من الفتات الملقى عن موائد البنين”. وهذا “التواضع” هو بالضبط ما أراد المسيح أن يتعلمه تلاميذه من تلك المحادثة. ففي التواضع والقبول بمشيئة الله نرتقي لنصبح أبناءه “فالله قادر أن يجعل من هذه الحجارة اولادا لابراهيم” كما قال للمرأة السومرية، ولكننا لا نستحق بنوته إن نحن أبقينا على روح التعالي على الآخرين والتشاوف بأننا مختارين نكتفي بممارسة الشريعة بحذافيرها دون أن نحافظ على روحيتها في أحيان كثيرة.

اليوم وبعد ألفي سنة على هذه الأحداث هل بقيت روحية العرس وعملية الزواج المقدس الذي ينمي العائلات ويكثر من البنين لتأمين استمرارية الجنس البشري؟ أم أننا نحاول بأنانية مطلقة أن نمنع الانجاب ونخفف عدد العائلات المستعدة لتربية أبناء صالحين يسيرون على طرق الحياة، يتعلمون التعاون والمحبة، ويمارسون الانتاج والابداع، ويجارون الطبيعة في مسيرتها المتجددة؟ أسئلة موجهة للأجيال الجديدة ولمن يقوم بتغيير العادات والمفاهيم وباقتباس رؤى ونظريات لا تمت للحياة بصلة ولكنها تشدد على أنانية تحاول أن تجعلنا نتمسك بها فنضيع خبرات أجيال وشعوب سبقتنا وتركت لنا تقاليدها وخبراتها في ما اعتدنا عليه وما بقي في ذاكرتنا من مفاهيم استمرت الوف السنين وأوصلتنا أن نكون أسياد الأرض بدون منازع نشارك الله سبحانه في عملية الخلق والتطوير ونكتفي بما تنتج ايادينا بالجهد المتواصل الذي لولاه لتوقفت الحياة في أجسادنا الهشة.

فبين دامو وعشتار هل لا يزال العرس هدف أجيالنا الآتية وهل ستكون العائلة الخلية الأساسية لمجتمعات الغد أم أن الروبوت سيحل محل الأطفال والذكاء الاصطناعي سيقضي على آمال البشرية في الاستمرار؟…