حنا صالح: لبنان: الانهيار ليس قدراً… بل قرار

56

لبنان: الانهيار ليس قدراً… بل قرار
حنا صالح/الشرق الأوسط/03 أيار/2019

كل ما يجري من ضجيج تحت عنوان الإصلاح وحتمية التقشف وخفض العجز من نحو 11.5 في المائة إلى أقل من 9 في المائة، يُخشى أن تكون فيه نوايا للتحالف الحاكم من طائفيين ورجال أعمال وأمن، بتحميل تكلفة الإصلاح للطرف الأضعف في المعادلة. لا يخفف من القلق الحديث الجريء لوزير المالية، الذي جاهر بأن الطبقة السياسية تتحمل المسؤولية عن المديونية المرتفعة، وعن تضخم الإنفاق والهدر المقونن في المالية العامة، كما أنها المسؤولة عن الفساد الذي ينخر الإدارة العامة. السبب أن القضايا المهمة التي تحدث عنها وزير المالية، ليست ابنة ساعتها، ولا يصح القول إنه وهو الممسك بزمام مالية الدولة منذ سنوات اكتشفها الآن.

توجّه وزير المالية إلى الجمهور لطمأنته مؤقتاً بأن معاشات الفئات المتوسطة والدنيا لن تُمس، وبدا أنه يرد على ما كانت اللجان النيابية تناقشه؛ وهو اقتراح حسم 15 في المائة من الرواتب، بعد الإعلان المريب عن أنه «على المواطنين التضحية، لأنه من دون ذلك؛ فلا رواتب»، وأيضاً قول الحكومة إنه «ما كان يجب أن تُعطى (السلسلة) من دون تأمين إيرادات لها»، وكأن المسؤولية على المواطن وليس على الحكم الذي كان في سباق مع الزمن لإقرارها، وهي حق كان يجب تدقيقه، وهدفت إلى رشوة الناس عشية الانتخابات… فركّز وزير المالية على المعاشات العليا ومخصصات السياسيين والوفود والتمثيل والعطاءات لمئات الجمعيات المحسوبة على بطانة الحكم… لكنه تجاهل مسؤولية وزارته عن عدم وضع الأصبع على الجرح حول الدين والجمارك والاقتصاد الموازي لـ«حزب الله» والأملاك العامة والنفط والاتصالات والضريبة على القيمة المضافة… وسواها.

ما تم كشفه مفزع فعلاً؛ فبعض كبار نجوم السلطة الشعبويين يتحدثون جهاراً نهاراً عن محاربة الفساد والهدر؛ وهم شركاء في محاصصة تمنع المحاسبة على سياسات لم تفعل إلا تضخيم الدين وتعميم الهدر والفساد. وما أثار المرارة لدى عامة الناس حديث وزير المالية عن أعباء فوق خيالية لمن يتقاضى أكثر من راتب، ويحدد: راتب بصفته نائباً، وراتب بصفته عميداً متقاعداً من الجيش… والعدد كبير، إلى من يتقاضى راتبي تقاعد: قائد سابق للجيش، ورئيس سابق للجمهورية (…)، إلى رواتب تقاعدية للنواب السابقين حتى للمتوفين فتصل المخصصات إلى الورثة، إلى رواتب خيالية في مؤسسات عامة، كأن يتقاضى رئيس دائرة الامتحانات 60 مليون ليرة، أو يتم دفع رواتب عن 16 شهراً، أو أن تصل رواتب ومخصصات فئة عليا من المديرين إلى نحو 300 مليون ليرة سنوياً في معدل وسطي؛ أي بما يفوق أكثر البلدان ثراء. إنه «الفساد المشرع بالقانون» كما أورد الرئيس فؤاد السنيورة في فذلكة الموازنة العمومية قبل أكثر من عقد. لكن ما من مسؤول تقدم بمشروع قانون لتصويب الأمور، حتى إن جُلَّ النقاش الدائر هذه الأيام لا يقترب من هذه «المغاور»!!

وفق وزير المال؛ بدت الدولة سائبة كلياً، لكن الآليات موجودة في القانون للجم هذا الوضع، ولا أحد يدري ما إذا كانت المعالجة متيسرة، لأن التحالف الطائفي المستفيد سيمنع الإصلاحات، لأنها تحدُّ حتماً من هيمنة النظام الزبائني، والدليل أن النقاش لا يتناول نتائج السياسات الظالمة وادعاءات النجاح؛ والدين تجاوز 100 مليار دولار؛ من تثبيت سعر صرف الليرة وكل شيء مُدَوْلَر، إلى الهندسات المالية لـ«مصرف لبنان»، وآخرها عندما مُنحت المصارف 5.5 مليار دولار، مما أثار استياء الهيئات المالية الدولية، لكن ما من مسؤول رشق «المصرف المركزي» وحاكمه بوردة على تدبير غير مسبوق يمكن ضمه إلى سلسلة تدابير رفعت أرباح المصارف من 43 مليون دولار في عام 1993 إلى أكثر من ملياري دولار في عام 2018!!

تتوجس الفئات الأقل دخلاً، وتلك التي تعيش على حافة الفقر؛ وهي واسعة جداً، من شهية مفتوحة تجاهر بأنها ستمد اليد إلى جيوب الناس الفقراء والضعفاء والمتقاعدين والكبار في السن، والمؤشرات الشعبية توحي بأنه سيكون من الصعوبة بمكان على أهل الحكم زعماء الطوائف السيطرة على الناس، حيث كل مواطن بات يعرف مكمن الفساد والفاسدين، وأن المعالجة تتطلب قرارات حاسمة. من البداية؛ لا بد من وضع الأمور في نصابها ورفض التهويل. إن أكثر من نصف الدين العام بالليرة، و92 في المائة للمصارف المحلية و«مصرف لبنان»، لذا ليس متعسراً التحكم فيه، نظراً لارتباطه الوثيق بجهات محلية وليس بمؤسسات خارجية.

من الأولويات الآنية وقف الفساد المشرع بالقانون. جزء منها يتطلب وضع سقوف مبررة للرواتب العليا، وجزء آخر استرجاع مئات ملايين الدولارات المهدرة على مجالس وجمعيات والبطانة الخاصة. بعدها الأموال المنهوبة، والبداية الجمارك؛ حيث اليد الثقيلة للدويلة في المرفأ والمطار والمنافذ البرية، فأقامت اقتصاداً موازياً؛ الأمر الذي يفسر أنه مع ارتفاع الاستيراد والإنفاق استمرت عائدات الجمارك كما كانت في عام 2010، أي إن النزف نحو ملياري دولار، مما يعني أن المكلف اللبناني عليه وزْر تمويل «المقاومة» والحروب التي تخطط لها طهران!!، كما تراجعت عائدات ضريبة القيمة المضافة مئات ملايين الدولارات. ووفق «الدولية للمعلومات»؛ وما من جهة رسمية نقضت معلوماتها، فإن التسويات على الأملاك البحرية تدرُّ نحو ملياري دولار، والعائدات السنوية نحو 400 مليون دولار، والسياسات المتبعة في الهاتف الجوال والبريد تحجب 200 مليون دولار عن الخزينة، فيما الاستيراد المباشر للمشتقات النفطية يزيد حصة الدولة 400 مليون دولار، ويكفي اتخاذ القرار بخفض الفائدة بواحد في المائة كي تحقق الدولة مليار دولار سنوياً. أما الكهرباء التي رتّبت؛ باعتراف رئيس الجمهورية، أكثر من ثلث الدين (38 مليار دولار) فإلى متى تستمر مزراب فساد لبعضهم؟!

وتبقى امتيازات العسكريين و«التدبير رقم 3»؛ حيث يحسب تعويض سنة الخدمة ثلاث سنوات، فهذا الأمر بحاجة لترشيد سريع وفوري، لأنه يوفر على الخزينة مئات ملايين الدولارات… لكن «انتفاضة» العسكريين المتقاعدين التي تصدّرها بعض رموز العهد، وتحذير وزير المال من استغلال التحرك في السياسة، طرح الأسئلة عن الصلة بين ما يجري على خلفية مشروع الموازنة وما كُشف من فساد، وملامح تعديل التحالفات ارتباطاً بالعقوبات الأميركية على إيران وميليشياتها وعدم المساس بـ«اقتصاد الدويلة الموازي».

الإجراءات القانونية الجادة ضرورية ولا غنى عنها، وربما في «سلسلة الرواتب» أخطاء مفتعلة استغلها صاحب القرار لتمرير توظيفات عشوائية يجب أن تعالج بالقانون. لكن في النهاية لا حلول تقنية لأزمة اقتصادية – مالية هي مرآة لسياسة قهر وتخلٍ عن السيادة. تبدأ الحلول الحقيقية بالإمساك بالقرار السياسي والإمساك بالحدود لاستعادة أموال الدولة، لأنها أموال البلد وليس الحكام، ولأن للبلد أهله وهم ليسوا مستأجرين، ولم يعد جائزاً التهويل بالتدابير الموجعة؛ فكم جورج زريق مطلوب، (بوعزيزي لبنان)، الذي حرق نفسه حتى الموت؟ لسان حال اللبنانيين هذه الأيام «استعادة الدولة من خاطفيها» لاستعادة المال المنهوب، ورفض «الحلول» على حساب الفئات الأضعف، والمطالبة بالشفافية وكشف حساب، وأبعد من الحديث عن قانون «من أين لك هذا؟»؛ كيف حصّل كل مسؤول أمواله من لحظة تسلمه المسؤولية؟