منير الربيع/لا أحد بريئاً من دم الطائف

57

لا أحد بريئاً من دم “الطائف”
منير الربيع/المدن/الثلاثاء 01/01/2019

في الأسبوع الأخير من سنة 2018، أطلق رئيس الجمهورية، ميشال عون، موقفاً لافتاً من بكركي، بعد مشاركته في قداس عيد الميلاد. أشار عون إلى أن ما يجري هو جزء من معركة سياسية، يتم فيها ابتداع أعراف جديدة. مثّل موقف الرئيس اعتراضاً على ما وصلت إليه المفاوضات الحكومية من تعثر وتأخير. لكن ما عبّر عنه عون، كان يعانيه لبنان كله عموماً، ورئيس الحكومة المكلف سعد الحريري خصوصاً. وإذا كانت السنة المنصرمة تميزت بفرض أعراف سياسية جديدة وممارسات لا دستورية، فقد كان ذلك نتاج سنوات مديدة.

التسوية الرئاسية
تجلّى القفز فوق الدستور، وإرساء الأعراف الجديدة، في “التسوية الرئاسية” التي حصلت في العام 2016. لم تكن هذه التسوية لتجد طريقها إلى النور، لو لم يتم تعطيل عمل مجلس النواب وجلسات الإنتخاب مراراً وعمداً، وانتهاج سياسة التهويل والتعطيل والاستقواء ومحاولات فرض الأمر والواقع تحت عنوان “أنا أو لا أحد”. هكذا أصلاً، وصل عون إلى رئاسة الجمهورية، أي بعد تعطيله مع حلفائه الاستحقاق الدستوري والواجب النيابي لسنتين ونصف، إلى أن نجحوا باستدراج الخصوم إلى خانة الخضوع والتسليم بمعادلة: إما عون رئيساً أو لا أحد.

بالتالي، فإن كل ما شهدته سنة 2018، كان نتاجاً للعرف الأساسي، الذي أرسي في السنوات الفائتة. وهو ما أدى إلى تسجيل جملة اعتراضات على أداء العهد، وانتقادات لما وصف بأنه إحياء لمنطق الثنائيات (تارة عون وحزب الله هما ثنائية شيعية مسيحية، وطوراً الحريري وعون هما ثنائية سنّية مسيحية)، أو تلك الرغبة الدفينة باستعادة الصلاحيات الرئاسية على الضد من اتفاق الطائف. فيخلص بعض السياسيين إلى اعتبار أن سنة 2018، كانت سنة طي صفحة الطائف، وتكريس أعراف حكم جديدة، منطلقة من غاية وحيدة، هي ضرب هذا الاتفاق. بما يعبّر عن مصلحة “تاريخية” لطالما جمعت عون والتيار الوطني الحرّ من جهة، وحزب الله من جهة أخرى.

التعطيل المتبادل
في أكثر من محطة قبيل وصوله إلى الرئاسة دعى عون إلى خطوات تمثّل خروجاً واضحاً عن الطائف، كإجراء انتخابات رئاسية مباشرة من الشعب. وما عاناه الطائف والحريري المتمسك به، من التقاء المصالح بين عون وحزب الله على ضربه، عاناه كثر مع عون تارة، ومع ثنائية عون الحريري تارة أخرى، إلى جانب الاستمرار بالمعاناة من ثنائية عون والحزب. الثنائيات الثلاث تلاقت في مكان وتضاربت في آخر، بحكم المصلحة والحاجة الظرفية والآنية. فبرز رفض من قبل الثنائية الشيعية، لما سعى عون والحريري إلى تحقيقه، وهو إعادة إحياء منطق الثنائية السنية – المارونية. امتد الاعتراض الشيعي طوال النصف الأول من سنة 2018، ولم يخل من توترات سياسية، وعرقلة لاستحقاقات إدارية وسياسية، وصلت في مرحلة معينة إلى حدود التوتر، وتعطيل ملفات إدارية، كتعطيل ترقية الضباط لأشهر، أو عرقلة وتأجيل البت بالعديد من ملفات التعيينات.

في المجال السياسي الأوسع، والذي يؤكد على ضرب الطائف والقفز من فوقه، لا بد من التوقف عند صيغة قانون الانتخابات النيابية، وأفرزت نتائجها بالشكل الحالي. مزيج النسبية مع الصوت التفضيلي، مثّل خروجاً سافراً على الطائف، لصالح تعزيز منطق الإصطفافات المذهبية، داخل صناديق الاقتراع. وهذه البدعة، كانت الغاية منها تقوية موقف الأحزاب المهيمنة داخل طوائفها، وفق مبدأ تكرّس بعد انتخاب عون، وهو “الحكم للقوي داخل طائفته”. ونجح التيار الوطني الحرّ في تحقيق ما يريد، وكذلك بالنسبة إلى الثنائي الشيعي، فيما الخسارة الكبرى كانت من نصيب تيار المستقبل.

قضم الصلاحيات

استُكملت مسيرة ضرب الطائف، بالأعراف المفروضة راهناً على آلية تشكيل الحكومة، وكيفية توزيع الحقائب والوزارات، ومعايير التمثيل، عبر اختراع مبدأ وزير واحد لكل 4 أو 5 نواب. هذا في المضمون، أما في الأسلوب، وبطريقة إدارة العملية التفاوضية للتشكيل، فكان أيضاً تهشيماً لاتفاق الطائف والأعراف الدستورية القائمة في أصول تشكيل الحكومات. إذ تعمّد رئيس الجمهورية ورئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل، إلى قضم دور وصلاحيات رئيس الحكومة المكلف. أولاً، برفض عون لإحدى الصيغ التي تقدّم بها الحريري، وإصداره بياناً يعبّر فيه عن مطالبته بتعديلات وملاحظات على الحريري الإلتزام بها، في حين أن الصلاحية الدستورية واضحة هنا، إذ تمنح رئيس الجمهورية فقط حق التوقيع بالموافقة وإحالتها إلى مجلس النواب، أو رفض التوقيع.

وما كان مستغرباً هو صمت الحريري عن هذا التصرّف، الذي ردّ عليه بطريقة أخرى وهي الإجتماع برؤساء الحكومات السابقين، لحماية صلاحيات الرئاسة الثالثة، رغم بقاء الحريري على حساباته السياسية والمصلحية التي تقتضي عدم الدخول في سجال أو خلاف مع عون. واستتبعت محاولات قضم صلاحيات رئيس الحكومة، عبر مبادرة أطلقها وزير الخارجية جبران باسيل، تولى فيها عملية التفاوض ووضع الشروط في عملية التأليف الحكومي. وبعد فشله مساعيه، حلّ مكانه مدير عام الأمن العام اللواء عباس ابراهيم، الذي ما أن نجح بمسعاه، حتى عاد باسيل وعرقلها. والأفدح، أن الحريري هنا استجاب لمطالب باسيل التعطيلية، ففشل التوافق مجدداً. وأبعد من ذلك، حمل الحريري مطالب باسيل ليدور بها على الأفرقاء، بغية تلبيتها وتحقيقها! لكنه اصطدم بثلاثة مواقف متشددة، الأول من الحزب التقدمي الإشتراكي، والثاني من حركة أمل، والثالث من حزب الله. حينها لم يتوان برّي عن إبداء استغرابه مما يفعله الحريري، متوجهاً إليه بالقول:” مين عم يشكّل حكومة؟ أنت أم جبران؟”.

في جعبة الشيعية السياسية
ما عاناه الحريري طوال الأشهر الماضية، عاناه عون في الشهرين الأخيرين، فاتخذ موقفه الامتعاضي الأعراف الجديدة. قصد عون بكلامه حزب الله مباشرة، الذي تمسك بمطلب توزير سنة الثامن من آذار، بينما هو يريد الحصول على 11 وزيراً، بموافقة الحريري، وتشدد باسيل. وهذا أيضاً يمثّل خروجاً على الطائف، إذ أن باسيل يسعى من خلاله إلى السيطرة على مسار جلسات مجلس الوزراء وجدول أعماله وجعل نفسه رئيس حكومة ظلّ.

رفضُ عون للأعراف الجديدة، عبّر فيه عن تخوف حقيقي يعتري المجتمع المسيحي في هذه المرحلة، خصوصاً أنه جاء بعد موقف لافت للبطريرك الماروني بشارة الراعي، حول ضرورة الحفاظ على اتفاق الطائف، وما يضمنه من مناصفة. أي التأكيد على رفض المثالثة، لأنها ستكون على حساب المسيحيين وموقعهم ودورهم في الدولة. بلا شك، الخروج على الطائف، بفعل التقاء المصالح هنا وتصارعها هناك، لن يتوقف عند حدود سنة 2018، لا بل سيكون مستمراً للمرحلة المقبلة، وهو قد يطال أحد الجوانب الرئيسية في ركائز النظام، خصوصاً في لحظة مفصلية من التطورات الإقليمية، قد تستدعي طرح المثالثة بدلاً من المناصفة، أو إلى تعديلات دستورية تمثّل ضمانات للطرف الأقوى على الأرض، أي الشيعية السياسية، في مواجهة أي رياح تهدد فائض قوتها راهناً. فمثلاً، إذا ما عاد البحث في موضوع السلاح (وهذا مؤجل إلى فترة غير منظورة) حينها، قد تطرح الشيعية السياسية معادلة “السلاح مقابل الدستور”.