المحامي عبد الحميد الأحدب/أيها اللبنانيون…. لم تعد لكم دولة…

176

أيها اللبنانيون…. لم تعد لكم دولة…
المحامي عبد الحميد الأحدب/29 تموز/2021

“إن وعداً بالحرية من دكتاتور هو شيك بدون رصيد، وأمل بالحرية من حالم هو عملة مصابة بالتضخم”
إرنست همنجواي

كان لبنان يعيش حتى ما قبل الإستقلال حياة عادية يَسيرة منعمة، وأخذ بعد الإستقلال طريقاً الى العلى ليصبح في البلاد العربية جزيرة الحرية والتنوع والثقافة، وكان مقصوداً من كل العرب للسياحة وللثقافة! كان لبنان تحت الإنتداب ثم صار مستقلاً، ومستقلاً فعلاً بعد 1943!

وتوقفت المسيرة يوم وقّع الجنرال إميل بستاني اتفاق القاهرة، وجاء به الى رئيس البلاد، يومها شارل حلو، ليوقعه، فاستمهله شارل حلو واتصل بفؤاد بطرس للتشاور معه، وقال له فؤاد بطرس: اذا لم توقعه اليوم فإن حرباً اهلية ستنشب، اما اذا اخترت توقيعه في نهاية ولايتك، فالحرب الأهلية ستبدأ عند انتهاء ولايتك.

وهكذا وقّع شارل حلو اتفاق القاهرة، وسقطت الشهابية على صوت واحد بعد انتهاء ولاية شارل حلو، الذي كان عهداً شهابياً! وجاءت بعد زغرتا وسليمان فرنجية، وبدأت طريق الحرب الأهلية بخطوة واحدة وصوت واحد، لأن الشهابية كانت ستصمد وتؤخر الحرب الأهلية، بينما كان من طبيعة زغرتا ان تعجل بها، وهكذا بدأت الحرب الأهلية “ببوسطة” عين الرمانة، ولكن الإعداد لها بدأ في بداية عهد سليمان فرنجية وعلى صوت واحد!

ويوم انفجرت “بوسطة” عين الرمانة بالمجزرة التي حصلت يومها، انتهى استقلال لبنان وبدأت الحرب الأهلية، ووصاية ياسر عرفات صغيرة، ووصاية حافظ الأسد كبيرة، وكان بين الوصايتين صراع وتناحر وكانت الجهود السياسية العربية والدولية كبيرة لإطفاء اول نيران الحرب الأهلية، وشاءت المناورات ان تصب على سليمان فرنجية مسؤولية النيران التي اخذت تشتعل، فوجدت صيغة في انتخاب رئيس للجمهورية قبل انتهاء ولاية سليمان فرنجية، على ان يبقى فرنجية على الرف ممارساً صلاحياته “الوهمية”، ويكون الياس سركيس على الرف للهمس والإستشارات، ويوم تسليم الياس سركيس سلطاته لم يعد لبنان مستقلاً، بل أصبح تحت وصاية حافظ الأسد الكبيرة، ووصاية ياسر عرفات الصغيرة! وكانت الحرب الأهلية على الطريقة اللبنانية: بين المسلمين والمسيحيين وايضاً بين اليسار واليمين.

وحرب اليمين واليسار او حرب السياسيين كما هو واقعها، سمّت نفسها ثورة، كالثورة التي اندلعت وانطفأت في 17 تشرين على ميشال عون. وفي لبنان، كل الحروب الأهلية ثورية، وكل الثورات حروب اهلية! ويُذكّر هذا الواقع بالحوار وبمفهوم الثورة بين جمال عبد الناصر و”تشي غيفارا”!

كان “تشي غيفارا” في زيارة جمال عبد الناصر في القاهرة وجرى حديث طويل بينهما عن الثورة، وبعد المجاملات، كان اول سؤال وجهه “تشي جيفارا” لعبد الناصر في افتتاح حديث الثورة هو: “كم من اللاجئين المصريين أُجبروا على مغادرة البلاد”؟

وعندما رد عليه عبد الناصر بأن عددهم لم يكن كبيراً وأنهم كانوا في معظمهم من “المصريين البيض” اي من فئة اصحاب الجنسيات الأجنبية الذي تمصروا بحكم اقامتهم في مصر، لم يسُعد هذا الجواب جيفارا، فقال معلقاً: “هذا يعني انه لم يحدث شيء كثير في ثورتكم. انني اقيس عمق التحول الإجتماعي بعدد الأشخاص الذين يمسهم ويؤثر فيهم بحيث يبدأوا في الإحساس بأنهم لم يعد لهم مكان في المجتمع الجديد”.

وهنا شرح له عبد الناصر ان ما يفعله هو: “تصفية امتيازات طبقة معينة وليس تصفية افراد تلك الطبقة”. واضاف: انه يريد ان يفتت سلطة الإقطاعيين لكنه لا يريد أن يحرم افراد هذه الطبقة الإقطاعية من ان يصبحوا اعضاء نافعين في المجتمع الجديد اذا شاؤوا.”

ومفهوم عبد الناصر حضاري ويقرب الثورة من قلوب الناس! ولكن لبنان الذي فقد استقلاله وصار تحت الوصاية منذ عهد الياس سركيس حتى اليوم، يطرح انهياره الحالي وطبقته السياسية التي هي صنع الوصاية ومخابراتها، يطرح اسئلة:
1- هل صيغة دستور 1943 واتفاق الطائف وصيغة الإرشاد الرسولي للسينودوس الفاتيكاني كفيلة باستمرار لبنان؟
2- هل صيغة التعايش هذه حقيقة ام وهم؟ وهل تعايش اللبنانيين عام 1958 وخلال الحرب الأهلية التي استمرت 17 عاماً تُمكّن من استمرار لبنان؟
3- هل استطاع لبنان عقب استشهاد رفيق الحريري والخروج السوري ان يجد صيغة توافقية بعدما نشأ ما عرف بجماعتي 8 آذار و14 آذار؟
4- هل لبنان قادر وناجح في أن يكون اختياره لرئيس الجمهورية ورؤساء الحكومات او اجراؤه التعيينات في المناصب الإدارية، هل الإختيار بعد الوصاية وبحكمها يمكّن لبنان من الإستمرار ام ان الوصاية ومخابراتها هي التي اوصلته الى هذا الإنهيار؟
5- هل قرار الحرب والسلم على حدوده الجنوبية هو قرار سيادي ام ان هذا القرار صار بيد دويلة حزب الله كما كان بيد الدويلة الفلسطينية؟ في كل حال تحت الوصاية السورية الإيرانية؟
6- هل الأمن القومي اللبناني، وأمن البلاد الداخلي ترسمه أجهزته الوطنية ام مرهون بقوى امنية واستخباراتية اخرى؟
7- هل صيغة مشروع دولة ولاية الفقيه، التي اعلن سماحة السيد حسن نصرالله ايمانه وولاءه المطلق لها، قابلة للتطبيق على كل لبنان؟
8- هل يمكن ايجاد صيغة تتوافق فيها ولاءات السُنّة السياسية مع الخليج العربي، وولاءات الشيعة السياسية مع ايران، وولاءات الموارنة السياسية مع فرنسا والولايات المتحدة؟
9- بعد الإنهيار المالي وسقوط النظام المصرفي، هل يمكن ان يكون لهذا الاقتصاد الوطني اي مستقبل، خصوصاً انه يتجه بقوة نحو رفع كل اشكال الدعم للسلع والأدوية والمحروقات والخدمات؟
10- هل يمكن لنادي المحاصصة السياسية للفساد ان يستمر في إدارة شؤون البلاد، وان يكون حدا أدنى من الثقة الشعبية به؟ (لاحظ نتائج انتخابات الجامعات والنقابات التي سقطت فيها كل الأحزاب التقليدية).
11- هل يمكن للثورة الشعبية ان تغير سيطرة الطبقة السياسية؟
12- هل يمكن للجيش اللبناني ان يستولي على الحكم، ويعلن ادارة شؤون البلاد من دون ان ينقسم طائفياً، ومن دون ان يصطدم مع حزب الله، وهو يعاني من التسييس في التعيينات؟

الإجابات كلها تقول ان لبنان الحالي غير قابل للنقاش والاستمرار والإصلاح، وهو يسير من قاع للتدهور الى ان يغرق في قاع اعمق من تدهور جديد.

لبنان اليوم ليس كما اراده الفرنسي عام 1943، وليس كما اراده السعودي في الطائف، وليس كما اراده الأميركي عند دخول المارينز، وليس كما اراده الإسرائيلي في كل عملياته العسكرية، والأهم ليس كما يريده شعبه الصبور.
لبنان الحالي بصيغته الحالية غير مُرْضٍ لأيٍّ من صانعيه المحليين، او داعميه الإقليميين، او اصحاب المصالح الدولية فيه.

لا يوجد اي امل جدي، سواء في باريس او واشنطن او برلين او لندن او دمشق او طهران، في ان تستطيع الصيغة الحالية الإستمرار او البقاء.

قد يكون التدهور الحالي مفيداً، بشكل مؤقت، لبعض اللاعبين محلياً وإقليمياً، لكن الجميع يدرك ان مشروع الدولة فشل، وسقوط النظام حتمي، وتفكك المؤسسات حادث، وإمكان الإستمرار الإقتصادي والمالي مستحيل، كما تُثبت الأرقام.
اذا، نحن امام معادلات كلها تسير في اتجاه سقوط دولة، وتفكك نظام وفوضى وانهيار كامل.
اذا، كانت الإجابة على كل هذه الأسئلة الجوهرية سلبية، فنحن امام واقع مؤلم، لكنه حقيقي، لا يمكن التهرب من نتائجه ولا تعديل تداعياته.
باختصار نحن امام حكم فاشل في عهد مسلوب الإرادة الوطنية، يدير اقتصاداً، لا قيامة مالية له، لدولة فقدت مقوماتها في ظل مجموعة سياسية فاسدة فاقدة للكفاءة، وتحت مظلة اقليمية متآمرة على السيادة اللبنانية، ويعايش عالماً من الكبار قرروا ان يبيعوا لبنان كورقة مقايضة.

يُذكّر هذا الوضع بتاريخ اسبانيا قبل فرنكو!
كانت رياح القرن العشرين قد بدأت تهب على اسبانيا وكان يمكن للقرن العشرين – على عكس ما جرى- كان يمكن للقرن العشرين ان يكون قرن الحرية والديمقراطية والإزدهار والتفاهم، ولم تكن اسبانيا بعيدة عن هذه الأحلام، فقد ظهرت قوة العمال كفاعل رئيس ومؤثر في الحياة السياسية.

وظهر اليمين المتمثل في رجال الأعمال والإقطاع ورجال الدين.
وتَدخَّل الحكماء، وتألفت عصبة “الدفاع عن الجمهورية”، واصدرت بياناً توجته بعبارة اصبحت فيما بعد شهيرة في تاريخ اسبانيا، وهي تنطبق على لبنان هذه الأيام، ولكن الإسبان تلوها بينما لبنان يهمس بها: “أيها الإسبان… لم تعد لكم دولة”. هل قالها احد من النواب في لبنان؟ المستقيلين على الأقل؟

ثم حصل في اسبانيا نفس ما يحصل في لبنان، تجمُّع شباب مثقفين مع شباب ضباط اصدروا بدورهم اعلاناً ابتهلوه بقولهم “عندما طلبنا العدل، اخذوا منا الحرية، وعندما طلبنا الحرية، كان كل ما حصلنا عليه هو سيرك برلماني هزيل”. وهذا تماماً ما يحصل في لبنان!

وارتفعت اصوات تقول ما يقوله اللبنانيون هذه الأيام: “دعونا لا نخدع انفسنا، ان اي بلد يستطيع ان يعيش في ظل نظام ملكي او جمهوري. في ظل نظام برماني او رئاسي، في ظل نظام شيوعي او فاشستي، لكن اي بلد لا يستطيع ان يعيش تحت الفوضى، اننا اليوم نسير في جنازة الديمقراطية”، لأن الديمقراطية تحتاج الى ديمقراطيين، والبرلمانية تحتاج الى برلمانيين، ولبنان يحتاج الى لبنانيين!

نحن في جنازة الدولة اللبنانية التي تحكمها عصابة فارسية مسلحة، تختبئ خلف ميشال عون، ومن سوء حظ لبنان انه انقسم على نفسه، وتسلطت عليه عصابة علي بابا في الوقت الذي انقسمت فيه البلاد العربية كلها على نفسها بين ايران والسعودية!

والثوار الذين اصبحوا جماعات جماعات، كلما كثر عددهم زادت فرقتهم! لأن فكرهم وعقائدهم وتاريخهم وحاضرهم، خليط فكري وعقائدي منذ ان بدأت الوصاية السورية في “بوسطة” عين الرمانة.
لماذا هذا العجز عند المثقفين؟ لماذا غابت ثم ماتت الثورة؟ لماذا انتحر المثقفون؟
هذا الخليط الفكري الذي يشلّ حركة الشعب حتى لكأنها “جنازة البلد”، يُذكّرنا ببعض ما حدث في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ألم يحدث ان افكار اوروبا وعقائدها هجمت اعصاراً مزيفاً وكاسحاً على عالم عربي متخبط في الجهل يبحث لنفسه عن اطار متجدد لحمايته بعد ان تحولت فكرة ودولة الخلافة الإسلامية في اسطنبول الى ركام يتهاوى وينهار؟

ان النتيجة اننا نسير في “جنازة لبنان” وفي “جنازة العروبة” في “حنازة الحرية” في “جنازة الثقافة” في “جنازة الأحلام”.
ايها اللبنانيون، جاء وقت الإعتراف والإدراك بأنه: “لم تعد لنا دولة”.
عصابة علي بابا والأربعين حرامي يحكموننا بكل راحة وإطمئنان!

جاء وقت انشاء دولة.
لقد قضوا على المرفأ في 4 آب، ومنذ سنة لم تعرف الدولة من هو الفاعل؟ لأنه ليست هناك دولة، الدولة الوهمية تقول انها انجزت 97% من اعمال الدولة.

ايها اللبنانيون، سرقوا دولتكم، ونحن نسير في جنازتها، بانتظار رجال يعلقون المشانق لعلي بابا ويعيدون الدولة الى مهامها!

ولا تنتظروا الوعود، لقد كان همينغواي تعبيراً عن خيبة الأمل في اسبانيا حين قال: “ان وعداً بالحرية من دكتاتور هو شيك بدون رصيد، وأمل بالحرية من حالم هو عملة مصابة بالتضخم”.