يوسف بزي/خطاب سلطة الفراغ وفساد اللغة

72

خطاب سلطة الفراغ وفساد اللغة
يوسف بزي/المدن/الجمعة25/10/2019

من الصدف المفيدة والمزعجة في آن معاً الاستماع إلى وزير قصر بعبدا، سليم جريصاتي، “صديق” النظام السوري ومحامي الدفاع عن المتهمين باغتيال رفيق الحريري، والمساهم الفذ في ما سمي “ملف الشهود الزور”، عدا إنجازاته الكثيرة المماثلة في وزارة العدل والجسم القضائي، والوارد اسمه في لائحة “سويس ليكس” التي تضم أصحاب الحسابات في سويسرا. في ساعة متقدمة من المساء، أي بعد مرور وقت مديد على بث كلمة الرئيس عون المسجلة والرديئة التصوير والمونتاج والميكساج والإخراج،

أدرك الوزير المفوه وكل طاقم الرئيس أن مفعول الشريط الرديء، ومضمون الخطاب المبعثر، وأداء الإلقاء الضعيف.. أتى معاكساً للتمنيات وللغاية منه. بل وأصاب بالضرر صورة الرئاسة. على هذا الإدراك المتأخر، راح الوزير جريصاتي عبر التلفزيون “يشرح” معنى الخطاب و”يفسر” تلك الجمل والعبارات، محاولاً إعطاء الخطاب قواماً واتساقاً وعمقاً ليس فيه.

لم ينتبه جريصاتي أن هذا التدارك لانتشال الخطاب من حفرة التعثر، برهن على نحو إضافي سوء التدبير والإرباك والتخبط في صياغة الكلمة المتلفزة، وعزز الشكوك في حال الرئيس، كما في كفاءة طاقم القصر في آن واحد. المهم أن الحدث النهاري، خطاب الرئيس، أعادنا إلى سجال السلطة أو الفراغ. لكن من منظور آخر مفاجئ تماماً: انتفاء التناقض.

فالرئيس لم يفعل سوى تلاوة ورقة كانت الكلمات تسقط منها وتتبدد من فور لفظها. كلمات منتهك معناها الأصلي إلى حد إفراغها وتجويفها. هذه عوارض لا نراها إلا عندما تتحول السلطة إلى فراغ. والحق أن سلطة الفراغ لم تبدأ أو تتكشف في مأسوية خطاب يوم الخميس. بل هي مبتدئة منذ العام 2008، حين تم الفصل التام بين “الدولة” و”السلطة” الفعلية.

فالأخيرة باتت بحوزة جسم سياسي – عسكري غير منتخب وغير مسؤول أمام الناخبين وغير خاضع لا للمساءلة ولا المحاسبة. هو جسم فوق الدولة وهو كل السلطة.

على هذا النحو بات النظام معطلاً. أهل الدولة فارغو السلطة، خلو منها. وهم قبلوا إما رضوخاً أو انتهازاً بهذا “التفاهم” ومن ثم “التسوية”، أي تسليم السلطة لسيدهم وسيد 8 آذار (شكراً سوريا ورستم غزالي) وسيد 7 أيار 2008 وسيد القمصان السود وسيد المذبحة السورية وسيد حرب 2006 التي كانت خسائرها 12 مليار دولار “فداء لصرمايته”.

الصفقة (التفاهم والتسوية) التي عقدها “السيد” مع الذين ارتضوا تمثيل سلطة الفراغ، قائمة على امتلاك حزب الله السلطة الحقة مقابل إطلاق يدهم في المغانم والحصص التي توفرها موارد الدولة.

لا شيء أفصح دلالة على ذلك من مقولة رئيس وزراء لبنان أن “السياسة وجع رأس والمهم هو الاهتمام بالاقتصاد”. قالها تماماً بعد ترتيب الشراكة في جلسات باريس الشهيرة بين باسيل والحريري. قدم حزب الله “الفساد” كرشوة لرجال الفراغ، فقدموا له السياسة والسلطة والحكم والمصير.

الازدراء الذي ينظر عبره قادة حزب الله إلى “السياسيين” اللبنانيين (حلفاء وخصوماً) نابع أولاً وأصلاً من معرفتهم الراسخة بضعفهم إزاء مكاسب الفساد. ولم يتعامل يوماً معهم إلا وفق هذه المعرفة. كلام “السيد” الأخير متوعداً من ينوي الهروب أو الاستقالة أو التمرد.. بالمحاكمات والمحاسبة والسجن. هو تنبيه شديد اللهجة لمن يريد التنصل من الصفقة.

لكن، المعضلة الآن أن بنداً أساسياً من الصفقة أصبح مستعصياً. لقد تنكب رجال الدولة مهمة ترويض جماعاتهم والسيطرة عليها وفق نظام الزبائنية والمحسوبية والتوظيف والتكسب، بما يؤمن “الاستقرار” والسيطرة لحزب الله وراحة البال. ما حدث الآن عكس ما يشتهي صاحب مقولة “السياسة وجع رأس” وعكس ما يشتهي وزير “استعادة حقوق المسيحيين” وعكس ما يريد حزب الله.

فوجع الرأس بات اقتصاداً، وحقوق المسيحيين باتت وهماً ومناصب خاوية.. لسببين بسيطين وكاملي الوضوح: الأول، تعطيل النظام، فصل الدولة عن السلطة. الثاني، استحالة مواءمة الاقتصاد المفتوح مع “المقاومة”. بهذا المعنى، فشلت الصفقة أو انتهت فعاليتها.

الانتفاضة هي ضد هذا الإفلاس. لكن الأهم، وهذا ما سيتوضح قريباً، هي انتفاضة من أجل استعادة السلطة ضد الفراغ.