حنا صالح/السيرك اللبناني الممل

67

السيرك اللبناني الممل
حنا صالح/الشرق الأوسط/02 آب/18

منذ أيام عاد الرئيس المكلف سعد الحريري إلى السراي الحكومي لمتابعة تصريف الأعمال، بوصفه رئيساً للحكومة المستقيلة. حملت هذه العودة إشارة قوية مفادها أن تأليف الحكومة الجديدة عالق في عنق الزجاجة، واتسع انشغال الوسط السياسي بالحديث عن العقبات التي تعترض تأليف الحكومة، وتحفل وسائل الإعلام كما وسائل التواصل الاجتماعي، بروايات عن جديد العقد المسيحية والدرزية والسنية، وهي حقيقية لكنها ليست المرة الأولى التي تُواجه عملية تأليف حكومة جديدة في لبنان بالشروط والشروط المضادة.

المسألة أبعد من أن تكون قصة عقد داخلية، لذا اختار الرئيس المكلف بداية الشهر الحالي للذهاب في إجازة خاصة، هي الثالثة منذ تكليفه، بما يعني أن لا حكومة في المدى المنظور، وأن تصريف الأعمال مستمر حتى إشعار آخر، وأن التباينات الداخلية مرشحة للبروز أكثر، وهناك استحالة تأليف حكومة جديدة ضمن المعطيات الحالية. ومن الآخر، تقول المعطيات إنه منذ الانتخابات النيابية وإعلان قائد «فيلق القدس»، قاسم سليماني، أنه بعد فوز أطراف الممانعة بأغلبية 74 نائباً ينبغي تشكيل حكومة مقاومة (!!)، المعنى والدور لمثل هذه الحكومة معروف، كذلك الأهداف، لذا تشهد عملية التأليف فجوراً موصوفاً من جانب القوى السياسية التي تلتزم دفتر الشروط الإيرانية، بلغ بها حد الإفصاح بأنه ليس المطلوب أن يحوز حليفها فريق رئيس الجمهورية الثلث المعطل للإمساك بجدول أعمال مجلس الوزراء وحسب؛ بل المطلوب أن يحوز الفريق الممانع ثلثي مجلس الوزراء حتى يدير بالكامل دفة الحكم.

وظهرت الأهداف الحقيقية، وأولويتها تجويف صلاحيات رئاسة الوزراء وتقزيم دور رئيس الحكومة، كجزء من المخطط الذي تنفذه طهران في المنطقة، بتحجيم المُكون السني، على ما تم تنفيذه في العراق بعد عام 2003. وما يظهر من محاولات لتكريسه في سوريا عبر الاقتلاع والتهجير والتوطين لإحداث تحول ديموغرافي، وهذا يؤكد أن ما يُقال عن العقد الدرزية والمسيحية ليس إلا ذراً للرمال في العيون؛ لأن المعنيين ليسوا بالقدرة الكافية لتسهيل تأليف الحكومة أو عرقلتها، ذلك أن معركة التأليف تتجاوز لبنان، مع سعي «حزب الله» وفريقه لخطف الحكومة الجديدة والاستئثار بقرارها، للتعويض لبنانياً عن خسائر تلوح في المنطقة، مع كشف الشارع العراقي والشيعي خصوصاً جوانب من مخاطر الهيمنة الإيرانية ورفضها، وكذلك مع تكريس وتثبيت سوريا الروسية التي يتم فيها تقنين نفوذ حكام طهران.

ازداد هذا الضغط لخطف التأليف؛ خصوصاً بعد الذي سمعه وزير الخارجية جبران باسيل في واشنطن، من نائب وزير الخارجية جون سوليفان، عن قلق أميركي من دور «حزب الله» في لبنان، وما يشكله من تهديد للاستقرار الإقليمي، ووصل إلى حد المطالبة باحترام الأطراف اللبنانية التزامات لبنان الدولية، والكف عن خرق سياسة «النأي بالنفس». إذا أضفنا هذا التحذير إلى بروز المطامح الشخصية، نجد أن بعض الخلل الذي علّق الآن عملية التأليف، هو أن معركة الرئاسة فُتحت باكراً والبلاد في السنة الثانية على بدء العهد الجديد، والطاغي على الحركة السياسية الطموح بالوراثة، ما فاقم من حدة عناصر الاشتباك الداخلي، بعدما برزت محاولات فرض أمر واقع. وآخر البدع اجتماع اللجان النيابية والبلد من دون حكومة، ثم بروز توجه لدى رئيس البرلمان نبيه بري لفرض سابقة الذهاب إلى جلسة تشريعية في ظلِّ حكومة تصريف أعمال، إلى سابقة استدراج عروض لتشريع القنب الهندي، الحشيشة، لأهداف مفضوحة، ما من شأنه أن يُعقد أكثر فأكثر المشهد السياسي.

إنه السيرك اللبناني، حيث يتأكد مجدداً فشل زعماء الطوائف في الحفاظ على توازن ما بين مصالحهم، وهم ابتكروا بدعة المحاصصة وبين قوة الدولة، ما أورث انقسامات ونزاعات، ورغم ذلك يمضي «حزب الله» مع فريقه في نهجٍ مبرمج لإضعاف الدولة، وإحلال المزرعة مكانها، فتفقد الأغلبية الشعبية ضمانتها الحقيقية، لأن الأولوية لم تعد لإنقاذ لبنان؛ بل لتنفيذ أجندات إقليمية بوهم أن خطف القرار في لبنان هو خشبة خلاص الرهانات الإيرانية.

الأنكى أن هذه الأطراف المتصارعة على التأليف، تتجاهل ما يعنيه أن أكثر من نصف اللبنانيين في امتناعهم عن التصويت مارسوا فعلاً سلبياً ضد كل هذه التركيبة، فيستمر المنشغلون بالأحجام والأوزان في غيِّهم، يرفضون الإقرار بأن أبرز كفاءات البلد خارج عصبياتهم، وبعيدة عن التبعية لهم، فتتم تغطية المآرب بتغليظ الكلام عن بدء المعركة ضد الفساد، هذا مع العلم بأن الفساد يسجل في لبنان أرقاماً فلكية في ظل التحالف الحاكم إياه منذ نهاية الحرب، والمستمر في المواقع والأسماء نفسها، أقله طيلة آخر عشر سنوات.

نفتح مزدوجين للإشارة إلى أن أبرز «إنجازات» هذه الطبقة السياسية، يتمثل في القدرة على توظيف الأتباع وأقارب المسؤولين في وظائف وهمية لها رواتب ومخصصات مجزية. والأمر يتم علانية، فمع الشح بالمال السياسي يقاتل كل طرف للحصول على حصته من الكعكة، فبات من عاديات الأمور ودون خجل، أن يردد كل زعيم مطالبه بين حصوله على حقيبة وزارية سيادية وأخرى خدماتية وثالثة دسمة… إلخ، فتتحول كل وزارة إلى مزرعة من حيث الصفقات والسمسرات والعقود والمشتريات، ويأتي كل وزير بأعداد من جماعته ومريدي فريقه ليعينهم في وزارته، البداية تكون تعاقداً وهمياً، ومع الوقت يتم فرض مباراة محصورة لتثبيت المتعاقدين دونما أي حاجة، ودونما أي وجهة حق، فيرتفع عديد القطاع العام إلى أكثر من 25 في المائة، وهذا بحد ذاته كارثة، مع تحول القطاع العام رب العمل الأكبر، وتنفق الأموال العامة على توظيف سياسي لتحقيق مزيد من «الشعبية» المدفوعة، وتتضخم أرقام حسابات الزعيم، وبعضهم لم يرث ولم يهاجر ولم يتاجر، وبات يملك أموالاً لا تأكلها النيران. هذا يفسر الجانب الأبرز من وصول الدين العام إلى 130 مليار دولار والعداد لا يتوقف. وحتى نفهم ما يعنيه الرقم فهو يساوي مرتين ونصفاً الدخل القومي، ويعني 26 ألف دولار ديناً برقبة كل لبناني، إذا اعتبرنا عدد اللبنانيين نحو خمسة ملايين.

بالمقابل يتراجع الوضع المعيشي لعموم الناس، وتنعدم الخدمات العامة نتيجة كل هذه السياسات، فتتعمم البطالة لتنشأ جزر عوز ومجاعة حتى في المدن الكبرى وخاصة بيروت. ثم يتحدثون عن اعتزامهم مواجهة الفساد، وتتم مطالبة المواطنين بالإبلاغ إذا لديهم معطيات جدية، فيما يتم عمداً شل هيئات الرقابة والمحاسبة.

الخروج من هذا السيرك الممل ليس سهلاً، وليس بالأمر البسيط، وربما تكون البداية وقف الاستنكاف السياسي، وعودة الناس، ولا سيما النخب والكفاءات، إلى الحيّز السياسي.

وما يقدمه الشارع العراقي هذه الأيام نموذج معبر في تجاوزه كل الأطر الحزبية والطائفية، وسعيه رغماً عن الأدوار القمعية للميليشيات الطائفية التابعة لطهران، إلى خلق بعض شروط إخراج العراق من المستنقع الخطير. الشبه بين البلدين كبير وأجواء التململ متحركة؛ خصوصاً بعد انتخابات فاقمت التأزم السياسي، وطبيعي أن يكون الهم وصول من هم القدوة في النزاهة والشفافية، لتتقدم المصالح الوطنية والمطلبية على المصالح الخاصة، ومن هنا المنطلق.