أحمد عبد العزيز الجارالله/لبنان المنتفض: كلُّنْ يعني كلُّنْ… نصر الله واحد منُّنْ

80

لبنان المنتفض: “كلُّنْ يعني كلُّنْ… نصر الله واحد منُّنْ”
أحمد عبد العزيز الجارالله/السياسة/19 تشرين الأول/2019

لم يسبق للبنان أن شهد ثورة غضب عابرة للطوائف والأحزاب بالحجم الذي بلغته الاحتجاجات المستمرة منذ الخميس الماضي في بيروت والمناطق كافة، رفضاً لسياسات الإفقار والتجويع التي مارستها وتمارسها السلطة الحاكمة منذ عقود، وفيها أثبتت كل القوى السياسية فشلها في ملاقاة الشارع، وراحت تبحث عن مخارج لأزمتها، إما في ركوب الموجة، وإما عبر القمع بالرصاص الحي، كما حصل في أكثر من منطقة، آخرها الظهور المسلح لمناصري رئيس مجلس النواب، رئيس حركة “أمل” في مدينة صور الجنوبية وإطلاقهم الرصاص على المتظاهرين السلميين، وإما محاولة مناصري بعض الأحزاب المتضررة من بركان الغضب تحويل الاحتجاجات أعمال شغب، استدراجاً لمواجهة بين القوى الأمنية والشعب.
على مدى الأيام الثلاثة الماضية صوَّر بعض السياسيين اللبنانيين الانتفاضة أنها بداية خراب البلد، في مكابرة منهم لعدم الاعتراف بالحقيقة أن النقمة الشعبية كبيرة جداً، وحتى التلويح بالحرب الأهلية الذي هدَّد به نصرالله، أمس، في خطابه كان الرد الشعبي عليه، هتاف المتظاهرين فور انتهاء خطابه “كلُّنْ يعني كلُّنْ… ونصر الله واحد منُّنْ”، ما يعني أن حواجز الخوف انكسرت، ولم تعد هناك أي هيبة لأي مرجعية، سياسية ودينية، يمكن أن تتلطى خلف شعارات شعبوية كي تحمي نفسها، أو تجهض الانتفاضة.
الغضب الشعبي المتنقل من أقصى الشمال إلى الجبل وبيروت والبقاع وصولا إلى الجنوب، لم يفرق بين زعيم وآخر، بل حتى الذين حاولوا ركوب الموجة سياسيا باستثمارها لمصلحة أحزابهم أصيبوا بخيبة أمل عندما قوبل ذلك بردود فعل غاضبة.
ماذا يعني كل ذلك؟
لبنان هذا البلد الصغير الذي كان منارة للشرق، ومحطة دولية وعربية في كل شيء، حوله تقاسم الميليشيات الحكم، بعد حرب أهلية استمرت 17 عاما، بلدا موبوءا جذَّرت فيه تلك القوى غول الطائفية والمذهبية للتهويل على الشعب، ولسخرية الزمن فإن الذين أوصلوا لبنان إلى شفير الانهيار هم من يحاضرون اليوم بالعفة البعيدة كل البعد عنهم، كما فعل نصرالله أمس حين هدد بتغيير المعادلات، رافضاً أن تستقيل الحكومة ومخيراً اللبنانيين بين الحرب الأهلية أو استمرار النظام السياسي، والطاقم الحاكم نفسه، لإبقاء لبنان في زنزانة العقوبات الدولية التي استدرجها عهد عون وحليفه “حزب الله” تنفيذا لتوجيهات نظام طهران، لكن يبدو أن اللبنانيين لم يعد التهويل يرهبهم، لأنهم أعلنوا خيارهم الأوحد الواضح وهو رحيل النظام السياسي برمته، وبكل أدواته من دون استثناء.
نعم، نصرالله لا يختلف عن الأفرقاء الآخرين، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، المستفيدين من هذه المحاصصة التي أفقرت بلدا كان يمكن أن يستفيد من تجربة الحرب في التحول وطنا حاضنا لشعبه، وليس طاردا لنصف أبنائه إلى الخارج، باحثين عن أوطان بديلة.
كان يمكن للبنان أن يعود سويسرا الشرق على المستويات كافة، وليس مقلب قمامة للدول ترمي فيه مشكلاتها كي تحرف الأنظار عن أزماتها الداخلية.
لم يخرج اللبنانيون إلى الشارع إلا بعدما فاض كيلهم، واختنقوا من حبل النهب الذي يضيق كل يوم على رقابهم، وهذا دليل على أن الزعماء الحاكمين لم يقرأوا تجارب الدول الأخرى جيدا، لأن المتسلط أعمى يتصرف برعونة في مواجهة الشعب الذي قال كلمته، وإذا كان قيل قديما” قل كلمتك وامش”، فمن الواضح ان اللبنانيين الذين لم يخرجوا من الشوارع طوال الأيام الماضية قالوا كلمتهم وسيبقون حيث هم إلى إن يمشي الذين أفقروهم من السلطة، وأن تتخلى القوى الميليشياوية عن مشاريعها المدمرة.
محاولات القمع بالحديد والنار التي حاولتها بعض الميليشيات أمس لم تنفع في ثني اللبنانيين عن الاستمرار في انتفاضتهم، فالذين أفقرتهم سياسات العهد الحالي ولم تقدم لهم سوى الرمضاء حين استجاروا بها، لم يعد يخشون التهديدات الميليشياوية وباتوا يواجهون رصاص الطغمة الحاكمة بالصدر العاري.
لا شك أنَّ ثمة متغيراً كبيراً حصل، أمس، عندما أعلن الجيش -القوة الوحيدة التي يجمع عليها اللبنانيون- انحيازه الكامل إلى مطالب الناس، وذلك له معناه العميق ما يفرض على كل القوى أن تقرأ جيداً الرسالة، وتحسم أمرها قبل أن يجرفها طوفان الغضب الشعبي، ويقلب الطاولة على “عهد إيران” وأدواته.