نوال نصر/Off… On… روح… تعا/الإتحاد العمالي العام الذي أمسكته السلطة من أذنيه

56

Off… On… روح… تعا/”الإتحاد العمالي العام” الذي أمسكته السلطة من أذنيه
نوال نصر/نداء الوطن/12 كانون الأول/2020

رؤساء الاتحاد العمالي العام، منذ تسعينات القرن الماضي، حتى اللحظة، أتوا على قياس “المصلحة السياسية” وها هو بشارة الاسمر اليوم يعطي مواعظ، مع فارق أن العمال في لبنان الى انقراض والجوع الى تزايد، وكل خبريات “الغضب” التي يرفعها الأسمر ما عادت تجدي أمام حقد العمال على اتحاده وسلطته والأحزاب، التي قبضت على من كان يفترض به أن يكون لسانه وصمام أمانه وما زال يُحرّك “On /Off”!

*****
غريبٌ عجيب أمر لبنان ومؤسساته العامة واتحاداته، وبينها طبعاً الإتحاد العمالي العام، الذي يغرق من زمان وزمان في موتٍ سريري، ولا يتذكر “ما له وما عليه” إلا حين يناديه “الباب العالي” فيقفز محذراً من “يوم غضبٍ” و”طفحان كيل”، داعياً الى “وقفة” تتعطل ما إن يكبس من يقبضون عليه زر “أوف”. وبين “أون” و”أوف” تدور قصة الاتحاد الذي سمّي باسمِ العمال وأُمسك، من أذنيه، من سلطة وسياسيين!

فترض بوجع الناس أن يُحرّض الإتحاد العمالي العام لكننا في بلدٍ يُمسكُ “بخوانيق” اتحاده أناس بلا أحاسيس وضمائر، ويحتاجون الى “تحريضٍ” من نوع آخر، يأتيهم على طبق آخر، من مكان آخر، آخر من فيه هو العامل اللبناني المسكين. هذا ما كان، وإن بنسبٍ وقياسات، منذ أيام غابرييل خوري مروراً بجورج صقر وأنطوان بشارة والياس أبو رزق وغنيم الزغبي وغسان غصن وصولاً الى بشارة الاسمر. وما بالكم ببشارة الأسمر الذي أساء الى أعلى رمز روحي مسيحي وعاد ليتحدث باسمِ العمال (حين يوقظوه طبعاً بكبسة “أون”) وينادي بيوم غضب وحراك.

الإتحاد العمالي العام يعمل وفق أجندات سياسية، لحساباتٍ بحت شخصية، وما عدا ذلك من نخوة وحراك و”وقفة” وحماية لعمالٍ أصبحوا عمالاً سابقين، هو مجرد استجابة لقرارٍ (ليس سراً) أعلنته “حركة أمل”، القابضة على الإتحاد، وأتى متأخراً كثيراً. ولا تُطبق عليه القاعدة القائلة “أن يأتي متأخراً خير من أن لا يأتي أبداً”. لأنه سيعود ويتعطل حين تصدر الإشارة بذلك والتجارب خير دليل.

خبز الفقراء
نجحت السلطة في القضاء على الإتحاد العمالي العام. وكم سألنا على مدى عقدين ماضيين: هل عمال لبنان مطية لأهل السلطة؟

أنطوان بشارة، الذي تولى رئاسة الإتحاد في عزّ الحرب بين العامين 1982 و1993، نجح في الحفاظ على وحدة الاتحاد في وقتٍ صعب، مكرراً أمام كل من التقاهم بين تقاعده ورحيله “صحيح ان الاتحاد ضمّ في ايامي أشخاصاً ينتمون الى أحزاب لكنهم كانوا يفهمون ضرورة ان يتركوا ثوبهم الحزبي على العتبة”. لكن بشارة هذا أخذ قرار الإبتعاد عن الإتحاد على أيام غنيم الزغبي الذي خلفه في رئاسة الاتحاد هامساً: “أصبح الإتحاد مطية للأحزاب التي تقاسمت المراكز في مكتب الإتحاد. احتكر قرار الاتحاد “حزبُ البعث العربي” و”حركة أمل” و”القومي السوري”. خنقوه. ويوم قابل أنطوان بشارة غسان غصن، الذي شغل رئاسة الإتحاد، قال له: “بدك تتحرر. لازم تتحرر. وإذا لم تنتفض رح تروح عليك وعلى الإتحاد. تحرر حتى ولو خسرت مركزك”.

كيف لغسان غصن أن يتحرر؟ لو كان من صنفِ من يستطيعون اتخاذ قرار التحرر لما جيء به من الاساس. أنطوان بشارة، في لقاءٍ جمعنا به قبل وفاته قال لنا: “زارني مستشار وزير العمل أسعد حردان وقال لي بالحرف: “بدنا نمرّق غسان غصن”. أجبته: “لن نقبل برجل حزبي في الاتحاد”. لكن الرجل عاد ووصل الى رئاسة الاتحاد بتوافق من “حركة أمل” و”الحزب السوري القومي الاجتماعي” و”البعث”. ومكث في موقعه 17 عاماً. وكان حين يُعلن هؤلاء الثلاثة القرار بالإضراب يعلنه. ظلوا طوال عهده يقومون بما يريدون تحت شمعدانه. وكل التظاهرات التي طالب بها كانت ترفرف فيها بيارق حزبية لا عمالية. تغلغلوا بين العمال وعرقلوا اتحاده ودمروه. فهل علينا أن نصدق أن بشارة الأسمر يتجرأ اليوم ويعلن إضراباً من دون تحريض حزبي؟

الإضراب ليس تحت عباءة الإتحاد
بشارة الأسمر لم يكن سوى رقم إضافي في هذا الإتحاد “اللهوة” لعمال لبنان و”اللعبة” في أيدي من “كمشوه” بأذنيه. أما العلامة الفارقة التي أحدثها فمحصورة بـ”اللحية” التي رباها ويتسلى في تشذيبها، وهو من يتقاضى راتباً خيالياً لقاء تلاوته كلمة “سمعاً وطاعة” والبقاء “غبّ الطلب”.

نردد “مرتين يا حرام يا عمال لبنان”، الأولى لأن 55 في المئة منكم عاطلون اليوم عن العمل و”الخير لقدام” والثانية، لأن على رأس الاتحاد الذي يفترض أنه يمثلكم دمية. والأنكى انها دمية تحاضر في “الغضب” وتنادي، تحت إمرة “حركة أمل” أولاً، بأي حراكٍ تُحدده هي “أون أوف”. و”روح تع”. الإتحاد العمالي العام استحقّ في العقدين الماضيين علامات متدنية وصلت مع بشارة الأسمر الى صفر مكعب.

ذنبه أم ذنب العمال؟ فهل هم، عمال لبنان، من سمحوا له بأن يتمادى أم هو من تمادى غصباً عنهم؟ وهل باليد حيلة إذا انتفض عمال لبنان ام انه لم يكن امام هؤلاء العمال سوى ان يضربوا رؤوسهم في كل الأيام الصعبة بالجدران السميكة، علّهم يصابون بغيبوبة وينسون ما آلت إليه مصائرهم ويبقون عائشين هائمين على هامش الحياة؟

المراهنة على وجع العمال
في علم النفس المهني يتحدثون عن الإعتياد على نظام أو system يلد فيه الناس، العمال، ويترعرعون ليُصبحوا أبناء هذا النظام فيتصورونه حقيقة مؤكدة ليس امامهم سواها. فيتلهون “بيوم غضب” و”حراك” يُدعون له ويظنون أنه “صُمم” لهم، من أجلهم، غير مدركين أن هناك من أعطى الضوء الأخضر له ليس من أجلهم بل من أجله وحده. فهل هؤلاء العمال كانوا، ولو ذات حين، أولوية عند اتحادهم؟ وهل سعادتهم اولوية عند اتحادهم؟

الرب يأخذ ويعطي وهو أعطى الانسان، البني آدم، عاملاً مهماً جداً يتمثل بقدرته على التكيف مع المسائل مهما كانت موجعة، وهو يُشبه في هذا ماكينة تلتوي إذا تعرضت لضربة ما، من اي جهة، لكنها لا تلبث ان تعود مع الوقت وتستعيد شكلها الاول. الانسان يعمل، في طبيعته، على الدخول في تركيبة النظام العامة، مثلما هي، ليتمكن من مماشاة الحياة المفترضة حتى ولو كانت له مآخذ على الاسلوب وعلى التطبيق. هدف الانسان الاول ان يعيش وهو يملك أنظمة في تكوينه تدافع عنه. أجور العمال في بلادنا مثلاً، في غالبيتها، لا تكفيهم من زمان وزمان لكنهم يتدبّرون امرهم، مستندين الى شيء جميل في لبنان هو العائلة والبيئة والطائفة، بمعنى أنه إذا كان “مزروكاً” يلجأ الى شقيقه او ابن خاله او ابن عمته أو الى مغتربٍ ما فيعينه، وهذا ليس موجوداً بالطبع في الخارج. هذا النظام القائم في البلد الذي لا يُعطي العامل حقه يُعطيه في مكان آخر امكانية ان يتدبّر أموره! ولكن، ماذا حين يصبح الشقيق وابن الخال وابن العمة في فاقة وحين يُصبح المغترب غير واثقٍ لا بلبنان ولا بإمكانية وجود حلٍّ فهل نكون قد وصلنا، كما وصلنا، الى الدرك الأسود الحالك؟

غسان غصن أمضى في موقعه رئيساً 17 عاماً لم يصحح فيها الحد الأدنى للأجور سوى مرة واحدة فقط لا غير، مبقياً على الرغيف يضعف ويضعف حتى أصبح لقمة سائغة في أفواه جبابرة الإقتصاد الذين يساومون الآن عليه: فهل يرفعون عنه الدعم أم لا؟ وإذا أطلوا ليقولوا: لا لرفع الدعم فإنهم بذلك يستجيبون الى “سياسي” أو “دولة رئيس” أو “زعيم” يريد استخدام هذه “اللا” في حساباته لا في حسابات “اللقمة النظيفة”. فهل الإتحاد العمالي العام مطيّة دائمة سرمدية في أيدي السياسيين؟

بشارة الأسمر
غسان غصن اعترف ذات يوم بذلك لكنه “لطّف” من ذوبانه في بوتقة المصالح السياسية بقوله: “نحن في مجتمع تركيبته مزيج من كل شيء، الاقتصاد مع السياسة مع الاجتماع مع الطائفية مع الشؤون المدنية، والاتحاد هو ضمن هذه التركيبة، تندمج فيه كل تلك العوامل وتختلط. ونحن نعرف تماماً هذا لكننا نطمح على الرغم من هذه الحالة، من هذا النظام، الى تحقيق رغبات الناس”.

رؤساء الإتحاد العمالي السابقون كانوا يكررون في كل مرة يخرج من يتهمهم بأنهم “مطية” بالقول: ان المبدأ العام في العمل النقابي تفاوض ونضال وحركة تحقيق مطالب وليس حركة انقلابية، وبالتالي لا يمكن تغيير كل شيء في نفس اللحظة بعصا سحرية، فالكل يرفعون سقوفهم، قطاعات اصحاب العمل والدولة وفي آخر المطاف علينا ان ندخل في مفاوضات، وكل طرف يُفترض به ان يتقدم خطوة الى الامام. لا نتنازل بل نتقدم خطوة الى الامام. اننا نعمل وفق سياسة افضل الممكن، “على الزيح”، فإما نتركها “تبج” من دون ان يحقق العامل شيئاً او نرضى بالممكن. المهم ان نصل الى نتيجة فإذا لم نتمكن من الحصول على كل شيء فلنقبل بشيء!

الاتحاد العمالي العام إذاً تأقلم مع هذا النظام وأصبح يقبل بأفضل الممكن لا بما يُفترض أن يصبح، بنضاله، ممكناً! والأسوأ أن “الزيح” المرسوم له يخدم أهل السلطة لا ناسها.

بدّا حقوقها
الإتحاد العمالي العام “مضغته الأحزاب كثيرا” حتى تلاشى. وكل هذا جعل العمال في يأس، في “سترس”. وفي علم النفس المهني “ثمة حالات ثلاث يمر فيها الانسان في دفاعه عن نفسه: اولاً، إذا هوجم قد يصرخ، قد يهاجم، وقد يدافع عن نفسه، وكلها حالات مفيدة. ثانياً، ثمة من يختار الدفاع عن نفسه، في حالات التوتر القصوى، بالانسحاب من مكان الازمة، ومثل هذا التصرف يحمل في مضامينه نوعاً من اعتراض ويريح الاعصاب. اما الحالة الثالثة فهي سلبية الى حد كبير، تجعل الانسان في احباط “down”، وتتمثل في الرضوخ الى الحالة او “الكربجة”، وفي حال تكررت يُصبح “السترس” سلبياً”. عمال لبنان اليوم أصبحوا واقعين في “السترس السلبي” وما عادوا يثقون لا بيوم غضب ولا بحراك تحت يافطة الإتحاد العمالي العام. وباتوا يثقون أكثر بأنهم، مثل اتحادهم، مطية. لذا لا بشارة الاسمر ولا سواه سينجحون بعد اليوم في تحريك الشارع العمالي.

الياس أبو رزق رئيس آخر لاتحاد عمالي فاشل. أتى به رئيس “حركة أمل” وقضى عليه رئيس “حركة أمل”، وذلك بتأليب الاتحادات التي “فرّخت” كما الفطر منذ عقود كي يتشبث السياسي بـ”زلاعيم” الاتحاد. ويومها سأل أبو رزق الرئيس نبيه بري: هل يحق لأعضاء الهيئة العامة في المجلس النيابي بالأكثرية المطلقة أم بأكثرية الثلثين أن يجتمعوا من تلقاء أنفسهم ويقرروا إقالتك قبل انتهاء الولاية؟”. جاء ردّ بري يومها باستكمال إقالة أبو رزق ولا يزال متربعاً على عرش المجلس.

ثورة
لمن لا يعرف قصة أبو رزق، إستخدم هذا الرجل مطامعه الذاتية ودخل في اللعبة النيابية وأوقعوه في فخّ العمل السياسي، ما جعله يقبل بدخول ستة إتحادات شيعية جديدة، إنضمت الى 21 إتحاداً قطاعياً كانت موجودة. هذا الإتفاق جرى بالتنسيق بين أبو رزق ومدير عام وزارة الإعلام سابقاً محمد عبيد. ووُعِد أبو رزق بنيل دعم “حركة أمل” في الجنوب، عن دائرة مرجعيون، غير أن الحركة دعمت أسعد حردان. وهذا ما أسس لمعركة سياسية شخصية بين رئيس الإتحاد العمالي العام والرئيس نبيه بري. وذلك بعد أن ساوم أبو رزق بشخصه ليحصل على موقع سياسي على حساب كل لبنان وعمال لبنان.

رؤساء الاتحاد العمالي العام، منذ تسعينات القرن الماضي، حتى اللحظة، أتوا على قياس “المصلحة السياسية” وها هو بشارة الاسمر اليوم يعطي مواعظ، مع فارق أن العمال في لبنان الى انقراض والجوع الى تزايد، وكل خبريات “الغضب” التي يرفعها الأسمر ما عادت تجدي أمام حقد العمال على اتحاده وسلطته والأحزاب، التي قبضت على من كان يفترض به أن يكون لسانه وصمام أمانه وما زال يُحرّك “On /Off”!