الكولونيل شربل بركات/من تاريخ قرانا..”المجبر” ومهنة تجبير العظام المكسورة

237

من تاريخ قرانا..”المجبر” ومهنة تجبير العظام المكسورة

الكولونيل شربل بركات/04 تشرين الأول/2020

في الماضي من الزمن كان هناك مهن مطلوبة وتخصصات مهمة لم تكن تدرّس لا في المدارس ولا الجامعات ولكنها كانت حاجة ماسة لأبناء المجتمع وضرورة لاستمرارهم والحفاظ على ثرواتهم وحيواناتهم التي يعتمدون عليها في رزقهم. من هذه المهن أو الاختصاصات كانت مهنة “المجبر” وكانت عادة متبعة بين الرعاة، فمثلا إذا سقط راس ماعز أو غنم في حفرة أو عن ضهر الشير يمكن أن يتأذى بكسر ساقه أو بأن يخرج باطه من مكانه، وهي الأكثر شيوعا، وهذه الحالات كانت بالعادة تؤدي إلى فقدان الحيوان لصحته لأنه لن يقدر على تتبع القطيع ما يضطر الراعي أو صاحب القطيع إلى ذبحه. ولكن أحيانا كثيرة كان صاحب القطيع يفضل معالجة الحيوان وشفائه إن أمكن بدل ذبحه. من هنا دخلت صناعة التجبير وهي تقوم على اعادة وضع العظم في مكانه وربطه إلى عود أو أكثر لابقائه بوضع صحيح، ومن ثم وبعد أن يشفى شيئا فشيئا يمكن فك الرباط ونزع المساند.

كانت هناك حيوانات تجبر “على عطال” اي أن عظمها يجبر ولكن بشكل غير صحيح. لذا وبالممارسة أصبح هناك من يعرف أن يتفنن بموضوع التجبير واعادة وضع العظام إلى اماكنها والربط الصحيح كي يبقى الطرف متماسكا حتى الشفاء. وكانت هذه العملية تتطلب أحيانا مراقبة الوضع ومتابعة المكسور لعدة أسابيع حتى يكون العظم قد جبر. وفي حالات خاصة كان يجب أن يصار إلى وضع نوع من الغلاف فوق الرباط يستعمل فيه العجين والبيض أحيانا والذي بعد أن ينشف يصبح قاسيا ما يشكل، كالجبص المعتمد لاحقا مع الناس، نوعا من القالب الذي يحافط على الوضع ويحمي من الصدمات ويؤمن بقاء العظم ثابتا حتى شفائه.

وكان على الراعي بالعادة أن يبادر إلى مثل هذه الاجراءات ويتعلم الصنعة كي يخلّص حيواناته التي تنكسر. من هنا وقد كان بيت مطر، من الذين يملكون قطعانا كبيرة من الماعز خاصة، مضطرين أن يتعلموا الصنعة ولذا فقد برع في الأجيال التي سبقتنا اسم “حنا اسعد مطر” بأنه خبير بالتجبير. وزاع صيته بين رعيان المنطقة. وقد كان للمطرية ابناء عين إبل مزرعة إلى الجنوب على الحدود الحالية بين لبنان واسرائيل تسمى المنصورة أصبحت فيما بعد قرية صغيرة وبقيت حتى 1948 حيث أخليت بسبب وقوعها على الحدود بين دولتين “عدوتين” وبينما تهدمت بيوتها بقيت الكنيسة حتى مع سقفها القرميد تطل على عين إبل شاهدة عليها.

كان حنا أسعد معروفا في كل المنطقة بالتجبير واصبح مجبر يقصده الناس ليس للحيوانات فقط بل وللبشر ايضا. وكان، وحتى بعد أن بَعُد عن القطعان وسكن بيروت، يسهم في عمليات التجبير. وإذا ما كسر أحد ما يده أو ساقه أو خرج باطه لسبب ما يستدعى حنا أسعد لمعالجته ولو اضطر أحيانا للقدوم من بيروت خصيصا.

ومع الوقت وبعد أن توفي حنا أسعد تجرأ البعض على ممارسة هذه المهمات ولو بدون الخبرة الكافية. وفي ايامنا زمن الحرب كان “جميل رزق دياب” معروف بأنه يحسن عملية التجبير أو على الأقل أعادة العظام إلى أماكنها ولو أنه في تلك الأيام كنا تجاوزنا هذه المهنة بشكلها البدائي واصبح يقوم بها أطباء متخصصون بالعظام حيث يفحص العضو المصاب بصور الأشعة قبل أن تجري عمليات التجبير.

في سنة 1977 وقد كنا محاصرين في عين إبل وكان “جورج زعتر” وهو ضابط من الجيش اللبناني قد ربى كلبا من سلالة Berger Allmand  وكان يومها غائبا في زيارة خاصة وبقي الكلب بعهدة Chef Edward  وهو الأسم الذي كان يطلق على “أيلي حبيقة”، الذي كان يقيم وقتها في عين إبل، وقد كان أرسله الشيخ بشير مع مجموعته لابعاده عن بيروت كونه مطلوب من السوريين. وصدف أن سيارة مسرعة صدمت الكلب واعتبر ايلي بأنه مسؤول تجاه جورج ويجب عليه معالجة الكلب. ولما رايناه مغتما وحزينا خائفا أن يموت الكلب، اشرنا إليه بأن يطلب من “جميل” أن يفحص الكلب، فربما يمكنه مساعدته. فأرسلنا من أحضر جميل، وكان صاحب نكتة ولكنه كان يخشى التعاطي مع المسلحين فكيف بالشيف ادوار. ولذا فقد قام بفحص الكلب وايلي ينظر إليه ويراقب كل حركة منه. وكان جميل المعروف “بابو طوني” يتنقل بين أعضاء الكلب بدون أن يضغط أو يقاربه خوفا من أن يعضه. وهو كلما نظر إليه من جهة وتفقد أطرافه يهز راسه ويبلع ريقه، بينما ايلي ينتظر الجواب. ومن ثم، وعندما أنهى عملية “الاستطلاع” تأفف وقال: “ولا يهمك مش مويت” فارتاح ايلي وتنفس الصعداء. ثم أردف أبو طوني: ” تخبرك هالخبرية كا عمي… نحنا كان عنا كلب صيد بالزمان اكل نفس الضربة… أبدا هيك… متل هيدا… بس هديك بعد مدة مات…” فنظر اليه ايلي نظرة غاضبة بدون أن يتكلم فاستدرك ابوطوني وقال: “بس هيدا متل ما قلتلك مش مويت يمكن جسمو أقوى… ما تخاف كعمي يومين تلاتي وبقوم”. وخرج ابو طوني قبل أن ينتظر جوابا من ايلي. وعندما خرج ابو طوني بدأ الضحك والتنكيت على وضع ايلي والكلب وكلمات ابو طوني.

وبعد يومين تحسّن وضع الكلب بالفعل وعادت له قابليته على الأكل. ومن ثم عاد إلى المشي شيئا فشيئا. ففرجت اسارير ايلي وأصبحت جملة ابو طوني عن الكلب الذي صدم ومات وردة فعل ايلي الذي كاد أن ينفجر إحدى النكات المتداولة.

وقد عرفنا بعدها بأن ابو طوني كان يعرف ما يفعل فهو نظر إلى الكلب المصاب من كافة الجهات وعرف بأن عظامه غير مكسورة، ولكنه تعرض للرضرضة، كما يقال عندنا، وبما أن جسمه قوي فقد يتمكن أن يشفى بدون معالجة. فهو سيحتاج لبضعة ايام لن يأكل فيها فيضعف ولكن بما أن “صحته منيحة” فهو قادر على تجاوز الحالة.

كان صيت ابو طوني بالتجبير مقبولا ولو أنه لم يصل إلى مركز حنا أسعد ومن ثم تجاوزته المستشفيات والعمليات الحديثة فلم تعطه الأيام القدر الكافي من الاحترام بسبب خبرته في التجبير والعمليات الناجحة التي قام بها.