المحامي عبد الحميد الأحدب: الإستقلال جاء بكل الويلات والآن يحضّرنا للزوال/آن الأوان ان نرسم استقلالاً يراعي وضع شعوب وطوائف هذا البلد، بدءاً بالحياد مروراً بالفدرالية، على يد رجال اوادم مثل ريمون اده وفؤاد شهاب

116

الإستقلال جاء بكل الويلات والآن يحضّرنا للزوال …. آن الأوان ان نرسم استقلالاً يراعي وضع شعوب وطوائف هذا البلد، بدءاً بالحياد مروراً بالفدرالية، على يد رجال “اوادم” مثل ريمون اده وفؤاد شهاب.

المحامي عبد الحميد الأحدب/13 تشرين الثاني/2020

كنا نحتفل في 22 تشرين الثاني من كل سنة بعيد الإستقلال! الى أن تراجع مع الوقت في السنوات الأخيرة وهج ومعنى الإستقلال! وأخذنا نطرح على أنفسنا لاسيما هذه الأيام التي يتهاوى فيها لبنان ليكاد يزول كما حذّر من ذلك وزير الخارجية الفرنسية حين قال أنّه إذا لم تتم الإصلاحات فإن لبنان مهدد بالزوال! في هذه الأوقات العصيبة ونحن نرى طبقة سياسية تحكم وتنزل بنا الى الهاوية وهي تعيش في كوكب آخر!! في هذه اللحظات نتساءل: هل كان الإستقلال نعمة علينا أم نقمة؟

لو بقي الإنتداب هل كان عهد الشيخ بشارة يزوّر الانتخابات؟
هل كان عهد كميل شمعون يترك ثورة 58 تندلع؟
هل كان اتفاق القاهرة يوقّع؟
هل كانت الحرب الأهلية تنشب تاركة مئات الوف القتلى ومئات ألوف الجرحى؟

عند انشاء لبنان منذ مئة سنة كان الإنتداب الفرنسي هو الذي يحكمه! ففُتحت الجامعات والمدارس والمستشفيات والشوارع وانتظمت الإدارة وانتظم القضاء المستقّل المختلط وتحقّقت العدالة وانتظم الاقتصاد والمال و.. و.. الى أن كان الإستقلال سنة 1943، وبعد ذلك انتقلنا من تزوير الانتخابات سنة 1947 الى ثورة 1958، الى فترة سماح في عهد فؤاد شهاب جرت خلالها محاولة بناء دولة على الحياد بين الدول العربية، كان المسيحيون يتّهمون عهد شهاب بأنّه مصري (عبد الناصر). ثم جاءت “مزيارة” فحطمت دولة فؤاد شهاب ومهّدت للحرب الأهلية.

لبنان، ليس فيه شعب واحد، كل طائفة شعب! وكان هذا يظهر بجلاء في كل ازمة تنشب! فهل تعطى دولة متعدّدة الشعوب أي استقلال غير مدروس على قياسات شعوب وطوائف لبنان وإذ ذاك لا يستغرب تقاتل شعوبها وطوائفها؟

من سنة 1920 الى سنة 1943 عاش لبنان بأمان وسلام وحضارة وتقدّم وكرامة الإنسان! بعد ذلك انتقلنا من التزوير الى الثورة الى الهدنة الى المزرعة التي هدمت ما بنته محاولة انشاء دولة، الى الحرب الأهلية، الى الإنتداب السوري وحكم غازي كنعان، ثم رستم غزالة ثم جامح جامح، الى الحكم الإيراني الذي يستحكم هذه الأيام بالبلاد والعباد عبر ملالي ايران!

هل كانت فكرة الإستقلال صائبة؟
اميل إدّه هو الذي عيّن أول رئيس وزراء مسلم هو خير الدين الأحدب وهو الذي رتّب لإنتخاب الشيخ محمد الجسر رئيساً للجمهورية إذ ذاك حلّ المفوّض السامي البرلمان. وكان اميل اده يؤمن بالإستقلال، ولكن ليس “كإستقلال 1943” بل على قياسات الطوائف والملل والشعوب في هذا البلد الصغير، إستقلال مع حلف مع فرنسا تكون فيه مرجعاً يحل الأزمات التي تنشب بين طوائف وشعوب هذا اللبنان! فلا يقع تزوير في الانتخابات، ولا تقع ثورة، ولا تقع حرب أهلية، ولا يُحكم لا من المخابرات السورية، ولا من الملالي الإيرانيي، ويكون في لبنان دولة تحترم نفسها وقوانينها..

الإستقلال الذي فرحنا به حلّل الحرام وحرّم الحلال: ضاعت هيبة واستقلال القضاء وصارت الرشوة هي القاعدة وصار الذين “يفرّخون” من الزعماء آلهة يستبيحون أموال الدولة وينشرون الخراب والرشوة ويفرّغون صناديق الدولة في جيوبهم دون حسيب ولا رقيب!

كل عهد له المدلّل الذي ينشر الرشوة والفوضى: الشيخ بشارة كان له السلطان سليم ظل الرئيس، سليمان فرنجية كان له طوني بك فرنجية ظل الرئيس، وميشال عون كان له الصهر جبران باسيل ظل الرئيس الذي استفحل في الرشوة والتخريب حتى اضطرت أكبر دولة في العالم الى وضعه على لائحتها السوداء!

هذا ما جاء به الإستقلال، وهي ظاهرة في دول العالم الثالث يسكرون بالعبارات الجذّابة ثم يسقطون في وديان الواقع، خاصة دول العالم الثالث متعددة الطوائف والشعوب! يحبّون المظاهر، مظاهر الحرية والإستقلال، في حين أنّ الذي يعمّ بعد الإستقلال هو الرشوة والفقر والجهل والفوضى والإستبداد وضياع استقلال القضاء!

كان اميل اده يريد الإستقلال، ولكن استقلالاً على مقاس هذه الشعوب والطوائف، فيه مرجعية نتحالف معها تحل لهذه الشعوب والطوائف المتناحرة تحل لها أزماتها حتى تحول دونها، ولا تترك الشعوب والطوائف والملل كالأيتام على مآدب اللئام.

لعل الساعة دقت بعد مئة سنة لتأمل العبر! وعدم التلهي بالكلمات الرنانة الفضفاضة التي لا تكون مدروسة.
الإستقلال، ماذا يعني الإستقلال وكيف كان الإستقلال وبالاً علينا؟ الإستقلال لبلد فيه طوائف وشعوب متناحرة.
الإستقلال ليس أي استقلال بل استقلالٌ على مقاس هذه الشعوب والطوائف والملل. هذا هو الإستقلال الذي كان يسعى إليه اميل اده وليس استقلال الإباحة والإستباحة الذي جاء به بشارة الخوري سنة 1943.
سويسرا مكوّنة من شعوب وطوائف اختارت الحياد والفدرالية لتحقيق الإستقلال.

الأمر ليس لعب أطفال. 1943 كان أكبر غلطة في تاريخ هذه الشعوب والطوائف. كانت ربما تحتاج الى مرحلة انتقالية بحلفً مع فرنسا تكون فيه المرجع الذي يحل الأزمات الى أن تتّضح. كما كان يفكر اميل اده الذي حوّلوه الى خائن وضيّعوا ابنه ريمون اده الذي كان ضمير هذه الشعوب والذي بنى هو وفؤاد شهاب دولة عصرية فيها الرخاء والحرية والازدهار، فهجرّوه واستعاضوا عنه بغازي كنعان ورستم غزالة وملالي ايران، هذا هو استقلال 1943.

كان لدينا ادمون نعيم فاستعاض الاستقلال عنه برياض سلامة، وهكذا.

آن الأوان ان نرسم استقلالاً يراعي وضع شعوب وطوائف هذا البلد، بدءاً بالحياد مروراً بالفدرالية، على يد رجال “اوادم” مثل ريمون اده وفؤاد شهاب.

آن أوان ان نشغّل عقولنا وليس غرائزنا ولا جهلنا فنصب الاستقلال في اطار على مقاس وعلى تركيبة هذه الشعوب والطوائف والملل المتناحرة، وعلى يد رجال شرفاء وطنيين يسعون لبناء بلد ينعم فيه ابناءه بالعيش ولا يكون جحيماً كما قال ميشال عون!

نظام الاستقلال لا يستطيع ان ينتظر الشعوب والطوائف في لبنان الف سنة ضوئية حتى يتفاهم معها!

فلا أحد يدري اذا كنا بعد عشرين الف سنة سنجد نظام استقلال لكل هذه الشعوب والطوائف والمذاهب ليتفاهم معها، يوم نجد النظام الاستقلالي الملائم، الحياد والفدرالية ونسعى لأن نصبح كلّنا لبنانيون. فالسويسريين لم يولدوا سويسريون بل تحاربوا وتقاتلوا الى أن وصلوا الى استقلال يلائمهم فكانت الجنة وخرجوا من الجحيم.

خلال عهود الاستقلال بحثنا عن الإنسان اللبناني فوجدناه مدفوناً كأسماك السردين في اشعار الجاهلية، وجدناه مشنوقاً على ابواب المدن اللبنانية يقف ويبكي ويجوع.

الاستقلال ضد القبح، ولكن اي نظام استقلالي لكل هذه الشعوب والطوائف والمذاهب. الاستقلال نظام مهمته الأساسية ان يحمي من الرعب والظلم والقبح! وليس هو الذي يحقق الظلم والقبح والرعب.

لا يمكن لنظام الاستقلال ان يكون لا منطقياً ولا أخلاقياً مع القاتل ضد القتيل كما عشنا منذ 1943، ولا مع الظالم ضد المظلوم، ولا مع الخنجر ضد لحم البشر كما عشنا منذ 1943.

لقد آن الأوان لتنتهي الإجازة الطويلة التي أخذها العقل اللبناني وقضاها في الأكل والشرب والنوم واصطياد الغزلان.

آن الأوان لتنتهي فترة جلوس العقل اللبناني في المقهى ولعب الورق وارتشاف القهوة المرّة وتدبيج المدائح وتأليف المواويل.

إذا كانت السياسة اللبنانية كما رسمها وطبّقها ميكيافيللي هي مشروع بناء مدينة فاضلة غير ممكن، أما إذا كانت السياسة هي الفضيلة والأخلاق فالمدينة الفاضلة ممكنة وسهلة جداً في لبنان.

إذا كان الشعب اللبناني يتوجع فكرياً ويعاني قومياً وسياسياً وديمقراطياً فلأن الذين يحكمونه كلهم ميكيافيلليون.

ليس هناك كتاب لتعليم قيادة السيارات. لو كان هناك كتاب من هذا النوع لأصبح كل الرجال وكل النساء دكاترة في فن صنع الأوطان الحرة الآمنة والمستقلة.

نظام الإستقلال يعلّم نفسه بنفسه كما يطير العصفور دون ان يدخل مدرسة الطيران وكما تسبح السمكة دون ان تدخل سلاح البحرية.

مثل هذا اليوم سنة 1943 كان وبالاً وفاتحة لكل المجازر والمآسي والآلام والأوجاع والمجاعات التي شهدناها. ليس من الكتب يجب ان نخلق نظام استقلال لبنان المتعدد الشعوب والطوائف بل من الضمير والتجربة والفكر الحر.