شارل الياس شرتوني/الأزمة المالية، من أين نبدأ والى ما تنتهي

83

الأزمة المالية، من أين نبدأ والى ما تنتهي
شارل الياس شرتوني/20 شباط/2020

ان المراجعة الأولية لتحليلات واقتراحات الخبراء الماليين والمؤسسات الدولية والدول المانحة، دارت وتدور حول الإصلاحات البنيوية لآليات الحوكمة المالية والاقتصادية كشرط مسبق لأية مساعدة مالية او تقنية، لانه من غير الممكن ان يستقيم أي مسار تصحيحي في هذه المجالات ان لم يترافق بإصلاحات مؤسسية جذرية تعيد للدولة استقلاليتها القانونية والفعلية عن مراكز النفوذ التي تحكم مفاصلها.

نحن اليوم أمام أزمة مالية واقتصادية بالغة الخطورة، ان لم نقل مميتة، نتجت عن تحويل مؤسسات الدولة الى متغير تابع لقوى الأمر الواقع لترفيد سياسات النفوذ القائمة والفساد المعمم، وتوسيع مرتكزات الاقتصاد الريعي، وشبكات الزبانية المتشعبة، والنهب المطبع للأموال العامة.

هذه الاستنتاجات سمعها اللبنانيون على مدى العقود الثلاثة الماضية من قبل مسؤولين كبار في البنك الدولي وخبراء محليين ودوليين وروؤساء دول تطوعت مرارا لمساعدة لبنان وخذلت بشكل سافر من قبل الاوليغارشيات الحاكمة.

بول ولفنسن المدير السابق للبنك الدولي قال للرئيس رفيق الحريري بشكل غير موارب ” لم يعد مرحب بكم في المؤسسات الدولية لانكم تخلفتم مرارا عن اجراء الإصلاحات المطلوبة منكم”، وهذا ما سمعوه مرارا من استشاريين قالوا بصراحة مبرحة ” لم يعد هنالك من نفع في طلب المداخلات الدولية، ما لم تعالجوا مسبقًا السرطان الذي يأكلكم الذي اسمه الفساد، فلا فائدة ترجى ان لم تحسموا الأمر فيما بينكم قبل طلب المعونة من الآخرين”، وبالتالي لا لزوم لأي عمل استشاري ” ان لم يكن هنالك تسليم بالحد المعقول من الإجماع حول محاور العمل الاصلاحي والالتزام بها ” كما قال احد كبار المصرفيين اللبنانيين العاملين في الخارج.

لا صندوق النقد الدولي ولا البنك الدولي، ولا البنك الأوروبي للإنماء وإعادة الأعمار، ولا الدول المانحة ولا المستثمرين، ولا ناديي باريس ولندن، ولا الخبراء اللبنانيون، سوف يبادروا الى أي عمل ما لم يكن هنالك سياسات شرطية ملزمة ونافذة، وهنا السؤال الكبير، هل المنظومة السلطوية بمكوناتها السياسية والمالية بصدد اجراء مراجعات جذرية تطال أداءها، الجواب دونه ظلال كثيرة من غير الممكن التحليق فوقها. أما التحديات المطروحة فتنعقد حول المحاور التالية:

أ- الحكومة الحاضرة ليست الا غطاءا هزيلا لسياسة إقليمية كبيرة تعود الى مصالح ايران الاستراتيجية، ودون مساءلة لصوابيتها وامكانيات تحققها وملاءمتها لأوضاعنا، هذا إذا ما افترضنا ان للاعتبارات اللبنانية المخصصة من موقع ضمن حساباتها.
هذا يعني بالتالي ان لبنان محكوم بمحدداتها، ومخاطرها، وهوامشها الضيقة والنزاعية الواسعة النطاق نظرا لسياساتها التوسعية على غير محور، ولعزلتها الدولية، وعداواتها المستحكمة مع دول الجوار السني على طول القوس الممتد من التخوم الأفغانية الى الحدود التركية وما بينهما من مساحات صراعية مفتوحة.
بكلام اخر، هذه الحكومة مثقلة بارتهانات ورهانات استراتيجية شديدة الخطورة غير أبهة لاوضاع بلد مفلس يعاني من انهيارات بنيوية كبيرة، ولا يمتلك التماسك المطلوب للتعاطي مع أزمات مالية مميتة، وبغياب مضادات وبدائل فعلية سببها ركاكة بنيته الاقتصادية واحوال عدم الاستقرار المديدة التي يعيشها منذ ستة عقود.
ان دعوة حسن نصرالله لدعم الحكومة والكف عن انتقادها فيها الكثير من المفارقات، لانه لا مجال لنجاح للحكومة في تثبيت الأوضاع المالية والاقتصادية بحدها الأدنى، ما لم تخرج البلاد من احكام سياسات النفوذ المتضاربة اقليميا وتحد من تردداتها الداخلية والدولية، والا فنحن في دائرة الإنكار، والتمنيات الواهمة والبلف المبرح. قاعدة السياسات الانقاذية الأولى هي تثبيت الاستقرار السياسي، وتحييد البلاد عن النزاعات الاقليمية، والخروج عن واقع العزلة الإقليمية والدولية التي تفرضها حالة الحجر الإيرانية وإملاءاتها العلنية والمضمرة، ووهامات حزب الله وما تودي اليه من انقطاع نفسي وعملي عن أي شأن يخرج عن دائرة مصالحه وارتباطاته الأيديولوجية والاستراتيجية .
هذا الاستقراء يودينا الى حدود لعبة التوفيق بين اعتبارات متناقضة، والتساؤل حول نواياه الحقيقية لجهة اخراج البلاد فعليًا من مآزقها القاتلة. ان سياسة التفرد والقضم والفساد التي حفزها في العقد الماضي والتي انتهت الى واقع الإطباق الحالي على مفاصل السلطة في البلاد لن تترك هامشا لتسويات سياسية وتدبيرية فعلية.

ب- لقد تبلورت آفاق أزمة السيولة والملاءة المالية وأظهرت واقع افلاس مالي فعلي من خلال السياسة الاستنسابية التي اعتمدتها المصارف في مجال المداولات المالية، من احتجاز أموال المودعين الصغار، والتسرب الإرادي لأموال المودعين الكبار، وما نتج عنهما من مفاعيل تضخمية عبر ازدواجية سعر الصرف، وتحفيز عمليات النهب والاداء الجشع من خلال قطاع الصيرفة الذي تابع سياسة شفط الأموال التي ابتدأت مع سياسة الفوائد المرتفعة واستكملت مع التلاعب بسعر الصرف ومعدلاته المتذبذبة، ولجهة فلتان أسعار المواد الاستهلاكية، في ظل استنكاف إرادي لحكومة تصريف الأعمال عن دورها الناظم على مستوى إدارة الودائع، وضبط سعر الصرف، ولجم الجشع في مختلف المضامير التجارية والمهنية، وارساء قاعدة تشاور مع الخبراء الماليين، الذين اكتشفنا عددهم الكبير وكفاءاتهم المتوازية، وقطاعات المجتمع المدني، من اجل تخريج الحلول الملائمة، واعلام المواطنين الموضوعي بحقيقة الأمور، وتدبير شؤون المراحل الانتقالية خارجا عن احوال الهلع السائدة، ووضع مشروع اعادة رسملة المصارف موضع التنفيذ من خلال سياسات الدمج والاستعادة التوافقية للأموال المهربة والمسحوبة، وتحمل تداعيات مسؤولياتها في الأزمة المالية الحاضرة، وجلب الاستثمارات وما تشترطه من اعادة ثقة بالنظام المصرفي. ناهيك عن ان الحكومة الحاضرة تلتزم جانبا من التحفظ الذي ينم ليس فقط عن الحكمة والتأني التي تفرضها المرحلة، بل عن فقدان التماسك في الاداء نظرا للاختلاف في درجة أهلية أعضائها، وغياب أفق سياسي توافقي جامع في ظل هيمنة الثنائي الشيعي وتعدد ظلالاته الاقليمية.

اما أزمة المديونية العامة فتستلزم اعتماد سياسة التمنع التوافقي
(Conciliatory Default) التي تقتضي العزوف عن الدفع على أساس التفاوض والتحكيم من قبل الهيئات المهنية الدولية وصندوق النقد الدولي، من اجل إقرار اعادة جدولة الديون، وتعديل معدلات فوائدها، وتحديد مهلها، وعملة التسديد، وإلغائها الجزئي او الكلي على قاعدة إصلاحات هيكلية تعتمد قواعد تسوية واشنطن ( Washington Consensus ) لجهة تصفية مصادر العجز البنيوي للدولة على مستوى الفائض التوظيفي الذي اعتمدته سياسات المحسوبيات الشيعية والسنية وملحقاتها في الأوساط المسيحية في السنوات الأخيرة، وهدر وإساءة استعمال الاموال العامة ونهبها في مجمل الأعمال الإنشائية التي جرت في الثلاثين سنة الماضية، وسياسات الهندسة المالية الريعية التي اودت الى التوظيفات المضللة، وقضت على السياسات الاستثمارية في مجالات الاقتصاد الفعلي، الزراعي والصناعي والخدماتي، على خط تقاطع الاقتصاد المعلوماتي ذات القيمة المضافة العالية، والاقتصاد الأخضر ومختلف تطبيقاته، ومن خلال رؤية تداخلية ترأب تصدعات الاجتماع السياسي اللبناني الطوائفية والاجتماعية والمناطقية، وتغني تقسيم العمل المهني على قاعدة التواصل مع الجامعات ومراكز الأبحاث والحاضنات التكنولوجية. يضاف الى ذلك اعادة النظر بالنظام الضرائبي بأوجهه التوزيعية والتحفيزية والرادعة، وربط معدلات الفوائد بحركة السوق، واستعادة الاموال العامة المنهوبة من خلال أعمال التقصي والتدقيق المالي والمقاضاة أمام المحاكم الدولية والاميركية والأوروبية، ومن خلال تشكيل لجنة قضائية جزائية مؤلفة من قضاة جرى إثبات نزاهتهم وأهليتهم على الصعيد اللبناني، وبإشراف لجنة انتر-وزارية ومدنية تجمع كل الهيئات الأهلية المعنية بالتعاون مع منظمات مكافحة وتقصي الفساد محليا ودوليًا، والخوض بعمليات الإصلاح الإداري والقضائي، والتحضير للآليات التداخلية والتفاوضية التي تستوجبها الخصخصة فيما يعود الى مفاهيمها وتطبيقاتها وفاعليها، وإيجاد السلطات المهنية الناظمة وتعميمها على مختلف القطاعات، وانهاء هيمنه سياسات النفوذ على العمل المهني الرشيد، وتفعيل سياسات ايجاد فرص العمل ومعالجة الإشكاليات الناشئة عن البطالة المعممة والمرشحة الى التزايد الى ما يقارب الخمسين بالمئة من اليد العاملة، مع ما يرافقها من تمدد سريع للفقر والتفكك الاجتماعي وتنامي الاضطرابات المتنوعة، ومعالجة مسألة العمالة السورية من ضمن التسوية السياسية الكبرى العائدة للتهجير السوري في لبنان…،.

كل المحاور الإصلاحية التي توقفنا عندها تبقى كلاما ميتا ما لم تتبلور إرادة تسوية سياسية ميثاقية وإصلاحية تتلاقى عندها المفكرات السياسية المعتدلة، من اجل اخراج البلد من واقع الآفاق المسدودة والنزاعات المفتوحة الى مرحلة استقرار تدفع بعمليات الإصلاح البنيوي الشامل، وتخرج البلاد من سياسات السيطرة والسيطرة المضادة، وواقع الاوليغارشيات المقفلة وما نشأ عنها من سياسات تمييزية وفساد عميم اصاب التوازنات البنيوية والخيارات الديموقراطية التي انطلقت منها البلاد، سواء لجهة المواثيق الناظمة أم المبنى الدستوري الديموقراطي.

نحن اليوم إما أمام قفزة نوعية تخرجنا من ضائقتنا المميتة باتجاه تجديد العقود الاجتماعية على تعدد مواطنها، أم نحن سائرون على خط الانهيار الاستوائي لما تبقى من لبنان مع نهاية مئويته الأولى.