منير الربيع: لبنان يسلم لوصاية حزب الله الأعمق من الوصاية السورية/فؤاد خشيش: الضاحية الحائرة بين البطولات وتوقع الكارثة والهم المعيشي/نبيل الخوري: هل تجازف إيران بأكثر من رد يحفظ ماء الوجه؟

131

لبنان يسلم لوصاية حزب الله الأعمق من الوصاية السورية
منير الربيع/المدن/28 آب/2019

الضاحية الحائرة بين البطولات وتوقع الكارثة والهم المعيشي
فؤاد خشيش/المدن/28 آب/2019

هل تجازف إيران بأكثر من رد يحفظ ماء الوجه؟
نبيل الخوري/المدن/28 آب/2019
أنْ تبادر إسرائيل إلى تنفيذ اعتداء عسكري ولو محدود، على أرض لبنان مستهدفة حزب الله، فهذا يوحي بأنها مرتاحة على وضعها، ولديها حساباتها واستراتيجيتها، وتسعى إلى إرباك الحزب من خلال وضعه في موقع رد الفعل وربما في مأزق. وهي بفعلتها العدوانية هذه، وضعت قيادة الحزب (ومن خلفه إيران) أمام خيارين كلاهما مرّ.

مستوى المواجهة
فإما ألا يرد على استهداف إسرائيل للضاحية الجنوبية بطائرتين من دون طيار، “انتحاريتين” كما يقال، وهو ما سيشكل إهانة في نظر جمهوره والعالم. وسيتم تفسير ذلك باعتباره مؤشر ضعف، بينما ستحتفل إسرائيل ورئيس حكومتها، بنيامين نتنياهو، بهذه “الصفعة” التي سيوظفها الأخير بسهولة في الانتخابات التشريعية المرتقبة.

الخيار الثاني يتمثل في الرد، وهو خيار معلن ووشيك على الأرجح، كما يوحي أداء الحزب حتى الآن. لكنه خيار صعب. لأن إسرائيل هي التي اختارت توقيت المواجهة، إذا كانت ستحصل. وهذا التوقيت قد لا يكون مناسباً الآن، بالنسبة لكل من حزب الله وإيران. ولأن أحداً قد لا يستطيع أن يضمن طبيعة الرد الإسرائيلي على رد الحزب. وحتى لو لجأ الأخير إلى ما يسمى بالرد المتكافئ، أي الاكتفاء بإرسال طائرتين من دون طيار لتسقطا في إسرائيل، فهل ستقف المواجهة عند هذا الحد، أم أن الإسرائيليين سيردون (كعادتهم) بشكل غير متكافئ، ليدفعوا بالتالي إلى مواجهة متدنية أو متوسطة أو مرتفعة الحدة؟ وهنا تكثر التكهنات بشأن الأجوبة المحتملة في الأيام المقبلة، والتي ترتبط خصوصاً بالنوايا الإسرائيلية.

حسابات إيرانية
فإذا كان هدف إسرائيل من وراء اعتدائها في الضاحية الجنوبية ليل السبت ـ الأحد الماضي، يتمثل في استدراج حزب الله إلى حرب، فإنها ستستغل أي رد لإشعال الجبهة، وربما لتنفيذ تهديداتها بإلحاق دمار هائل بلبنان. ثمة فرضية في هذا الصدد، تفيد بأن انزعاج إسرائيل من المبادرة الفرنسية الهادفة لاستئناف الحوار الأميركي ـ الإيراني من أجل التوصل إلى اتفاق نووي جديد، قادها إلى تنفيذ اعتدائها الأخير، لدفع حزب الله إلى رد الفعل، وبالتالي إلى تصعيد عسكري من شأنه أن يساهم في قطع الطريق على المبادرة الفرنسية ونسفها أو تأخير ثمارها ربما. ثمة فرضية أخرى، تربط السلوك العدواني الإسرائيلي بالحسابات الانتخابية لنتنياهو الذي سيستغل الرد، على غرار عدم الرد، لتعزيز وضعيته في المنافسة الانتخابية.

لكن في حال كان هدف الاعتداء يتمثل في إيصال رسالة إلى إيران(كما يجري التداول في أوساط صحافية لبنانية) مفادها أن سياستها التوسعية في إقليم الشرق الأوسط، من اليمن مروراً بالعراق وسوريا، وصولاً إلى لبنان، ستكون وبإلحاح، ملفاً مطروحاً على نار حامية على طاولة المفاوضات مع الولايات المتحدة الأميركية والغربيين، فهذا سينتج تعاملاً مختلفاً مع الاعتداء الإسرائيلي في الضاحية الجنوبية. الرد سيكون أو لن يكون عندئذٍ، بحسابات إيرانية بحتة.

ترامب – روحاني والمبادرة الفرنسية
وبما أن الحديث يجري عن استعداد أميركي وإيراني متبادل لعقد لقاء بين الرئيسين دونالد ترامب وحسن روحاني في الأسابيع المقبلة، نتيجة الوساطة الفرنسية الناجحة حتى الآن، من المنطقي إذاً أن يكون خيار التصعيد العسكري الفعلي والكبير والخطير مستبعداً طوال هذه الفترة على الأقل في جنوب لبنان. بمعنى آخر، لا يمكن تجاهل التعامل الإيجابي من قبل القيادة الإيرانية مع المبادرة الفرنسية. وخير دليل على ذلك ذهاب وزير الخارجية الإيراني، جواد ظريف، إلى مدينة بياريتس الفرنسية حيث عقدت قمة “مجموعة الدول السبع”، واجتماعه بنظيره الفرنسي، جان إيف لودريان، ومسؤوليين أوروبيين آخرين. صحيح أنه من المبكر الحديث عن بوادر انفراج أميركي ـ إيراني، لكن يمكن القول إن المبادرة الفرنسية عززت من فرص عقلنة الخيارات الإيرانية، أو بالأحرى عزّزت وجهة نظر تيار إيراني معتدل بوجه تيار متشدد.

هذه الإيجابية الإيرانية قد لا تبدد خيار الرد. وهنا سيتمحور النقاش في الأوساط الدبلوماسية الدولية المستنفرة حالياً لاحتواء المشكلة، حول السؤال التالي: أي رد سيكون “مقبولاً” في نظر الأميركيين والغربيين؟ وإذا صدرت مؤشرات ضمنية في شأن “الرد المقبول”، أي ذلك الذي لن يؤدي إلى رد فعل إسرائيلية كبيرة وخطيرة (بضمانات أميركية؟)، ستصدر بالتالي أوامر الرد من غرفة عمليات حزب الله. وبما أن إيران تلقت رسالة في لبنان (تضاف إلى الرسائل الأخرى في سوريا والعراق…) يُراد منها أن تكون ورقة تفاوضية، فمن الممكن أن تتلقف هذه الرسالة الإسرائيلية والأميركية وأن تكتفي بالرد عليها بالمثل. أي أن تصادق على رد محدود جداً، بما يحفظ ماء وجه حزب الله، لكن بما يعبّر في المقابل عن تمسكها بمكاسبها الإقليمية، على طاولة المفاوضات، مع استعدادها فقط للتفاوض على “ضوابط” بشأن نفوذها وعمل حلفائها في لبنان وبقية دول الشرق الأوسط.

الضاحية الحائرة بين البطولات وتوقع الكارثة والهم المعيشي
فؤاد خشيش/المدن/28 آب/2019
في الضاحية التي لم يعد أحد من سكانها يسميها ضاحية بيروت الجنوبية، بعدما صارت مستقلة وقائمة متعالية برأسها أو بذاتها منذ زمن بعيد، يتكاثر الكلام عما حصل في حي معوض ليل السبت – الأحد الفائت: طائرة مسيّرة تحلق بين البنايات الشبحية المحجبة شرفاتها بخيم من البلاستيك، والخالية تقريباً من ساكنيها الذين يممّوا جنوباً وبقاعاً مساء الجمعة أو قبل ظهر السبت وبعده.

أين الشباب؟!
طائرة بين البنايات في قلعة حزب الله؟! لكن أين الشباب؟! تساءل كثيرون لاحقاً، بعدما قيل إن أحدهم – وهو ليس ممن تسميهم الضاحية بالشباب – بادر هكذا من غير دراية منه، وربما عن خوف، إلى رشق الطائرة الليلية بحجر، فهوت (يا للمصادفة). وهذا ما أخذ الناس يردّدونه ويزيدون عليه من مخيلاتهم المتنوعة، بعدما ذكره السيد حسن نصرالله عابراً مستخفاً بالطائرة في إطلالته مساء الأحد. ثم انفجرت طائرة أخرى في مركز حزب الله الإعلامي. ويقال أيضاً إن الشاب، مسقِط الطائرة الأولى، بحجر كان مع أصدقائه ينقلون أثاث بيته في تلك الساعة المتأخرة من الليل!
وعرضت إحدى القنوات التلفزيونية مقابلة مع الشاب الذي قيل إن الطائرة التي أسقطها كانت للمراقبة، ولم تحمل أي متفجرات بعكس “زميلتها” المتفجرة والانتحارية.
لا شك في أن عملية الاختراق في معقل حزب الله تثير الكثير من علامات الاستفهام حول التوقيت والمكان في أذهان كثيرين. حتى سكان حي معوض يتساءل بعضهم: لماذا هنا، وفي هذا الشارع، وفي هذه البناية، ولماذا الآن بالذات، وبعد هدنة طويلة منذ العام 2006 بعد انتهاء حرب تموز المشؤومة؟ وهذا على خلاف الصورة التلفزيونية والخطابية الملحمية والبطولية لتلك الحرب.

تشويش على عاشوراء
وعاشت ضاحية بيروت الجنوبية ساعات عصيبة كثرت فيها التكهنات والتحليلات والحكايات حول الحدث الذي يصعب التمييز والفصل بين قوته الإعلامية وقوته الواقعية. فشطر كبير من أهالي الضاحية يعيش على إيقاع تلفزيون المنار وخطابة السيد حسن نصرالله، اللذين يحولان الوقائع، الخفيّة أصلاً، إلى صور وحكايات بطولية.

وكل على طريقته، يتبارى عبر وسائل التواصل الاجتماعي مع خصمه السياسي اللدود (أمل وحزب الله)، علماً أن المبارزة من باب المناكفة. فالطرفان تجمعهما عداوة مشتركة لإسرائيل. و”أصحاب الخندق الواحد” تفرقهما التكهنات والحكايات عن كيفية حدوث ما حصل ودلالته ومعناه: البعض اعتبرالعملية مقدمة ومحاولة تشويش على المجلس الحسيني الذي سيقام في ذكرى عاشوراء قريباً، على اعتبار أن الخيمة العاشورائية التي ستُنصب في منطقة حي معوض، محسوبة على حركة أمل. وقد عبر البعض عبّر وسائل التواصل الاجتماعي عن هذا الأمر.

ذهول مزدوج
أما الإشادة بالصمود والبطولات فبلغت ذروتها في التعبير عن إسقاط المسيَرة الأولى و”القاء القبض” عليها بالجرم المشهود. ناهيك عن شريط الفيديو التلفزيوني الواسع التداول عن الشاب الذي تمكن من إسقاطها، وبدا كأنه هو نفسه غير مصدق ما فعله. وربما من الطبيعي أن يختلط في روعه ذهول مزدوج: ذهول في لحظة قذفه الطائرة بالحجر في ذلك الوقت الشبحي ما بعد منتصف الليل. والذهول الثاني الذي يساوره جراء السحر التلفزيوني البطولي الباهر الذي أُضفي على فعلته، حتى بدت عليه إمارات الفخر والتيه فيما هو يهدي “عمليته” الى أمين عام حزب الله والرئيس نبيه بري معاً، لكي لا يدب الشقاق بين صحبه من شبان الطرفين.

واختلفت الآراء حول ما حدث. هناك من رحب واعتبره انتصاراً على العدو الإسرائيلي، يضاف إلى رصيد سلسلة الانتصارات الإلهية. وهناك من تخوف وعادت به الذاكرة إلى حرب إسرائيلية كارثية غير متوقعة. ومنهم من لم يبال بالحادثة، واعتبر أن ما حصل مثير للشبهات، ومحض مصادفة.

مشاعر متضاربة
الدردشات في البيوت انقسمت حول الحادثة، على اعتبار أن كل بيت يحوي خليطاً من “الأفكار والآراء والتوجهات”، الأقرب إلى الاجتهاد في التوقعات. حتى في المقاهي المنتشرة في الضاحية تسمع آراء مختلفة: منها متلائمة مع أنصار قوى الأمر الواقع، ومنها تفارقها مع بعض الحدة.

وفي جولة سريعة على مجموعة من مثل هذه الآراء حول ما حصل، يشير صاحب مكتبة – بعد أزالته العرق عن جبينه – إلى أن ما حصل “لا أستسيغه”. وهو يعني أنه لا يعرف ماذا يقول حول كيفية وصول الطائرتين، على اعتبار أن “الضاحية ممسوكة أمنياً، والشباب موجودون ليل نهار” (في إشارة منه إلى عناصر حزب الله). وقال آخر – وهو زبون في المكتبة – إن ما حصل يعني “توجيه ضربة جديدة للكيان الصهيوني. والسيد يعرف كيف يرد ومتى يرد”.
لكن آخرين عبّروا عن مخاوفهم من نتيجة الرد الذي سيقوم به الحزب بالتأكيد، وقد يؤدي إلى حرب كارثية. أحدهم قال: إذا حصلت حرب لا نعرف ما العمل، وإلى أين نذهب. وهناك من أشار إلى حيازته جنسية أجنبية: “ما أن تبدأ الحرب، فإن سفارة بلدي الثاني تتكفل حمايتي وإجلائي وعائلتي، مثلما حصل في حرب تموز2006”.

البعض يعتبر أن حزب الله “مزنوق”، وجاءت العملية في غير وقتها، وعلى الحزب تلافي الانجرار إلى الرد، “لتظل المقاومة محتفظة بحرية المبادرة والمباغتة”. وقد يكون بديهياً أن تسمع التعبير عن مشاعر وهواجس متعارضة في جملة واحدة يقولها شخص واحد، في هذا الجو من اللغط وغياب المعلومات الواقعية والخوف الممزوج بالتعود على إضفاء البطولة الخارقة على المقاومة وانتصاراتها.

لنسيان الهموم المعيشية
في الفانات – وهي من أكثر “المنابر” تعبيراً وإفصاحاً، بسبب استعمال الهواتف وعدم إمكان كتم الأسرار – تسمع كلمات متقطعة تتناول الحادثة. أحدهم أطلق كلمات غاضبة: “هني شو فارقة معن؟! كل شي موجود عندهن. جربناهم وشفناهم شوع عملو”.
أثناء التنقل في الضاحية، وسماع النقاشات الصاخبة حول “المسيرتين”، لا بد أن تسمع أيضاً الكثير من الكلام عن الحالة الاقتصادية والوضع المعيشي الصعب والكهرباء وفواتير المولدات والاختلاسات والفساد…

ربما يحتاج أهالي الضاحية، مثل سواهم من اللبنانيين، إلى صدمات مثل صدمة المسيرتين وتهديدات السيد حسن نصرالله والردود الإسرائيلية التي تضع البلد المنهك على شفير الحرب، لكي ينسوا الهموم المعيشية اليومية ومشكلاتها المتراكمة والداهمة.

لبنان يسلم لوصاية حزب الله الأعمق من الوصاية السورية
منير الربيع/المدن/28 آب/2019
يوماً بعد يوم، تبرز بجلاء أحد أبرز أسباب قوة حزب الله في الداخل اللبناني: بهتان معارضيه وهزالهم، إن في مبادراتهم السياسية، أو في مادة بناء أفكارهم، أو في أسلوب تسويقها. وغالباً ما تكون الطروحات التي يتقدم بها خصوم الحزب، آتية من خارج الوقائع وغافلة عن أحوال الزمن. فتبدو حتى وإن كانت “صائبة”، مكررة وبالية.

هكذا كان حال تعاملهم مع حادثة الطائرتين المسيّرتين في الضاحية الجنوبية. خرج خصوم الحزب بلا أي موقف سياسي جديد، وبلا أي قراءة لأبعاد ما يحدث. فقط، كرروا مواقف سابقة لطالما اتخذوها، لا تقدم ولا تؤخر في المعادلة. خرجوا يطالبون بحصر السلاح بالقوى الشرعية الرسمية، وبحصر قرار الحرب والسلم بيد الدولة. ولأن هذا يدخل في باب التمني وحسب، ولا مقدرة على جعله أمراً مفروضاً، تتحول هذه الطروحات في هكذا ظروف إلى ما يشبه “الترف الفكري”. ولأن ما يجري يتعلق بعدو كإسرائيل، فإن خصوم الحزب يضعون أنفسهم في خانة تسمح باستهدافهم بسهولة.

بالطبع، استهدافهم ليس مقبولاً ولا مبرراً، لكن مناخات “التعبئة” (حتى على مستوى الخطاب الرسمي) تسمح بتخوينهم. فلبنان اليوم ابتعد كثيراً عن البداهة المنطقية التي تفترض حصر الإمرة العسكرية والسياسية في يد الدولة، نظراً لانقلاب موازين القوى منذ العام 2008 (اتفاق الدوحة).

التسليم الرسمي
بدا واضحاً موقف رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، وكل القوى السياسية.. بل والمراجع الدينية، الملتزم بما رفعه حزب الله، وجهةً وسياسةً وفعلاً وشعاراً. رئيس الجمهورية أبلغ الحريري أن هذا هو “السقف المطلوب” ولا يمكن التنازل عنه. ولذلك، كانت مواقف الحريري بعيدة المدى في الدفاع عن الحزب وما يقرره. وهذا ما أظهر تسليماً رسمياً لبنانياً وشعبياً بسيطرة حزب الله على الدولة وقراراتها، في تحديد الخيارات الكبرى والمصيرية، فيما كانت الحكومة تعقد جلسة للبحث عن حلّ لأزمة النفايات، واجتماعات أخرى للبحث في الأزمة الاقتصادية!

هذه الاجتماعات على أهميتها، تعني أن أركان السلطة تنازلوا عن القرارات الاستراتيجية، والأمن والحرب والعسكر إلى حزب الله. وأصلاً تم التعامل مع الأحداث بوصفها واقعة “أرض” حزب الله ومعقله (الضاحية). والدولة ترتضي فقط بـ”التنسيق” بين أجهزة الحزب وأجهزة الدولة اللبنانية، وبالحدود التي يرسمها الحزب لهكذا تنسيق.

من الواضح وفق مسار الأمور، والتي توّجتها لغة الردود على الاعتداء الإسرائيلي، أن الجميع أصبح مسلماً لسيطرة حزب الله على البلاد، على نحو أقوى وأفدح بكثير من الوصاية السورية، فتلك الوصاية كانت تلقى دوماً معارضين من مختلف الطوائف، وتبقى بنظر اللبنانيين والعالم قوة غير لبنانية. أما اليوم، فإن حزب الله جزء أساسي من النسيج اللبناني، فريق قوي يتمتع بنفوذ شعبي واسع، ولا يمكن إلغاؤه أو تحجيمه أو التمرد عليه، طالما أن مختلف القوى السياسية لا تجرؤ على معارضة الحزب فعلياً. فجلّ ما تريده هو البحث عن رضى الحزب أو كسب ودّه، لعلّ هذا الودّ يحفظ لها موقعاً أو مكسباً.

محو تناقض 2006
ما يؤكد ذلك هو انتظار كل الدولة اللبنانية ليقول حزب الله موقفه. الجميع كان بانتظار ما سيعلنه نصر الله. فقط، بعد سماعه بدأت الدولة بالعمل. وحتى التحقيقات أجراها وأعلنها حزب الله، على الرغم من العراضة التي قامت بها أجهزة الدولة الأمنية والقضائية في الضاحية.

وإذا كان لرجال الدولة والسلطة أي دور فهو يتبدى في الصراع حالياً بينهم حول من سيتولى دور الوسيط كممثل للدولة اللبنانية وحزب الله، أمام الخارج.

الأكيد أن لا أحد في الدولة قادر على تبني ما قاله الرئيس فؤاد السنيورة: “وضع الحدود والمسافة اللازمة ما بين موقف الدولة اللبنانية التي ينبغي أن تكون هي المسؤولة عن جميع أراضيها وحتى آخر سنتيمتر من الأراضي والمياه اللبنانية، وبينها وبين موقف حزب الله. ما يعني أن لا يكون في المحصلة تداخل بين ما يقوم به حزب الله وبين ما تقوم به الحكومة اللبنانية. ويصبح عندها مصير لبنان واللبنانيين ليس في يد الحكومة اللبنانية الشرعية، بل في يد من يتخذ القرارات الانفرادية في معزل عن إرادة اللبنانيين وإرادة حكومتهم الشرعية”

فالمشهد اليوم يختلف عن العام 2006، التي أصر حزب الله حينذاك على إظهار تناقض واحد لموقف الدولة عن موقفه، وكان يومياً يكيل الاتهامات لها. أما اليوم فإن حزب الله يشيد بالدولة وبقرارها، ويعتبر أنها تغطيه. هذا سيكون له تأثير جوهري في المستقبل، بما يوطد مكاسبه الاستراتيجية الكبيرة في السلطة والنفوذ، لا يمكن بعدها التفريط بها، تحت أي ظرف من الظروف. ولهذا السبب، هو لا يريد على الأرجح الذهاب إلى حرب واسعة أو شاملة، ويشدد على أنه قوة ردع وحسب، قوة لمنع الحرب. والرد المنتظر، “المحدود”، على الإسرائيلي يهدف إلى وقف الاستفزاز والعودة إلى قواعد الاشتباك التي كانت قائمة.

التسليم الدولي
يبقى الحزب عملانياً و”واقعياً”، وحريصاً على الانتظام الذي تم تكريسه. ولأنه بات “سلطة”، فهو قابل لتقديم تنازلات للخارج من أجل الحفاظ على هذه السلطة. ووفق هذا المنطق يجيد حزب الله كيفية إدارة شعار “الكرامة”، ومن دون إظهار نفسه أنه يقدم أي تنازل، لا بل ويجعل من “التنازلات” إنجازات وانتصارات، يترجمها في الداخل أيضاً، مزيداً من النفوذ والوصاية.

ما لا يقرأه اللبنانيون المعارضون لحزب الله، هو أن كل النزاع القائم لا صلة له بدعاويهم كحصر السلاح بإمرة الدولة و”الاستراتيجية الدفاعية”. الصراع يتجاوز لبنان إلى مسار إقليمي ودولي. بل وغاية “ردّ” حزب الله المتوقع لا علاقة لها بـ”السيادة”، بقدر ما تتعلق بالنزاع بين المحور الإيراني والمحور الأميركي الإسرائيلي. وفي مرحلة ما بعد الردّ والمفاوضات التي ستليها، ستشهد تقديم تنازلات متبادلة من الطرفين. وهنا، لن تكون الدولة اللبنانية قادرة على تقديم أي تنازل أو ضمانة، لأنها أضعف من ذلك ولا تمتلك أي ورقة. بينما الحزب هو الذي يمتلك الأوراق الفعلية. وأي اتفاق سيحصل، سيكون مقابل اعتراف دولي وإقليمي بـ”الستاتيكو” الذي أصبح قائماً في لبنان، فيقرّ ويعترف بسيطرة حزب الله عليه، مع حرية الحزب بتوزيع الأدوار (والحصص) بين مختلف القوى في السلطة.

لن يكون المجتمع الدولي معنياً بتعديل موازين القوى السياسية في الداخل، لأن ما يجري هو نتاج لخارطة إقليمية متكاملة. والإشارة المهمة في كلام نصر الله هي ما انطوت على ما يشبه إعلاناً غير مباشر بالانسحاب من سوريا، طالما أعلن أن الرد سيكون من لبنان وليس من سوريا، أو في لبنان، وليس في مزارع شبعا. وقد يُعتبر تنازلاً ضمنياً في المعايير الاستراتيجية، إذا كانت فحوى رسالة حزب الله أنه عاد إلى لبنان من سوريا، ولن يستخدم الأراضي السورية للرد على عملية تعرض لها هناك. الرد في لبنان، سيكون له الكثير من التداعيات السياسية تماشياً مع أجواء إقليمية ودولية، ستمنح الحزب وصاية أوسع من الوصاية السورية وباعتراف دولي.