شارل الياس شرتوني/لقد عايشت الحياة السياسية في لبنان منذ زمن الانتداب، لكنني لم اعرف افسد من جمهورية الطائف

121

“لقد عايشت الحياة السياسية في لبنان منذ زمن الانتداب، لكنني لم اعرف افسد من جمهورية الطائف”

شارل الياس شرتوني/26 تشرين الأول/2019

حديث خاص مع المطران جورج خضر ١٩٩٧

العصيان المدني، سقوط جمهورية الطائف ومحاور التغيير
ان حالة العصيان المدني التي تعيشها البلاد هي تعبير صريح عن تهاوي شرعية حكم الطائف الادائية، وادانة غاضبة للاوليغارشيات التي سيطرت على البلاد على مدى ثلاثين سنة وأحكمت إقفالاتها على كل مستويات العامة، وعمدت الى تركيز سياسات قضم منهجية لكل الموارد العامة، ووضع اليد على سياسات اعادة الإعمار بالتكافل مع سياسات النفوذ الاقليمية على تبدل محاورها. المحرك الأساسي لهذا العصيان المبرح هو الرفض المبرح للفساد العميم الذي يطبع اداء الطبقة السياسية وقواعد لعبتها:

أ-نحن لسنا امام حركة معارضة عادية، نحن امام سقوط جمهورية الطائف بالمعادلات الاقليمية والدولية والداخلية التي أتت بها، والاوليغارشيات التي خرجتها وجعلتها نموذجًا للدولة القاضمة (Predatory State) لجهة استعمال الدولة كمصدر للإثراء الشخصي والعائلي، وبناء شبكات زبائنية، وريوع وحيازات فردية وطوائفية (سنية، شيعية، درزية وملحقاتها في الاوساط المسيحية) تحت إشراف الاوتوقراطية الحاكمة في سوريا، ومشاركة الاوساط المصرفية والمالية المحلية التي استملكت تدريجا من قبل أوساط الأعمال السعودية والخليجية والايرانية. جمهورية الطائف وضعت لبنان، منذ بدايتها، في حالة تبعية اوليغارشية انعقدت على خطوط تقاطع سياسات النفوذ الاقليمية والداخلية. لقد انبنت التبعية السورية في بداياتها على سياسة وضع اليد العسكرية للنظام السوري، واعادة صياغة الحياة السياسية والاقتصادية والخارجية على قاعدة الأولويات التي ارستها، وشبكة التحالفات التي كونتها في الداخل ( رفيق الحريري، نبيه بري، وليد جنبلاط ، حزب الله في مرحلة لاحقة، ومن اصطنعتهم في الاوساط المسيحية ، الياس الهراوي ، أميل لحود، ميشال سليمان…..).

ب- ان ثبات المعادلة الاوليغارشية عائد الى مراسيها الاقليمية وما أمنته لها من حصانات، وشراكات، وتثبيت لمعادلات النفوذ، وحرية مناورة وعدم مبالاة لاعتبارات الداخل وتوازناته. هذا النهج تثبت مع سقوط مرحلة النفوذ السوري (١٩٩٠-٢٠٠٥)، من خلال بروز المتغير الاستراتيجي الإيراني كناظم للعبة النفوذ في البلاد، ودخولها في متاهات النزاع السني-الشيعي الإقليمي، وانهيار النظام الإقليمي، وتكيف الاوليغارشيات السياسية-المالية مع تبدل موازين القوى حفاظا على مصالحها القائمة وتنويعًا لمصادرها. هذا الواقع يفسر ماهية التعاطي والمشاركة القائمة بين اركان النفوذ في الوسط الشيعي (نبيه بري -حزب الله) وأترابهم في أوساط الاوليغارشيات السنية والدرزية (سعد الحريري، نجيب ميقاتي، محمد الصفدي، وليد جنبلاط … ). موقع السياسيين في الوسط المسيحي هو موقع التبعية التي أسست لها سياسة وضع اليد السورية في المرحلة الاولى لحكم الطائف، والتحالفات التبعية التي تلت نهاية المرحلة السورية وانعقدت على خط النزاعات الشيعي-السني بمتغيراته الإيرانية والسعودية والتركية والقطرية (التيار الوطني -إيران، القوات اللبنانية/السعودية – قطر). لا مجال لإجراء قراءة تحليلية ونقدية لهذه المعادلات السياسية والمبادرة الى تبديلها دون أخذ المعادلات المتداخلة بعين الاعتبار .

ج-هذه ملاحظات أساسية من اجل وضع استراتيجية تغييرية نافذة وتلافي الشطحات في التصور والاداء، وعدم السقوط المتجدد في متاهات الحروب الاهلية الاقليمية المعممة. لقد تبرهن ان التداخل بين الداخل والخارج في ظل الثقافة السياسية الاسلامية وتخريجاتها الأيديولوجية المعاصرة، هو عائق معرفي واستراتيجي أساسي ادى الى اندثار الربيع العربي وانفجار النظام الإقليمي لحساب سياسات النفوذ الدولاتية السنية والشيعية والارهابية المتمثلة بالإسلاميين الجهاديين.

د-المتغير الفارق الذي يطبع حركة العصيان المدني الناشئة، هو المتغير العمري (Generational Variable) الذي تبلوره الحركات المعارضة الشابة على تنوع تعبيراتها القيمية والسياسية والادائية والفنية والمسلكية. ثمة قطيعة على مستوى المتخيل العمري والجيل السياسي الحاكم تقارب الغربة الكاملة بين قيم العولمة الليبرالية والديموقراطية، والنظام السلوكي القبلي المنبت والأفق والسلطوي والذكوري لجيل ات من قعر ثقافة سياسة واجتماعية سلطوية ومبنية على علاقات النفوذ المطبقة على تنوع مصادرها ( صدام الزمنيات الإجتماعية، Choc des temporalités sociales). ان اي تجاهل لهذه الاعتبارات سوف يؤدي الى إساءات فهم كبيرة واستنتاجات سياسية خاطئة تمعن في تعميق النزاعات القائمة والذهاب باتجاه سياسات القمع واستدعاء الفوضى وتعميمها. انا اشك بقدرة هذه الاوليغارشيات على فهم هذه المتغيرات، ورؤى وقيم هذا الجيلِ لانها أتية من افق انساني لا يقيم وزنًا لحقوق الانسان ودولة القانون، والقيم الاخلاقية ببعديها الخاص والعام. ان المواجهة مع هذه الاوليغارشيات الفاسدة والشريرة والعديمة المبدأ أساسية من اجل ايجاد ميزان قوى جديد مع كل ما يفترض ذلك من فطنة وحسن تدبير يقينا الانزلاقات الخطرة والمميتة.

ه- يتوزع اداء الفرقاء السياسيين بين محاولة الالتفاف من قبل مالكي المبادرة العسكرية والسياسية والمالية (الشيعة السياسية والزبائنية الممثلة بحزب الله وامل)، والاوليغارشيات السنية التي تستثمر المعادلات السياسية القائمة بالتكافل مع أقرانهم الشيعة من اجل ترفيد ريوعهم وحيازاتهم الشخصية والمذهبية، انتظارا لمعادلات سياسية انقلابية على المستوى الإقليمي. في حين يسعى محور عون-جعجع الى تمتين مواقعه داخل لعبة النفوذ القائمة، معللا نفسه بعودة متكافئة للمسيحيين داخل المعادلات القائمة. اما التيارات اليسارية التوتاليتارية التوجه فلا ترى في الحدث الناشئ سوى فرصة للدفع بالسياق الفوضوي والعنف العدمي مدغما بتعليبات إيديولوجية بائدة لا علاقة لها لا بواقع الاشكاليات الاصلاحية المطروحة او باي افق إصلاحي عملي. اما الطرح التغييري في الاوساط الشابة غير المنحازة لأي من الأحزاب فهو حتى الساعة رافض لأي تسوية مع الاوليغارشيات القائمة دونما تحديد للآليات الانتقالية والطروحات العملية لعملية التغيير الفعلي. أن تصليب المواجهة مع الاوليغارشيات اساسي من أجل استقامة موازين القوى اساسي لكنه يتطلب بالمقابل تصورا عمليا ينقل البلاد من حالة الاضراب المطلق الى حالة التفاوض العملي الشاق حول سبل التغيير الديموقراطي الحاسم دون الإطاحة بالسياق الدستوري والمؤسسي, والانخراط في سياق الفراغ والعنف العدمي المدمر. على الحركات ان تعي حدود الفراغ المديد وخطر الانزلاق باتجاه العنف في ظل الواقع الاقليمي المتفجر والافلاس المالي والاقتصادي في بلاد تعاني بشكل اساسي من انعدام الاستقرار وتردداته المدمرة. ان اي لجوء لحزب الله للعنف سوف يؤدي الى ديناميكية نزاعيه متفلته وغير قابلة للاحتواء تدخلنا في متاهات العنف الاقليمي ومحاوره المتأهبة للاستثمار.

و- أن اي عمل تسوية عملي يفترض وضع البلاد على سكة الاصلاح التراكمي الذي يتطلب استقالة فورية للحكومة وتشكيل حكومة خلاص وطني يتمحور عملها حول التحضير لانتخابات نيابية تؤسس لولادة الجمهورية الثالثة وفتح ملف نهب الاموال العامة بكل مندرجاته عبر تشكيل هيئة وطنية عليا تضع آليات الرصد والمقاضاة والاسترداد بالتكافل مع هيئات دولية مراقبة، وإعادة تفعيل العمل الاقتصادي على قاعدة إجماع حول أساسية الاستقرار السياسي من أجل استعادة ديناميكية الاستثمارات وايجاد فرص العمل. لا إصلاح خارجا عن مجلس نيابي تمثيلي يؤسس للجمهورية الثالثة على قاعدة اجماعات قيمية (سياسية واقتصادية واجتماعية وبيئية ) تخرجنا من دائرة السيطرة والسيطرة المضادة والاقفالات الاوليغارشية الى دائرة التداول الديموقراطي والعمل الاصلاحي. هذا لن يتم في ظل مشاريع الانقلاب والانقلاب المضادة،التي سوف تعود بنا الى الحروب الإقليمية والعنف العدمي المفتوح. لقد ان الاوان لاستخلاص املاءات هذه الحالة وامالها قبل فوات الاوان.