د. وليد فارس: إيران ضربت التقدميين وبنت يسارا جديدا…”كيف يعقل أن يقوم تحالف بين النظام الخميني واليسار الليبرالي الاشتراكي في الغرب”؟

234

إيران ضربت التقدميين وبنت يسارا جديدا/”كيف يعقل أن يقوم تحالف بين النظام الخميني واليسار الليبرالي الاشتراكي في الغرب”؟
د. وليد فارس/انديبندت عربية/28 تموز/2020

يطرح مراقبون شرق أوسطيون وعرب أسئلة كثيرة حول موقف اليسار في الغرب عامةً وفي أميركا خاصةً من النظام الإيراني ويتساءلون حول دعم التقدميين الغربيين الحديثين لهذا النظام وعملهم الدؤوب لإنجاز الاتفاق النووي.
هذا التساؤل في محله إذ إن سياسيين كثراً ومراكز الدراسات والإعلام الأميركي وقفوا بشراسة مع المشروع الإيراني في المنطقة وللمفارقة ضد التقدميين التقليديين، كما دعموا الشراكة التي حاول الرئيس السابق باراك أوباما أن يبنيها عبر الاتفاق النووي مع إيران في مواجهة العرب.
والسؤال المطروح هنا، كيف يعقل أن يقوم تحالف بين النظام الخميني من ناحية واليسار الليبرالي الاشتراكي في الغرب من ناحية أخرى، بينما في بداية الثورة الإيرانية حصلت حرب ضروس بين اتباع الخميني ومجموعات اليسار في إيران والمنطقة.
لمحة تاريخية
البداية في عام 1979 عندما قام تحالف واسع داخل إيران لإسقاط حكم الشاه. هذا التحالف بقيادة “روح الله الخميني” الذي كان موجوداً في المنفى الفرنسي، جمع وللمرة الأولى في الشرق الأوسط قوىً سياسية متناقضة عقائدياً من أقصى اليسار مثل الحزبين الشيوعي والاشتراكي إلى اليمين الديني المتمثل برجال الدين في قم، وكل ما هو في الوسط من ليبراليين وديمقراطيين ومحافظين وعلمانيين ورجال أعمال أي العاملين في البازار وغيرهم. هذا التحالف الواسع كان شيئاً جديداً في الشرق الأوسط، إذ إنه وخلال الحرب الباردة لم تكن هناك جبهات تجمع اليمين مع اليسار أو المحافظين مع الاشتراكيين، ففي معظم دول الشرق الأوسط كان الانقسام على أساس الأيديولوجيات الاجتماعية والاقتصادية وعلى أساس التحالفات مع “حلف وارسو” أو “حلف شمال الأطلسي” (الناتو).
ائتلاف غير مألوف
هذه الجبهة العريضة التي ضمت الإسلاميين الخمينيين الشيعة مع الحزب الشيوعي المعروف باسم “توده”، واليساريين الإسلاميين “مجاهدي خلق”، أمّنت النجاح لمواجهة حكم الشاه المدعوم أميركياً. وتكمن المفارقة هنا في أن الإدارة الأميركية حينها إبان حكم الرئيس السابق جيمي كارتر، قررت دعم الانتفاضة ضد حليفها السابق، لأن تلك الجبهة جمعت الإسلاميين واليساريين.
إلا أن التحالف الإسلاموي-اليساري في إيران لم يدم طويلاً، إذ استعمل الخمينيون، اليساريين لكي يعطلوا تدخل السوفيات ويسقِطوا الشاه، واستخدموا الليبراليين لكي يقولوا للعالم الغربي إن هذا التحالف يضم علمانيين وتقدميين. غير أن سرعان ما نظم الملالي قواعدهم على النمط الإخواني في العالم السني، وأول ضحية لهم كانت أحزاب اليسار الإيراني فركزوا على تدمير حزب “توده” الشيوعي وقتل عشرات الآلاف من أعضائه، وبعد ذلك انقضّوا على حليفهم الأقرب منظمة “مجاهدي خلق” التي كانت فعلاً في مقدمة الانتفاضة ضد الشاه وهي مجموعة خطّت لنفسها عقيدة إسلامية-اشتراكية، ما ساعدها على كسب تعاطف الشباب والطلاب.
وعندما شعر الخمينيون أن القواعد الشبابية باتت تفضل “مجاهدي خلق” عليهم وجهوا لهم ضربةً قاصمة، أبادوا خلالها الآلاف من عناصرها، واعتُقل وهرب كثيرون منهم إلى العراق ودول الغرب.
نسخ النموذج الإيراني
النموذج الإيراني في التعاطي بين الخمينيين واليسار انتقل إلى لبنان حيث نشب الخلاف بين “حركة أمل” و”حزب الله” من ناحية، واليسار اللبناني داخل الطائفة الشيعية وفي بقية المناطق اللبنانية من ناحية أخرى، غير أن دعم الرئيس السوري السابق حافظ الأسد لـ”حزب الله” وحلفائه، حسم المعركة لصالح المعسكر المؤيد لإيران. وما جمّد الوضع بين المقاومتين اليسارية والخمينية في لبنان ضد إسرائيل هو قوة الاتحاد السوفياتي. ولكن الأمر تغير بعد سقوطه، فاستفرد “حزب الله” والسوريون باليسار وتمت تصفيته في كل المواقع السياسية والأمنية على الأرض. وأنجز “حزب الله” عملية إنهاء اليسار اللبناني المستقل خلال “ثورة الأرز”، بعدما اتهمه بالتحالف مع القوى الشعبية اللبنانية المعارِضة للاحتلال السوري. وباغتيال سمير قصير وجورج حاوي وغيرهم من رموز اليسار اللبناني، أنهى المحور الإيراني الوجود التاريخي لليسار التقليدي القديم في لبنان.
في اليمن وسوريا
سيناريوهات مشابهة حدثت في اليمن بعد الانتفاضة الحوثية واستهداف القوى اليسارية والإصلاحية في وسط وشمال البلاد أولاً، ثم تصادم الحوثيون مع المجلس الانتقالي الجنوبي الذي ورث المؤسسات السياسية التي كانت قائمة إبان حكم جمهورية اليمن الجنوبي، الماركسية وقتها.
أما في سوريا فتعاون النظام مع الإيرانيين في عملية إقصاء القوى الليبرالية السورية وتدجينها، لا سيما منذ اندلاع الثورة في عام 2011. وفي العراق، دارت مواجهة لسنوات في ظل الوجود الأميركي وبعد انسحاب معظم القوات حيث قامت الميليشيات المؤيدة لإيران بتضييق الخناق على القوى اليسارية والليبرالية. وظهر هذا الصراع جلياً خلال القمع الرهيب الذي شنته ميليشيات إيران ضد انتفاضة خريف 2019.
شبكات داعمة
وبينما كانت إيران وحلفاؤها يفككون اليسار التقليدي من شيعي إلى اشتراكي وليبرالي في طول المنطقة وعرضها، وهو يسار مناهض للنظام الخميني، كانت المفارقة أن طهران وجماعاتها بنوا شبكات توصف بـ “اليسارية” على أساس دعمها للمشروع الإيراني. والمفارقة الأكبر أنه ومع توقيع الاتفاق النووي، كثّف النظام الإيراني دعمه المالي والإعلامي والسياسي لهذا “اليسار الجديد”، الإيراني الاتجاه والانتماء. ولاحظ المراقبون في الغرب أنه ومنذ ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي بدأ اللوبي الإيراني في الولايات المتحدة والغرب يدعم الفئات اليسارية، لا سيما تلك التي كانت بحاجة إلى دعم بعد سقوط السوفيات. فجاءت إيران كي تحل كحليف دولي لليسار الضائع في الغرب، ولاحظ مراقبون أيضاً كيف أن النظام الإيراني دعم هذه الفئات اليسارية الغربية والأميركية، لا سيما مع تدخل واشنطن في العراق. فكانت القوى التقدمية الأميركية تعارض هذا التدخل وتضغط على إدارة الرئيس السابق جورج دبليو بوش وأسهمت في خلق جماعات ضغط عدة إضافة إلى تموضع إعلاميين وصحافة أميركية يسارية دعماً لإيران وحزب الله كمجلة “ماذر جونز” Mother Jones التي انضمت إلى اليسار الأوسع مع صحيفتي “نيويورك تايمز” و”واشنطن بوست”، إلى إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما لإنجاز الاتفاق النووي.
جسور إيرانية في الغرب
فبدا وكأن القيادة الإيرانية مدت جسوراً في عمق أميركا والغرب مع قوى يسارية جديدة. ويعتقد البعض أن هذا التعاون وصل إلى أعلى مستوى بعد توقيع الاتفاق النووي وحصول طهران على مليارات الدولارات. ولا يستبعد المحللون أن جزءاً من هذا التمويل استُخدم لتوسيع النفوذ داخل أميركا مع اليسار إما مباشرةً عبر لوبيات إيران وإما بأشكال غير مباشرة.
ويعتقد محللون أن التوصل إلى تحديد لاعبي التحالف الإيراني – اليساري في أميركا ينطلق من موقف هذه الفئات المسماة يسارية من الاتفاق النووي، فإذا كانت تدعمه وتقف مع إيران ضد الثورات التي تفجرت في العراق ولبنان فذلك يعني أن هذا اليسار ليس يساراً بالمعنى العقائدي بل مرتبط بشكل جيوسياسي بالنفوذ الإيراني.
أخيراً، فإن هذا المحور امتد من إيران إلى أنظمة يسارية جديدة كفنزويلا حيث التحالف الإيراني مع الثورة الاشتراكية بقيادة هوغو تشافيز سابقاً، وإدارة نيكولاس مادورو حالياً، امتداداً إلى البرازيل مع الرئيس السابق لولا دا سيلفا. ويؤكد ذلك أن إيران ومَن معها قد صفّوا اليسار القديم المتحالف مع الاتحاد السوفياتي وخلقوا يساراً خاصاً بهم يخدم سياساتهم ويسهم في حمايتهم من أي ضربة أميركية أو غربية.