شارل الياس شرتوني: التباسات الحكومة العتيدة

56

التباسات الحكومة العتيدة
شارل الياس شرتوني/08 شباط/2020

لا زالت التشكيلة الحكومية في دائرة الالتباس ان لم نقل الغموض، لجهة الإعلانات والسياسات الواجب اطلاقها مع بدايات العمل الحكومي، وارساء مناخات الثقة فيما يعود لقدرتها على معالجة الملفات الشائكة في وقت قياسي تستحثه خطورة الأوضاع المالية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية.

لقد توازت حدة المشاكل مع عمق الأزمة السياسية التي ظهرت الشروخات العميقة التي تفصل اداء الاوليغارشيات الحاكمة عن هموم وأولويات وتطلعات المجتمع المدني الإصلاحية، وهامش المناورة الضيق الذي دفع به واقع الفساد المديد والبنيوي، والسياسات الاستنسابية الجرمية الطابع في معظم جوانبها، وتثبيت البلاد على خطوط النزاعات الإقليمية المفتوحة.

ان الخطوط العريضة للبيان الوزاري المزمع تنبىء عن ضعف المبادرة الحكومية تجاه سياسات النفوذ القائمة، وانطوائها ضمن الحدود التي ترسمها والإملاءات التي تفرضها على المسار الحكومي برمته.

هذا يعني بكلام اخر، على الحكومة ان تأتي برهانها فيما يخص حرية مبادرتها واستقلاليتها، وخوضها العمل على قاعدة أولويات جامعة تعبر عن التطلعات الإصلاحية التي دفعت بها الحراكات المدنية وقدرة ترجمتها عمليًا على المحاور التالية:

أ- مقاربة الأزمة المالية من منطلق استراتيجي بعيد المدى يوائم بين سياسات الهندسة المالية ومخططات النهوض بالاقتصاد على خط تقاطع مرتكزاته الصناعية والزراعية والخدمية والبيئية، وسياسات التدريب العلمي والمهني والمقاربات الخلاقة لتقسيم وإيجاد فرص العمل. ان احد ابرز مصادر الأزمة المالية والاقتصادية الحالية هي الوجهة الاقتصادية الريعية التي ارستها السياسات الاوليغارشية المتعاقبة وتردداتها التدميرية على كل المستويات، الأمر الذي اصاب صدقية سياسات المديونية العامة في منطلقها، أي تمويل سياسات الإعمار والإنماء على أسس تعيد موضعة لبنان على خريطة تقسيم العمل الدولي، وبناء التوازنات الاقتصادية والاجتماعية والايكولوجية من منطلق تداخلي يردم الشروخات المناطقية والطوائفية والاجتماعية. هذه الرؤية الاستراتيجية تفترض عملية كسح الغام مسبقة تستهدف الواقع المالي المميت لجهة:

01) معالجة الأزمات البنيوية للمالية العامة، والمديونية العامة (١٥٠/ ١٠٠ من الناتج المحلي الخالص)، وعجز الدولة المثقلة بشبكات زبائنية ووظائف ريعية وحيازات دمرت التوازنات المالية، وحالت دون الدور الانمائي للعمل الدولاتي، وبسياسات إعمار قائمة على مرتكزات خاطئة من ناحية الأولويات الانمائية، وانظمة التلزيم والتنفيذ والمراقبة، والحرص على التوازنات البنيوية ومفهوم الخير العام؛

02) فتح ملفات الفساد على تعدد مداخلها: تحديد مواطنه على مستوى القطاعات وتدرجات الحوكمة (دارات عامة مركزية وبلدية) والآليات الإجرائية والقضائية والرقابية، وثقافة العمل العام، ووضع خطة لاسترداد الأموال العامة المنهوبة عبر المقاضاة المحلية والدولية، ومصادرة الأموال بالتعاون مع المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية، والدول المعنية بالتوظيفات والاستثمارات المبيضة؛

03) المعالجة الملحة لازمة السيولة والملاءة من خلال الاسترداد التوافقي للأموال المهربة حديثا، واستعادة الدولة لدورها الناظم في الشؤون المالية لناحية سياسة ضمان وإدارة الودائع، واعادة الثقة بالنظام المصرفي، واستعادة الأموال المسحوبة من قبل المودعين والمستثمرين، وانهاء ازدواجية سعر صرف الدولار، وتثبيت سعر صرف الليرة من ضمن خطة نهوض اقتصادية شاملة تنعقد على خطوط تقاطع الاقتصاد الرقمي والأخضر وتطبيقاتها المتشعبة على كل مستويات العمل الانتاجي والخدمي والتخطيط والإدارة المدنية.

ان إسقاط ملف الفساد من تقسيم العمل الوزاري امر غير ملتبس في مدلولاته التي تشير الى عدم وجود نية جدية في الخوض في الحيثيات المتشعبة لهذا الملف، واعتماد السياسات الإصلاحية الواجبة ومقاضاة الاوليغارشيات برمتها؛

04)معالجة مسألة التعاطي مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والدول المانحة في ظل سياسة النفوذ الإيرانية وإملاءات حزب الله المحددة، وما يستتبعها من عقوبات ومقاطعات وعزلة دولية واقليمية.

ب- فتح الملف السياسي بأبوابه الجيوبوليتيكية والإصلاحية الداخلية ولجهة تنظيم الآليات الانتقالية لعملية الإصلاح السياسي في البلاد. ان الإعلانات الحكومية تبقي على الضبابية لجهة تحييد البلاد عن محاور الصراعات الإقليمية (ايران، السعودية، تركيا، الإرهاب الاسلاموي)، والتعاطي مع ترددات النزاعات الإقليمية المجاورة (سوريا، اسرائيل، السلطة الوطنية الفلسطينية والمحور الغزاوي) من منطلق دبلوماسية إدارة النزاعات وما تفترضه من منطلقات سيادية، وفصل بين المسارات ومسارح المواجهات، واحتواء للترددات على مختلف مستويات الحياة السياسية الداخلية. نحن أمام مسألة بنيوية ارست البلاد منذ نشأتها على نقاط تقاطع النزاعات الإقليمية، وثبتت أزمة الشرعية الوطنية على نقطة التقاء الثقافة السياسية الإسلامية (جدلية النزاع السيادي بين متخيل الأمة الإسلامية والدولة الوطنية) وسياسات النفوذ العربية والإسلامية

(كما تبلورها حاضرا النزاعات الإيرانية، السعودية والتركية…). لقد ظهرت الأزمة الحاضرة نهاية اللعبة السياسية القائمة منذ بدايات حكم الطائف التي ركزت الحياة السياسية في البلاد على قاعدة سياسات هيمنة سنية وشيعية متوالية ومركونة على خط سياسات النفوذ الاقليمية

(سوريا سابقا، خطوط الصراعات السنية – الشيعية على المستوى الإقليمي)، وتخريجاتها على مستوى قواعد الحياة السياسية الداخلية، لناحية حيثياتها وديناميكياتها وتحالفاتها الناظمة وروافع سياسات النفوذ الاوليغارشية التي أسستها. السؤال الذي يطرح اليوم على الحكومة والحراكات المدنية هو إمكانية إطلاق التداول بشأن ايجاد بدائل سياسية توافقية تؤدي الى انتخابات نيابية مبكرة ومجلس تأسيسي يضع الخيارات الناظمة للجمهورية الثالثة.

يقاس نجاح هذه الحكومة بقدرتها على العمل العلاجي السريع والضاغط في مواقيته وضوابطه المهنية والسياسية، وفي إطلاق الورشة الإصلاحية الكبرى بمختلف مكوناتها بالتواصل غير المشروط مع الحراكات المدنية، وارساء الحياة السياسية الداخلية على قواعد سيادية فعلية، والا نحن محكومون بالبقاء على خطوط نزاعية مفتوحة تتحرك على وقع مؤشرات عيادية مميتة.

المقلق في وضعنا الحاضر هو سقوط الاعتبارات السيادية لحساب صراعات إقليمية ودولية ملازمة لخيارات وسياسات واولويات الثنائي الشيعي الحاضنة للحكومة والناظمة لأدائها على تنوع محاوره.

ان مسألة الاستقلال في المبادرة وترتيب الأولويات التدبيرية أساسي في تنظيم انتقالنا من حالة انعدام الوزن الحاضرة الى مرحلة الاستقرار والإصلاح التراكمي، والا فنحن أمام مسار انحداري ذات أهداف انقلابية مبرحة، ومفتوح على واقع إقليمي متفجر وتداعياته الفوضوية المدمرة.