سام منسى: إيران ومصيدة التصعيد/غسان شربل: إيران وصعوبة الرقص مع ترمب

70

إيران وصعوبة الرقص مع ترمب
غسان شربل/الشرق الأوسط/13 أيار/2019

إيران ومصيدة التصعيد
سام منسى/الشرق الأوسط/13 أيار/2019

إيران وصعوبة الرقص مع ترمب
غسان شربل/الشرق الأوسط/13 أيار/2019
على مدى أربعة عقود رقصت الثورة الإيرانية مع سبعة رؤساء تعاقبوا على مركز القرار في بلاد «الشيطان الأكبر». كانت الرحلة طويلة وشائكة وحافلة. شهدت تبادل ضربات وتخللتها هدنات ومفاوضات. مشهد الأميركيين رهائن في سفارة بلادهم في طهران. وتفجير السفارة الأميركية في بيروت. وركام مقر قيادة المارينز في العاصمة اللبنانية. وفضيحة إيران – الكونترا.
خلال هذه الفترة، تمكنت طهران من توظيف أحداث كبرى لصالحها. شكّل الغزو الإسرائيلي للبنان في 1982 فرصة لولادة «حزب الله». ووفّر إسقاط صدام حسين فرصة لتمكين الميليشيات التي ترعرعت في الحضن الإيراني وتوظيفها في خدمة إفشال الغزو الأميركي. وشكّل انسحاب القوات السورية من لبنان في أعقاب اغتيال الرئيس رفيق الحريري فرصة لتتحول إيران اللاعب الأول على المسرح اللبناني وحاجة للنظام السوري المنسحب منه. وقدم «الربيع» اليمني فرصة لإيران نفذت منها إلى رعاية انقلاب الحوثيين واستيلائهم على عاصمة اليمن وترسانة جيشه الصاروخية.
ويمكن القول إن إيران عثرت في عهد باراك أوباما على فرصة غير مسبوقة. أبرمت اتفاقاً «نووياً» مع الدول الست، وبينها أميركا، بعدما نجحت في إبقاء هجومها الإقليمي الواسع خارج دائرة النقاش والتفاوض. وبدا واضحاً أن سريان الاتفاق يتيح لها توظيف العائدات المالية الوافدة بموجبه في خدمة هجومها الذي أعلنت أنه سهّل إلحاق أربع عواصم عربية بالفلك الإيراني.
من الخطأ الاعتقاد أن إيران تستطيع أن تستكمل مع الرئيس دونالد ترمب الرقصة نفسها التي نفذتها مع أسلافه الستة. لقد غيّر ترمب لغة التخاطب داخل أميركا وخارجها. في الداخل لغة التخاطب مع الحزب الآخر ووسائل الإعلام. وفي الخارج لغة التخاطب مع دول معادية أو منافسة أو حليفة. لهذا يبدو تكرار المشاهد السابقة صعباً وقليل الاحتمال حتى لا نقول مستحيلاً. هل يمكن مثلاً تكرار أزمة الرهائن ولو على أرض أخرى؟ وهل يمكن قيام وكيل إيراني بتفجير سفارة أميركية في العالم والمخاطرة بترك بصماته هناك؟ هل يمكن مثلاً تكليف فصيل عراقي باستهداف قاعدة التنف الأميركية بصاروخ إيراني أو تكرار تفجير السفارة الأميركية في بيروت؟ من المستبعد أن نرى مجدداً هذا النوع من المشاهد، والسبب هو أسلوب ترمب وصعوبة التكهن بردود فعله والمدى الذي يمكن أن يذهب إليه.
منذ تولي ترمب الحكم فقدت إيران قدرتها على المبادرة في العلاقات الشائكة. انتقلت الإدارة الأميركية إلى الهجوم وكأنها تسعى إلى تصحيح ما ارتكب من أخطاء في العهد السابق. كان خروج ترمب من الاتفاق الذي وقعه أوباما حدثاً كبيراً خصوصاً بعدما تبيَّن أن إيران لا تستطيع النوم على وسادة الوعود الأوروبية. أرفق الرئيس الأميركي خروجه بعقوبات تصاعدية بلغت حد التطلع إلى تصفير صادرات النفط الإيرانية. وفي موازاة ذلك شنت واشنطن حملة دبلوماسية غير مسبوقة رمت إلى إقناع العالم أن المشكلة مع طهران لا تنحصر في طموحاتها النووية، بل تشمل أيضاً وبالقدر نفسه سلوكها المزعزع للاستقرار في المنطقة عبر برنامجها الصاروخي وتحركات الميليشيات الموالية لها. وصل الأمر حد اعتبار إيران «الدولة الأولى الراعية للإرهاب في العالم».
ولم يكن الهجوم الأميركي مجرد حملة إعلامية لتشويه الصورة. ألقت واشنطن ثقلها الاقتصادي في المعركة وصار على الدول أن تختار بين التعامل مع إيران والتعامل مع الولايات المتحدة. وأظهرت التجربة أن دولاً كثيرة وشركات كبرى اختارت الاحتفاظ بعلاقاتها مع الدولة صاحبة الاقتصاد الأول في العالم. وهكذا فرضت الإجراءات الأميركية على إيران قدراً من العزلة الدولية والإقليمية.
وسط توالي التقارير التي تفيد بأن الإجراءات الأميركية كانت موجعة هذه المرة جاء الحشد العسكري الأميركي ليدخل الأزمة في مرحلة أكثر حساسية. أعلنت واشنطن أنها حركت قوتها العسكرية استناداً إلى معلومات استخبارية أفادت بأن إيران كانت تستعد لاستهداف مصالح أميركية. اتسم التحرك الأميركي بقدر كبير من الحزم لمسه المسؤولون العراقيون لدى استقبالهم وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو. وجّه بومبيو رسائل صارمة بينها أن واشنطن سترد بحزم على أي استهداف لمصالحها على يد إيران أو وكلائها. قال أيضاً إن بلاده ستراقب عن قرب محاولات إيران الالتفاف على العقوبات، بما في ذلك بيع كميات من نفطها زاعمة أنه نفط عراقي.
في عرض القوة الذي نفذته حيال إيران أكدت إدارة ترمب أنها لا تسعى إلى الحرب. قالت أيضاً إنها لا ترمي إلى إسقاط النظام، بل إلى دفع طهران إلى تغيير سلوكها. أوضح ترمب أنه جاهز للجلوس إلى طاولة المفاوضات إن كانت إيران مستعدة وترك رقم هاتف البيت الأبيض في عهدة الجانب السويسري. وترعى السفارة السويسرية في طهران المصالح الأميركية في إيران منذ قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في 1979.
التوتر بين أميركا وإيران ليس جديداً. الجديد هو اعتراف المسؤولين الإيرانيين أنفسهم بأن العقوبات الأميركية موجعة فعلاً. لنترك جانباً التهديدات التي يطلقها مسؤولون إيرانيون والتي تعتبر أن القطع البحرية الأميركية ستكون لقمة سائغة للصواريخ الإيرانية في حال اندلاع نزاع. الجديد أيضاً هو أن ترمب لا يستطيع التراجع إذا ما أقدمت إيران على أي تحرش عسكري بقواته. خطوة من هذا النوع ستنال من صورته وحظوظه في ولاية ثانية ما لم يعقبها رد تأديبي صارم.
فقدت إيران مفاتيح المبادرة في الأزمة. العقوبات موجعة. وافتعال نزاع لخلط الأوراق يبدو خطراً. وانتظار انتهاء ولاية ترمب مكلف خصوصاً إذا واصلت أرقام الاقتصاد الأميركي تعزيز تطلعه إلى ولاية ثانية. لكن هل يمكن دائماً ضبط الأزمات الساخنة؟ وماذا لو حدث خطأ تسبب في التصعيد؟ وماذا لو تسلل طرف ثالث لإشعال الحريق؟ وماذا يحدث مثلاً لو استيقظنا ذات يوم لنجد أن المقاتلات الإسرائيلية قصفت المفاعلات النووية الإيرانية؟
يعيش الشرق الأوسط على وقع «أم الأزمات». لا غرابة أن تشعر إيران بصعوبة الرقص مع ترمب. الصين تشعر بصعوبة الرقص معه بعدما نجحت في الرقص مع أسلافه. الرئيس الصيني منزعج من مخاطبة بلاده بإملاءات عبر «تويتر». ومع ذلك تدرس بكين إبداء مزيد من المرونة لتفادي حرب تجارية قد تزرع الأشواك على طريق الحرير.

إيران ومصيدة التصعيد
سام منسى/الشرق الأوسط/13 أيار/2019
يبدو أن وتيرة قرع طبول التصعيد في المنطقة ارتفعت الأسبوع المنصرم، مع الكلام الأميركي حول تشديد إضافي للعقوبات ضد إيران، قابله تهديد طهران بالخروج من بعض بنود الاتفاق النووي. وتحدثت واشنطن أيضاً عن معلومات حول عمليات تخريبية ستنفذها إيران، أو من يدور في فلكها من ميليشيات وكيانات مسلحة خارجة عن الدولة ضد مصالح أميركية في أكثر من مكان. وهددت واشنطن بالرد على هكذا عمليات، حال حصولها، محركة البوارج والقاذفات وصواريخ «الباتريوت»، وموفدة وزير خارجيتها مايك بومبيو في زيارة مفاجئة إلى بغداد، على قاعدة «أعذر من أنذر».
وعلى الرغم من هذه الأجواء المشحونة، تبقى اللاءات الثلاث التي كانت موضوع المقالة السابقة السيناريو الأكثر رجحاناً؛ أقله في المديين القريب والمتوسط. فالهدف الرئيس لإدارة ترمب يبقى التوصل إلى صفقة شاملة ومستدامة مع إيران، تضمن عدم تمكنها من تطوير سلاح نووي، وتحد من برنامجها للصواريخ الباليستية، وتوقف تدخلها عبر وكلائها في شؤون دول منطقة الشرق الأوسط. ومع ذلك، يبدو أن أقصى درجات الضغوط السياسية والاقتصادية لم تفلح حتى الآن في جلب إيران إلى طاولة المفاوضات، ما يدعو إلى التفكير، أو أقله التساؤل، حول فعالية هذه السياسة، وإذا ما كانت قادرة حقاً على قطف النتائج المرجوة منها. نقطة الانطلاق هي في معرفة نوايا الولايات المتحدة تجاه إيران: هل تريد تغيير النظام، أو تسعى إلى تغيير ممارساته. في هذا السياق، وعلى الرغم من أن الجميع في واشنطن يتوجس من إيران، ولا يمانع في تشديد الخناق عليها، لا بد من الاعتراف بأن الإدارة الأميركية تواصل إرسال إشارات متناقضة إلى الإيرانيين. ففي حين يؤكد الرئيس الأميركي أن هدف بلاده هو دفع النظام الإيراني إلى تغيير تصرفاته، والكف عن التدخل في شؤون دول المنطقة ودعم الجماعات الخارجة عن الدولة، تحمل تصريحات رئيس مجلس الأمن القومي جورج بولتون، ووزير الخارجية بومبيو، مضامين آيديولوجية تؤشر إلى رغبة في زعزعة استقرار إيران بهدف تغيير النظام القائم. هل هذا التناقض هو من قبيل المناورة، أم أنه انعكاس لضبابية في الرؤية وضياع القرار؟
ما يبقى في صيغة المؤكد، هو أن واشنطن ترمي إلى إعادة ترسيم مناطق نفوذها على نحو يضعّف النفوذ الإيراني، وقد تكون تناور بين حدين: الأول هو دفع إيران إلى الكف عن تهديد المصالح الأميركية ومناوئتها، ومحاولة تغيير نهجها العدائي تجاهها، والثاني هو الدفع باتجاه التأزيم الداخلي في إيران، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، لإسقاط النظام، أو تدجينه. وهذا ما يفسر تعدد النبرات بين التهديد ودعوة إيران إلى طاولة المفاوضات، كما مسعى إدارة ترمب لتأليب الدول الأوروبية ضد إيران في حال نفذت تهديدها بإعادة التخصيب النووي.
حتى الآن يمكن القول إن استعراض القوة الأميركية هذا هو من قبيل الردع الاستباقي، وقد لا يخرج عن الخط المرسوم منذ فترة في البيت الأبيض؛ أي الامتناع عن التورط في مغامرات عسكرية، والاكتفاء بالتهويل باستعمال القوة ليس إلا.
من جانبهم، يقرأ صناع القرار في إيران هذه المواقف ويبنون عليها. فهم يدركون جيداً خشية واشنطن والأوروبيين، كما دول الإقليم الرئيسية، من الفوضى التي قد تنتج عن تفكك دولتهم، والنتائج الكارثية لذلك على دول الجوار ودول المنطقة، لعل أهمها انفلات حبل أذرع إيران في الخارج على غاربها. من جهة أخرى، يرى الكثير من المتابعين للشأن الإيراني أن نظام الملالي لن يستجيب للضغوطات، ولن يعود إلى طاولة المفاوضات دون خطوات تحفظ له ماء الوجه. لكن إيران اليوم ليست كما كانت عشية فرض العقوبات الأميركية بداية عليها عام 2006، فاستطاعت الصمود حتى نهاية 2013، لتجلس إلى طاولة المفاوضات حول ملفها النووي. فحال الارتباك الإيرانية الراهنة لا تخفى مع التدهور الاقتصادي الذي تشهده، والمرجح أن يتفاقم مع تشديد العقوبات، والتلويح حتى بفرضها على موارد أساسية كتجارة الفستق والسجاد، إضافة إلى قطاع المعادن والصلب. هذا الوضع السياسي والاقتصادي المأزوم يلقي بثقله على الرئيس روحاني، وهو لا يملك مفاتيح الحل، ولا يمسك بقرار الحرب، كما هو شائع ومعلوم.
تبقى مسارب كثيرة متاحة لتسوية صفقة، لأن إيران ستجد نفسها في النهاية بعزلة لأكثر من سبب. فبالنسبة إلى حلفائها الدوليين، تعي إيران تماماً أن روسيا ليست الصديق الذي يعول عليه، نظراً لمصالحها الصاعدة في العالم العربي، ولحاجتها إلى مقايضة مع إدارة ترمب في أكثر من موقع وملف. أما الصين، فهي محكومة بمصالح كبرى مع واشنطن غاية في التعقيد، بينما تواجه تركيا خيبة تلو أخرى في رمال سوريا المتحركة، لا سيما بعد عجزها عن الوفاء بتعهداتها لحماية حلفائها. كل ذلك وسط الانتفاضة التي يواجهها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، داخل حزبه الحاكم، ووسط احتمال اندلاع مقاومة شعبية تبدد أحلامه، واضطراره إلى تقديم تنازلات للأكرد بسبب ضغوطه لإعادة الانتخابات في إسطنبول. من جهة أخرى، يبقى مصير أذرع إيران في الخارج في مهب الريح، لجهة قدراتها وقدرة إيران على تحريكها، أولاً بسبب عجزها عن الاستمرار في تمويلها وفقاً للوتيرة السابقة، وثانياً لأن أميركا شملتها بمجموعة من العقوبات ستشل في نهاية المطاف حركتها. ولا ننسى في هذا الإطار موقف المجتمع الدولي المناوئ لإيران وممارساتها.
بالمختصر، وبعيداً عن التذاكي والتهديدات الفارغة، الموقف الإيراني منهك اقتصادياً، ومتراجع سياسياً، وصموده هش، والرياح لا تجري في صالحه.
لعل هذه المواجهة لا تزال محكومة حتى اللحظة بأن تبقى في خانة اللاحرب واللاسلم، على غرار النزاعات الأخرى في الإقليم، ويمكن حصرها في خانة المناكفة وعض الأصابع، علماً بأن الإدارة الأميركية قادرة، إذا رغبت، على اعتماد مقاربة دبلوماسية مختلفة لكسر هذه المراوحة، ولمواجهة وتطويق السلوك الإيراني، والتوصل إلى مقايضة كبرى. فوحدها واشنطن قادرة من جهة على إعطاء إيران التطمينات التي تريدها، لا سيما لجهة عدم التعرض لنظامها، مقابل عودتها دولة عادية تتخلى عن تهديد استقرار جيرانها، ومن جهة ثانية على تبديد قلق إسرائيل ودول الخليج من الأدوار الإيرانية المتمادية في المنطقة.
إذا صح أن واشنطن تسعى إلى تغيير سلوك إيران دون اللجوء إلى الوسائل الحربية، فالطريق الأقصر أن تعيد تقييم الاستراتيجية التي تعتمدها أولاً، واستعمال سياسة العصا والجزرة ثانياً، وإعادة الروح إلى علاقات واشنطن مع حلفائها الأوروبيين، وتطمين وتبديد مخاوف الحلفاء والأصدقاء في المنطقة ثالثاً. وحتى يتحقق ذلك، سنبقى ننام ونصحو على وقع قرع طبول الحرب.