الكولونيل شربل بركات/كذبة أول نيسان

199

كذبة أول نيسان
الكولونيل شربل بركات/01 نيسان/2022

اليوم هو الأول من نيسان وهو اليوم الذي كنا فيه دوما نفتش عن كذبة مهضومة نكذّبها على الأصدقاء بكل جدية ونضحك سوية بعدها لأن هذا اليوم مسموح فيه الكذب لا بل لا يمكن أن يمر بدون كذبة ولو صغيرة. وكذبة نيسان بالعادة كذبة يجب أن تكون مهضومة ولا بد أن تعرف بعد قليل من الوقت بأنها كذبة لكي يبقى لأول نيسان رونقه ويتم الاحتفال بمن صدّقها وبأول نيسان المهضوم بالنسبة لنا. ولكن مع الوقت جربت أن أبحث عن موضوع هذه الكذبة وكيف وصلت إلينا. وبالصدفة عرفت من الدكتور يوسف الحوراني بأن السومريين سكان ما بين النهرين كانوا يحتفلون في أول نيسان ببدء السنة كونه بدء الربيع والحياة في الحقول وتوقف البرد وانتشار الزهور وما إليه من مظاهر تجدد الطبيعة. وكنا أشرنا بأنهم اهتموا بالكتابة على الألواح الطينية وركزوا على التدوين كمظهر مهم لتداول المعرفة وانتقالها بين الناس. ومن هنا اعتماد الحكام في تلك البلاد على كتابة كل الأوامر التي يجب أن تعمم وتنفذ. وقد اعتقادوا بأن عند الله أيضا “الواح المقادير” التي يكتب فيها ما ستكون عليه السنة القادمة لكل فرد. وبما أن قدرة الله على الكتابة لكل الناس محدودة أيضا، كونه سوف يكسر “الواح المقادير” القديمة ويجدد كتابة الألواح لكل الناس، فإن هذا اليوم أي راس السنة هو يوم فرصة للجميع لا يدخل ضمن حسابات الاله وقوانينه الصارمة، فقد كسرت فيه الألواح القديمة ولم تكتب بعد الألواح الجديدة. من هنا يعتبر هذا اليوم الوحيد خلال السنة الذي يسمح فيه بكل أشكال المعاصي بدون أن يعاقب عليها، وحتى الملك أو الحاكم كان ينزل عن عرشه في هذا اليوم من السنة ويؤتى بأول غريب يمر ويُلبس حلّة الملك ويعطى صولجان الحكم ليمضي يومه كحاكم للمدينة. ويمكن تصور الفلتان الذي يعم المدينة من كل جوانب الحياة في هذا اليوم.

المعتقد بأن هذه العادة قد انتقلت إلى بعض الحضارات بشكل رمزي كون ذيولها سببت مشاكل في المجتمعات القديمة بدون شك، فالانفلات الكلي من القوانين والأنظمة قد يتسبب بالضرر كون الناس أحيانا تميل إلى الشر وليس فقط الانعتاق من هذه القوانين، ومن هنا محاولة ضبط التصرفات حتى في يوم راس السنة وأثناء تغيير “ألواح المقادير”. ولذا فقد بقي عندنا بعض مظاهر هذه العادات للاحتفال براس السنة التي كانت تتم فيما بين النهرين قديما. وما عملية تجرية الحظ عند الكثيرين في بداية السنة والمستمرة حتى اليوم إلا نوعا من هذا التقليد لكي نعرف ماذا تحمل لنا الأقدار في السنة الجديدة؟ وكيف سيكون حظنا خلالها؟ ولذا فإن البعض يجرب حظه في أول السنة على طاولات القمار مثلا أو بشراء أوراق اليانصيب أو حتى بقرأة الطالع. أما الانضباط في المواضيع الاجتماعية والعلاقات بين الجنسين، وهي أيضا كثيرة الأهمية، فأن ما تبقى منها هو استقبال السنة باطفاء الأضواء وتلك القبلة التي تنتقل بين الكل بشكل رمزي في مناسبة راس السنة، والتي أصبحت عندنا نهاية شهر كانون الأول. هذا فيما يتعلق برأس السنة والذي تغيّر من أول نيسان إلى أول كانون الثاني. ولكن بقيت عندنا ذكرى لبداية السنة في نيسان، وهي لا تزال ماثلة حتى ايامنا في الذاكرة البشرية وفي أغلب المجتمعات رمزا لذلك اليوم الأول من نيسان يوم الانحلال من القوانين، بأن يسمح بتلك الكذبة التي تمثل هذا الانعتاق وتبقى بدون ضرر، وهي كذبة نيسان رمز الخطيئة المسموح بها والتي لا نزال نتداولها بكل محبة، وشرطها أن تكون كذبة قصيرة مهضومة وبدون أي عواقب أو ذيول.

فكل أول نيسان وأنتم بخير وأنشالله تكون كذبتكم هذه السنة وما ترمز اليه فرصة للتأمل بأن الله سوف يغيّر “الواح المقادير” وبالتالي نعطى أملا بمستقبل أفضل من كل المآسي التي حملتها السنوات الماضية من أمراض وأوبئة ومن مشاكل أقتصادية، وخاصة في بلدنا الحبيب لبنان والمنطقة المتألمة منذ سنوات طويلة. وليرفع الله شبح الحرب التي تهدد العالم بين أوكرانيا وروسيا ويقي الكل من ذيولها. ولينشر المحبة والرفق والتفاهم بين شعوب هذه البسيطة. ولنحلم بأن تكون السنة القادمة سنة خير وبركة كما كان شتاؤها شتاء خير حمل معه الكثير من الأمطار التي ستملأ بدون شك خزانات الأرض العطشى وتعيد الحياة المترافقة مع جهد الفلاح وحلم التاجر وصدق الحاكم وتفتيشه عما يخفف من أوجاع الرعية. فهل تكون آمالنا مادة تكتب في “ألواح المقادير” الجديدة أم أنها كذبة أخرى من كذبات أول نيسان؟..