إياد أبو شقرا: سقف التصعيد العسكري الأميركي ضد إيرن/حنا صالح: العربدة الإيرانية على المحك

111

العربدة الإيرانية على المحك
حنا صالح/الشرق الأوسط/11 أيار/2019

سقف التصعيد العسكري الأميركي ضد إيران
إياد أبو شقرا/صحيفة الشّرق الأوسط/12 أيار/2019

بناء القوة العسكرية الأميركية الضاربة في منطقة الخليج يفترض أن يؤخذ على محمل الجد. فالمتغيرات كبيرة سواء على مستوى الشرق الأوسط، أو في حسابات واشنطن خارجياً وداخلياً. ومَن يرصد الشأن الأميركي يدركْ قوة الترابط بين السياستين الخارجية والداخلية.
حتى إذا اعتبرنا العلاقات بين إسرائيل وأي إدارة أميركية شأناً خارجياً – أو هكذا يفترض أن يكون – فإن الواقع في موازنات شبكة المصالح والاعتبارات الانتخابية تجعل من دعم واشنطن لأي رئيس وزراء إسرائيلي مسألة تعلو حتى على الانقسام الحزبي داخل الولايات المتحدة. ولئن كانت بعض الإدارات الأميركية تماهت مع السياسات الإسرائيلية إلى حد التطابق التام، فالسبب مرتبط بشبكة المصالح والاعتبارات الانتخابية. وهكذا، يتلاشى الفارق بين الشأنين الخارجي والداخلي.
بدرجة أقل بكثير، طبعاً، كان الوضع في عهد الإدارة السابقة التي اختارت التخلي ليس عن حلفائها العرب فحسب، بل عن عدد من ثوابت واشنطن الاستراتيجية من أجل إعادة رسم تحالفاتها الإقليمية في الشرق الأوسط. وفي هذا السياق، انصبَّ الجهد على التقارب مع طهران، ومد يد التعاون إلى من اعتبرته إدارة باراك أوباما الجناح المعتدل داخل «الإسلام السياسي». واللافت أن العلاقة الحميمة بين واشنطن وتل أبيب لم تتعرّض لاهتزازات تذكر، بينما كان مفاوضو إدارة أوباما يضعون اللمسات الأخيرة مع نظرائهم الإيرانيين على «اتفاق نووي» تعمد رُعاته تجاهل ما كان يحدث على الأرض.
هنا، قد يقول قائل، إن التجاهل كان متعمداً للتمدد الإيراني في قلب الوطن العربي، و«سيطرة طهران على أربع عواصم عربية»، كما تباهى أحد قادة الحرس الثوري. ثم إن هذا التجاهل ما كان محصوراً بإدارة أوباما، التي لم تُخف حرصها على إسقاط الحواجز مع نظام طهران، بل شمل أيضاً القيادة الإسرائيلية، التي ربما رأت لها فائدة كبرى من تصعيد طهران وزرعه بذور فتنة مذهبية وعرقية على امتداد العالم العربي.
سياسات إدارة أوباما ومقارباتها «الباردة» أرسلت أيضاً رسائل تشجيع غير مباشرة لروسيا، التي سعت بمزيد من الثقة بالنفس إلى استعادة مناطق نفوذها السابقة إبان الحقبة السوفياتية. ومع أن الروس اعتبروا أنهم هُمِّشوا في ليبيا، فإنهم حققوا خطوات مهمة في كل من الفضاء السوفياتي السابق (تحديداً، القرم وأوكرانيا) والمشرق العربي، حيث تركت لهم واشنطن حرية التصرف في سوريا، بعد سقوط «خطوط أوباما الحمراء» لبشار الأسد.
حتى في الملف الإيراني، تمتعت موسكو بهامش مناورة كبير. وجاء نجاحها المشترك مع طهران في تحويل الانتفاضة الشعبية السورية إلى «حرب» مفتوحة، اختارت لها عنوان «مكافحة الإرهاب»، ليعزز موقعها التفاوضي والتقايضي مع واشنطن على امتداد الشرق الأوسط.
انتخاب دونالد ترمب رئيساً على أساس برنامج يتناقض كلياً مع برنامج خصومه الديمقراطيين الذي كان يؤشر، بالنسبة لكثرة من المراقبين، إلى تغير جذري في تعامل واشنطن مع الوضع في المشرق العربي. وبالفعل، قبل إثارة الشكوك عن وجود مصالح لموسكو في انتصار ترمب وتياره، وكذلك تيارات اليمين الأوروبي، تعزّزت القناعات بأن «شهر العسل» الأميركي – الإيراني اقترب من نهايته.
وحقاً، بمرور الوقت، ظهرت فوارق في مقاربات واشنطن وردات فعلها، بين الإدارتين السابقة والحالية إزاء تركيا وإسرائيل وإيران.
إزاء تركيا فتر إلى حد ما الدعم السابق القوي للأكراد في منطقة شرق الفرات، وهو ما يشكل مصدر ارتياح للقيادة التركية، مع أن مواقف الرئيس التركي رجب طيب إردوغان لم تسمح بفتح صفحة جديدة. وفيما يخصّ إسرائيل تعزّزت وتوثّقت العلاقات أكثر، وتوّجت بقراري واشنطن نقل سفارتها إلى القدس المحتلة وإعلانها هضبة الجولان السورية المحتلة «أرضاً إسرائيلية» بلا تردد.
أما في الموضوع الإيراني، فكانت هناك نقلة نوعية أميركية شملت عدة خطوات تصعيدية متتالية ضد نظام طهران، في مقدمها انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي، وتشديد العقوبات الأميركية المفروضة على إيران.
اليوم، تعيش منطقة الخليج عملية تحشيد وبناء عسكري جدّي أميركي يقرأها كثيرون على أنها رسالة تحذيرية صارمة إلى القيادة الإيرانية، تحثها على ضرورة خفض سقف طموحاتها الإقليمية. وفي هذا الاتجاه، جاءت عدة تصريحات لعدد من شخصيات إدارة ترمب، آخرها لجيمس جيفري المبعوث الأميركي لشؤون سوريا، لتؤكد أن واشنطن لا تريد حقاً أكثر من خفض سقف الطموح الإيراني، وأبرز الخطوات في هذا الاتجاه خروج القوات الإيرانية من سوريا.
جيفري قال في لقاء نشرته «الشرق الأوسط» قبل أيام عن موقف واشنطن من سوريا: «ليست لدينا سياسة لتغيير النظام بالنسبة إلى السيد الأسد. ما لدينا هو لغة القرار 2254 التي جاءت بقرار دولي وموافقة روسيا. تطلب تغييرات في الدستور وانتخابات برعاية الأمم المتحدة وتغييرات في الحكم. استعملت كلمة (الحكم) مرات عدة لأن (الحكم) الحالي غير مقبول ومجرم ووحشي. نريد التغيير، ومتمسكون بالتغيير. وسياستنا القائمة على الضغط لن تتغيّر إلى أن تتصرف دولة سوريا بطريقة مختلفة مع شعبها وجوارها…».
أما عن إيران، فقال: «ما نريده هو أن يعود حضور القوات الأجنبية إلى ما كان عليه قبل 2011 في نهاية العملية السياسية بموجب القرار 2254، ونحصل على حكومة سورية مختلفة بسلوكها عن الحالي. هذا هدفنا. طبعاً، القوات الإيرانية بين القوات التي يجب أن تنسحب. لكن القوات الإيرانية تهدد الدول المجاورة مثل إسرائيل…».
هنا، يمكننا قراءة التالي:
أولاً، لا خلاف أميركياً – روسياً إزاء ما تفعله القوات الروسية في سوريا.
ثانياً، ظهرت الرغبة واضحة بإبعاد إيران عن «سوريا الجديدة» بعد حسم أمر الجولان لصالح إسرائيل، والتفاهم الإقليمي والدولي الضمني على التقاسم الفعلي لسوريا، إن لم يكن على تقسيمها رسمياً.
ثالثاً، الرؤية متطابقة بين واشنطن وتل أبيب، حيال مستقبل الشرق الأوسط، ربما أكثر من أي وقت مضى.
رابعاً، لا ترى واشنطن مشكلة في بقاء نظام طهران إذا كان قابلاً للمساومة والتعايش بشروطها، إذ ما زال مغيباً لديها الربط بين حالات التمدد الإيراني وطبيعة ذلك النظام.

العربدة الإيرانية على المحك
حنا صالح/الشرق الأوسط/11 أيار/2019
في 8 مايو (أيار) 2019، مرت الذكرى الأولى للانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي مع إيران وعودة واشنطن إلى فرض عقوبات مشددة على طهران، وقبل أيام وُضِعَت في التطبيق المرحلة الثانية من العقوبات، وهي الأطول والأشد والأقسى، بإلغاء إعفاءات لثماني دول كانت أميركا قد سمحت لها مؤقتاً باستيراد النفط الإيراني. جاء القرار في سياق حملة أميركية هدفت إلى تصفير تصدير الخام الإيراني، ما يعني أنه من اليوم ستفقد الميزانية الإيرانية 40 في المائة، هي إيرادات متأتية من الصادرات النفطية. وبالتالي سيُحرم «الحرس الثوري»، الذي أُدرج على اللائحة الأميركية للمنظمات الإرهابية، من الجزء الأكبر من إمكاناته المالية، التي سمحت لهذه الجهات التبجح بأنهم يسيطرون على 4 عواصم عربية، مطلقين التهديدات بأن «الهلال الشيعي» سيتحول بدراً!!
ردّت طهران بتهديدات متتالية بإقفال مضيق هرمز، وأبلغت الأطراف الموقعة على الاتفاق النووي أنها ستُوقف بشكل «جزئي أو كلي لبعضٍ من التزاماتها في الاتفاق»، وفجأة وجّهت واشنطن «أرمادا» هجومية إلى المنطقة، بضوء معلومات استخبارية جدية أن طهران تُعدُّ لهجمات ضد القوات والمصالح الأميركية، وأُرفق التحرك الأميركي بمواقف حازمة من الوزير بومبيو، ومستشار الأمن القومي بولتون، فحواها أن أي استهداف مباشر أو من خلال وكلاء، فإن واشنطن ستحاسب طهران، لأنها ستعتبرها المسؤول المباشر. يتضح أن ضغط العقوبات جرى تعزيزه بالقوة الضاربة، والهدف إرغام حكام طهران على العودة إلى طاولة المفاوضات، وفق جدول أعمال أميركي، ينطلق من طي صفحة حُلم السلاح النووي، إلى تغيير إيران سلوكها في الإقليم، وصولاً إلى إرغامها على التراجع إلى داخل حدودها، لأنها وفق الرؤية الأميركية هي الجهة المسؤولة عن زعزعة استقرار المنطقة، ومسؤوليتها لا تناقش في توسل الأعمال الإرهابية كمعبر للهيمنة.
من الثابت أن البلدان التي استفادت سابقاً من الإعفاءات لمدة 6 أشهر سحبت شركاتها واستثماراتها من إيران، وعوّضت حاجتها النفطية من بلدان أخرى، ما يعني أن الضجيج الإيراني مجرد لغو، لأنه حتى عمليات شحن الخام متعذرة مع غياب التأمين على الناقلات البحرية. يبقى احتمال التهريب وارداً، إن عبر بحر قزوين، أو من خلال جهات عراقية، لكن المحاذير كثيرة، والسوق السوداء ليست الحل. هذا فضلاً عن أن العقوبات الأميركية أدت واقعياً إلى إخراج إيران من النظام المالي العالمي (التعامل بالدولار).
يضع الضغط الأميركي طهران أمام تحديات دقيقة، قد تفضي إلى خطأ غرور القوة العسكرية، والرهان عليها. هذا التحدي يضع النظام الإيراني في عين العاصفة، ما لا يريح الملالي، الذين دأبوا على خوض كل حروبهم بالوكالة بواسطة الآخرين، ممن حوّلتهم طهران إلى مشروعات جاليات إيرانية في بلدانهم، أو أولئك الذين تم استقدامهم من باكستان أو أفغانستان. وكل المواقف الحربية والتلميحات عن الاستعدادات، خصوصاً بعد تعيين اللواء سلامي قائداً لـ«الحرس الثوري»، وهو اشتهر بتكرار التهديدات بإقفال مضيق هرمز، تندرج في سياق الرسائل الخاوية التي تطلقها طهران، رغم أن الجهات الدولية تعرف جيداً حجم القوة الحقيقية لإيران، والكل يعرف أن طهران هددت سابقاً واشنطن من أنه إذا انسحبت من الاتفاق النووي فإنها ستمزقه وستعود لتخصيب اليورانيوم، وعندما دقت ساعة الحقيقة تجاهلت تهديداتها… واليوم تتحدث عن وقفٍ جزئي لبنودٍ من الاتفاق بوهم الحفاظ على بعض المصداقية.
كل هذه العربدة عن أن «الحرس الثوري» ينتظر اللحظة لإنزال الهزيمة بالشيطان الأكبر، الولايات المتحدة، لا تعدو كونها مجرد استعارات من الصحاف، وزير صدام حسين، مبتكر تعبير «العلوج»، لأنه لو ارتكبت طهران الخطأ، فإنها تكون استفزت الولايات المتحدة، والمكانة التي تحتلها، كما دول المنطقة، كالسعودية والإمارات، التي تمتلك الكثير من عناصر القوة للحفاظ على مصالحها. احتمال مثل هذا الخطأ هو الذي دفع واشنطن إلى خطوات استباقية كبيرة، لأن في الأمر تحدي استخدام القوة، للحفاظ على التجارة الدولية وخطوط الملاحة في مضيق هرمز، كما باب المندب، فهل ستطوي إيران رغباتها؟ وهي تعلم أن أي مستوى من المواجهة قد تندفع إليه طهران سيؤدي بها إلى مزيد من العزلة، وأن حدود مواقف الآخرين وتأييدهم لها من الصين إلى روسيا والاتحاد الأوروبي معروفة، وأنه ما من جهة ستذهب بعيداً معهم.
رغم بعض التباينات تهاوت النظريات عن وجود أجنحة في السلطات الإيرانية، بين روحاني الذي يؤيد مفاوضات غير مشروطة مع الأميركيين، وبين المرشد وقيادات «الحرس الثوري» التي ترى ذلاً في مفاوضات تحت الضغوط الأميركية، وقد اعتبر الجنرال سليماني التفاوض الآن «استسلاماً محضاً»، ولم يعد من بديل على المستوى الإيراني إلا «اللجوء إلى الاقتصاد المقاوم» كما يردد سليماني وظريف وغيرهما، وهذا عنوان يجري استخدامه هذه الأيام في لبنان، وهو جزء من بروباغندا الفشل، كان قد طرحه خامنئي في العام 2011. وبدأ وصفة استراتيجية قادت إيران إلى الاختناق الاقتصادي، ودفعت بعموم الإيرانيين إلى حافة الفقر، وأخرجت الملايين الغاضبة إلى الشوارع. لذا احتمال الرد بالوكالة يبقى أمراً وارداً، لأن حكام طهران لم يقيموا يوماً أي اعتبار لاستقرار المشرق العربي، وهم من يتحمل المسؤولية الكبرى عن هشاشة دوله وتفكك نسيجها، رغم أن أي بحث عاقل يفيد بأن مزيداً من التخريب في لبنان وسوريا والعراق ليس السبيل لتخفيف العقوبات، لا، بل المنطقة اليوم أشبه بـ«التايتانك» لن ينجو منها النفوذ الإيراني. بهذا السياق المقلق، يجب النظر إلى التهديدات الإسرائيلية بذريعة الترسانة الصاروخية التي يتباهى بها «حزب الله» وتحديد بنك أهداف في لبنان، وكذلك المواقف التي أعلنها نصر الله عن أن الفرق والألوية الإسرائيلية التي ستفكر بالدخول إلى جنوب لبنان «ستدمر وتحطم أمام شاشات التلفزة العالمية»، يعني أن لا شيء يبشر بالخير، وما يزيد من بشاعة الصورة أن أهل نظام المحاصصة الطائفي يتعامون عن المخاطر الداهمة، وكلهم دفنوا الرأس في الرمل، وكأن شيئاً لم يكن!