د. وليد فارس/مواجهة الداخل الأميركي إلى أين؟ نهاية الأزمة معروفة فإما أن تكون بثمن مقبول أو أن تكون بثمن أعلى

110

مواجهة الداخل الأميركي إلى أين؟”نهاية الأزمة معروفة فإما أن تكون بثمن مقبول أو أن تكون بثمن أعلى”
د. وليد فارس/انديبندت عربية/30 حزيران/2020

يراقب العالم عامة، والعالم العربي بخاصة، التطورات الدراماتيكية التي تعصف بالولايات المتحدة، لا سيما بعد انتشار الفوضى والعنف في معظم مدنها وولاياتها منذ حادثة مقتل جورج فلويد بمدينة مينيابوليس.
كما يراقب المشاهدون في الخارج الحركات العنيفة كـ”أنتيفا” و”حياة السود مهمة” وهي تضرم النار بالمحال التجارية، وتدمر ثماثيل الشخصيات التاريخية، وتحتل بعض أقسام الشرطة كما حصل في مدينتَي سياتل ومينيابوليس وغيرهما.
ويتساءل الرأي العام العربي والدولي عن حالة التفكك هذه، في ظل عدم قدرة السلطات على كبح جماح الفوضى في الشارع حتى الآن. ويتساءل الرأي العام المراقب عن أسباب عدم اتحاد الأحزاب السياسية الأميركية في مواجهة هذه “الجائحة السياسية”.
ويعمّ القلق أجزاءً كبيرة من العالم، لا سيما تلك الدول التي تواجه مخاطر من قِبل أنظمة ومنظمات إرهابية معادية لأميركا، مثل كوريا الشمالية وإيران، والتنظيمات التكفيرية والمنظمات المتطرفة كالإخوان المسلمين. وتتساءل المجتمعات المدنية وحكوماتها التي تتكئ على دعم أميركي معنوي وميداني في مواجهة التطرف بمحاور عدة، عما إذا كانت هذه الأحداث التي تتوسع في الداخل الأميركي قد تؤثر في قدرة واشنطن على توفير المساعدة الاستراتيجية المطلوبة من قبل حلفائها وأصدقائها في العالم والشرق الأوسط.
في هذا المقال سنحاول شرح ما يجري فعلاً بالداخل الأميركي، من دون المرور عبر الإعلام الكاتم للحقائق، أو الصحافة غير العالِمة بالأسباب الحقيقية لهذه الأحداث.
البداية من الجذور
أولاً فلنبدأ من الجذور. مما لا شك فيه أن هنالك أزمات اجتماعية قديمة في داخل الجسم المدني الأميركي بدأت منذ عقود، وبعض المؤرخين يقولون إنها تفاقمت منذ نهاية القرن 19 وبداية القرن الـ20، واستمرت بأشكال متعددة بعد انتهاء الحرب الباردة، وهذه الأزمات حالياً لا تشبه جذورها التاريخية، إذ إن معارك المساواة بين المواطنين حُسمت أساساً بعد الحرب الأهلية الأميركية، وفي القرن العشرين نهاية الستينيات بعد انتصار حركة المساواة الاجتماعية التي قادها مارتن لوثر كينغ، وأدت إلى مساواة قانونية متطورة وصلت في ذروتها إلى انتخاب رئيس أميركي من جذور أفريقية.
البعد النفسي
غير أن ما تبقى هو الشعور النفسي لبعض الفئات في بعض المجتمعات المعروفة بالأقليات، لا سيما تلك الشرائح ذات الدخل المحدود، إذ إن معظمها أنتج طبقات وسطى توصلت عند السود واللاتينيين والأقليات الأخرى إلى دخول عالم الطبقات الوسطى العليا وحققت نجاحاً باهراً في الفن؛ أي هوليوود، والإدارات وصولاً إلى تبوّء المراكز بالقطاعات العامة والخاصة. إذاً أنجز التطور السياسي والاجتماعي نجاحات باهرة رأها العالم عبر شاشات التلفزة والسينما ولدى زيارة أميركا المتعدِدة والمستوعِبة لكل مواطنيها.
إلا أن المشاعر السائدة بين الأقل ثقافةً، سواءً أكان في أجزاء من شرائح الأقليات من جهة، وأجزاء من الشريحة الأوروبية المسماة بيضاء من جهة أخرى لا يمكن تغييرها بين ليلة وضحاها.
وهذا هو الحال في دول أخرى عدة، إذ نشهد وضعاً مماثلاً في كل الدول الغربية، مثل كندا وأوروبا وأستراليا. أما في العالم الثالث، فلم تعبر المجتمعات بعد الجسور الاجتماعية للوصول إلى مبدأ المساواة، والفوارق لا تزال شاسعة. في أميركا، وصل المجتمع إلى المساواة ولكن المشاعر السلبية لدى بعض الطبقات الفقيرة لا تزال حيّة، وسعت التيارات الراديكالية إلى ربطها بما يسمونه “عنصرية”، وهي محدودة جداً اجتماعياً، ولكن بإمكانها تفجير أزمات كبرى، وهذا ما حصل.
أيديولوجية بولشفية
ثانياً، إلى جانب هذا الشعور قامت ثقافة ضد الدولة أياً كانت، جمهوريةً أم ديمقراطية، وهذه الثقافة الأيديولوجية هي ماركسية بولشفية انتشرت في الجامعات والمدارس على أيدي كوادر تعليمية استمرت في نشر هذه الأفكار على مدى مئة عام منذ بداية القرن العشرين. هذه التيارات التي انحصرت أساساً داخل الجامعات، لا سيما في قطاعات العلوم السياسية والاجتماعية والفنون تجد جذورها بالتيارات التي أنتجت الثورات البولشفية والماوية والكاسترية في قارات عدة، وهذه الدوائر هي التي أنتجت أجيالاً من الحركات اليسارية الراديكالية، تُقابلها الحركات القومية في أقصى اليمين، غير أنها استمرت في انعزالها داخل الجسم التعليمي ولم تخرج منه إلا في هذه المرحلة الأخيرة.
العلاقة مع الشرطة
ثالثاً، نجد أيضاً أزمة العلاقات بين أجهزة الشرطة وعدد من المواطنين، لا سيما من الأقليات، وبنوع خاص في مناطق شعبية داخل المدن والضواحي. هذه العلاقات المتوترة تأتي جراء عدم التطور الاقتصادي لبعض هذه الحلقات من ناحية، وبسبب سوء الإدارة المحلية في بعض الولايات ومدن معينة كنيويورك وشيكاغو ولوس أنجلوس وسياتل من ناحية أخرى.
هذه العلاقات محلية وليست فيدرالية، وبالتالي المسؤول عنها هي السلطات المحلية وقد فشلت في بعض الأحيان، فالسلطة الفيدرالية تهتم بالوضع العام للشعب ككل، ولا تملك أذرعاً تشارك من خلالها في معالجة الأوضاع بالأزقة والشوارع، لتهتم بهذه العلاقات الاجتماعية والنفسية، فهذا النوع من العلاقات من اختصاص المسؤولين المحليين. وبالمناسبة فإن معظم المناطق التي تفجرت فيها الأزمة الأخيرة تقع في دوائر يمثلها سياسيون من الحزب الديمقراطي عامةً، ومن الجناح الأكثر راديكالية فيه تحديداً.
“أنتيفا” و”حياة السود مهمة”
لقد برزت قوتان راديكاليتان قادتا التحركات الأخيرة بشل منظم، وهما حركة “أنتيفا”، التي انطلقت أساساً من أوروبا في العقود الماضية، وبرزت منتصف التسعينيات في مدينة سياتل، وانتشرت فيما بعد إلى معظم الولايات. وتُعتبر “أنتيفا” حركة بولشفية-ماوية؛ أي أنها لا تؤمن بأنظمة الدولة، بل تعمل على تفكيكها وإقامة السلطات الشعبية الثورية بما يشابه كيانات السوفيات الأولى المنتشرة في روسيا القيصرية قبل ثورة لينين الكبرى عام 1917.
أما الحركة الثانية فهي “حياة السود مهمة”، وهي أيضاً ماركسية، إلا أنها حاولت أن تعبر عن حالات التقهقر الاجتماعي في الشريحة ذات الأصول الأفريقية. إلا أن ذلك لم يمنعها من التطور كحركة راديكالية تؤمن بصدام الهويات من ناحية، وتلتقي مع “أنتيفا” على هدف إسقاط المؤسسات الوطنية والمحلية.
ومن المفارقة أن الحزب الديمقراطي الذي كان يتمحور على يسار الوسط قد انتقل تحت حكم الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما إلى عمق اليسار، وارتبط مع حركتي “أنتيفا” و”حياة السود مهمة” على أساس أنهما شكلتا قوةً ضاربة في الشارع تُستعمل لمواجهة الحركة الشعبوية المؤيدة للرئيس الجمهوري دونالد ترمب. إذن البعض يعتبر أن القوى الراديكالية التي نراها في الشارع، ولو كانت عقائدية، إلا أنها تتحرك سياسياً ضمن أجندة المعارضة التي يهندسها أوباما وفريقه بهدف إسقاط ترمب إما في الشارع أو بالانتخابات.
قوة خارجية
أما خلف القوتين الراديكاليتين، فإن بعض المسؤولين في أميركا يعتبرون أن هنالك قوةً خارجية تدعم تحرك تهديمي كهذا، من أجل إضعاف الحكومة وإسقاط قدرتها على التحرك دولياً.
ويعتبر المحللون أن القوى الخمسة التي تؤيد تحركات كهذه وتدعمها إعلامياً وبشكل وجاهي، هي روسيا، والصين، وإيران، والحركات الماركسية في أميركا اللاتينية وتنظيم الإخوان المسلمين. وبمراجعة إعلام القوى الخمس يمكن الملاحظة وبوضوح أن هذه القوى المعادية تعتبر أن القوى الداخلية في البلاد بمثابة حليف موضوعي من أجل إضعاف، إن لم يكن إسقاط المؤسسات الأميركية، أو على الأقل هدر طاقاتها في الداخل كي لا تتمكن من مواجهة هذه القوى بالذات في الخارج.
خطة فوضوية
كيف ستتطور الأوضاع؟ خطة الراديكاليين والفوضويين تعتمد على المحاور التالية:
أ- الاستمرار في الهجوم على الرموز القديمة كعملية لتدمير تاريخ البلاد واستبداله برموز جديدة بما قد يؤثر في السياستين الداخلية والخارجية.
ب- إقامة مناطق حكم ذاتي كمنطقة “التشاز” في سياتل، على طريقة المناطق السوفياتية إبّان المرحلة البولشفية لتحويلها إلى قواعد ثورية دائمة.
ج- فكفكة الشرطة واستبدالها بقوات أمنية ثورية قد تتحول إلى ميليشيات.
د- محاولة زلزلة الانتخابات المقبلة في نوفمبر (تشرين الثاني).
إلا أن هناك ثلاثة عوامل معارضة للبلاشفة الجدد:
أولاً: الأكثرية الشعبية ضمن الأقليات ليست راديكالية، وهي تريد الوصول إلى مستوى الطبقة الوسطى، وهذا أمر لا “أنتيفا” ولا غيرها يمكنه توفيره.
ثانياً: إن الأكثرية الصامتة في أميركا تنتظر من الدولة حماية المواطنين من العنف، وهذه الأكثرية مسلحة ولا تخاف من الراديكاليين، بل تخاف على أميركا، وبالتالي قد تصل هذه التحركات إلى وقت قد تفجّر الأكثرية الصامتة مشاعرها باستعراض شعبي قد يخلق توازناً كبيراً بين التنظيمات العنيفة.
ثالثاً: أكثرية وسائل الإعلام الأميركي ضد ترمب، ولكن هناك وسائل التواصل الاجتماعي التي تتيح لعشرات ملايين المواطنين الاطلاع على المعلومات، بعكس ما كان الوضع سارياً في روسيا السوفياتية والقيصرية.
في الخلاصة، الوضع خطير وغير مريح، إلا أن نهاية الأزمة معروفة، فإما أن تكون بثمن مقبول، أو أن تكون بثمن أعلى، ولكن الشعب الأميركي لن يسمح بإسقاط وطنه بين أيدي الراديكاليين.