الكولونيل شربل بركات/الترانزيت النفطي في لبنان تأثيره

274

الترانزيت النفطي في لبنان تأثيره
الكولونيل شربل بركات/13 تموز/2021

تكلمنا في مقال سابق عن تأثير مرحلة الرئيس جمال عبد الناصر على الأوضاع في لبنان، وكنا أشرنا أيضا عن تأثير مرحلة ما بعد اسحاب قوات ابراهيم باشا المصري من لبنان وسوريا باتفاق مع القوى العظمى على أن تعترف هذه لمحمد علي بتوريث حكم مصر ضمن سلالته من بعده، ما أمن استقرار مصر وبداية ازدهارها مع فتح قناة السويس ومشاريع تحديث الجيش والادارة والزراعة والصناعة والمياه التي تبعت الاستقرار والانفتاح على دول اوروبا والبعثات التعليمية وقد جعلت من العلوم الحديثة والحياة العصرية ميزة لمصر محمد علي في نهاية القرن التاسع عشر. ولكن انسحاب قوات ابراهيم باشا من لبنان وسوريا باتفاق لم يترك للعثمانيين فرصة الانتقام من الأمير بشير الذي كان ساند، لا بل حارب ضمن قوات ابراهيم باشا، فكانت نقمة العثمانيين خلق المشاكل في لبنان للانتقام، ليس فقط من الأمير الذي نفي من لبنان، ولكن من اللبنانيين الذين ساندوه. وهكذا خلقت المخابرات العثمانية أول خلاف طائفي اساسي بين الموارنة والدروز لكي تأمن عدم قيام اللبنانيين مجددا بالثورة على حكمهم أو معاندة الولات العثمانيين. من هنا كانت أحداث 1860 بين اللبنانيين مفتعلة دبت فيها الفوضى لكي يسمح لهم بالعودة وفرض النظام. ولكن الفرنسيين الذين كانوا جزء من الاتفاق على خروج الجيش المصري فهموا لعبة العثمانيين وأرسلوا حملة عسكرية فرضت الأمن والاستقرار في ربوع لبنان وحاولت حل الخلاف بانشاء قائمقاميتين. وما أن خرجت القوات الفرنسية حتى عاد عملاء السلطنة وحركوا الخلاف سنة 1864 فكان الحل بالمتصرفية التي ما أن وقف تدخل الاتراك فيها حتى استقر الوضع وعادت الحياة إلى طبيعتها، ولو بقي في بعض النفوس نوعا من الغضب بسبب ما جرى.

هذه المقدمة عن أساس المشاكل التي ورثها لبنان الحديث عادت لتضاف إلى ما قام به الضابط التركي يوسف العظمة بعد زوال السلطنة ومحاولته خلق خلاف بين الدول المنتدبة وشعوب المنطقة بأن دفع قبل الأوان لاعلان المملكة العربية. وفي نفس الوقت حرّك عصاباته في جنوب لبنان للقيام بمذابح طائفية ستنعكس على العلاقة مع الفرنسيين. وقد كانت حركته هذه، خاصة لأنه دفع حياته في ميسلون، مثالا لبعض من حاول القيام بدور البطولة، ومنها مواقف الضابط التركي نوري السعيد في العراق وخاصة الضابط التركي الآخر الحاج أمين الحسيني رفيق درب يوسف العظمة والذي خلق المشاكل مع الانكليز بنفس التوجه.

أما مرحلة عبد الناصر وقناة السويس فهي ما سوف نراه يحرك أغلب المشاكل الكبرى التي تعرّض لها لبنان والتي ستأخذ دوما المنحى الطائفي، كما كانت الحال في 1860 و1864 ومن ثم في 1920 في لبنان و1936 وما قبلها وبعدها في فلسطين. وقصة تأميم القناة التي دفعت، بعد الضغط الأميركي، لانسحاب القوات الفرنسية والانكليزية من قناة السويس لتحل محلها قوات دولية وتعتبر سيناء مجردة من السلاح ومضائق تيران مفتوحة لعبور السفن الاسرائيلية، جعلت التجارة الأوروبية تتخذ ميناء بيروت والممر عبر سوريا إلى بلاد الخليج طريقا لاستبدال القناة. ما دفع عبد الناصر لطرح الوحدة مع سوريا لقطع هذه الطريق. ومن ثم استعمل الخطة العثمانية نفسها بأن اقام المسلمين ضد شمعون بعد دفعه الأموال والسلاح لسلام وكرامي وجنبلاط والأسعد خلال ما سمي ثورة 1958 حيث اضطرت الولايات المتحدة التي كانت أجبرت فرنسا وانكلترا على الخروج من القناة أن تتدخل عسكريا لقطع يد عبدالناصر عن لبنان. بعد ذلك تم تغيير الوضع الداخلي في سوريا فخرجت من الوحدة ما دفع بعبد الناصر إلى المغامرة صوب اليمن هذه المرة لابتزاز السعوديين. ولكنه خسر هناك أيضا ولم يعد له سوى فلسطين للتأثير على المصريين لينسوا فترات العز ايام الملكية ويتقبلوا القهر تحت شعارات محاربة الاستعمار وتحرير فلسطين. من هنا قام بالتحضير لحرب 1967 التي خسر فيها وسوريا والأردن كل سيناء وكامل الضفة الغربية والجولان ما أعاد القضية للمربع الأول، لبنان، فشجع ما سمي بالثورة الفلسطينية التي بدأت باقلاق مواطني لبنان الجنوبي وخلقت وضعا غير مستقر، خاصة بعد توقيع لبنان في مصر باشراف عبدالناصر “اتفاقية القاهرة”، التي خرقت بنود الهدنة بين لبنان واسرائيل وفتحت تلك الحروب التي لم تنتهِ بعد.

الجانب الآخر من ثروة لبنان، التي زادت بعد اغلاق قناة السويس بالكامل سنة 1967 بتطوير شركات الترانزيت وزيادة المداخيل للخزينة والشاحنات التي تنقل البضائع برا، كانت من عائدات النفط التي بدأت مع تمديد أنبوب النفط من كركوك إلى حيفا وطرابلس، وبعد قيام دولة اسرائيل اضطرت الشركة إلى توقيف خط حيفا والاكتفاء بفرع طرابلس. وقد كانت شركة أي بي سي من أهم الشركات العاملة في لبنان، وبفضلها اصبحت طرابلس عاصمة لبنان الشمالية يسكنها الكثير من موظفي الشركة وفيها كل المستودعات وخزانات النفط بالاضافة إلى مصفاة تؤمن الوقود للسوق اللبناني وحوالي أربعة آلاف موظف يقبضون رواتب عالية نسبيا. وقد اقامت الشركة مطار القليعات ليكون مهبطا للطائرات التي تنقل قطع الغيار وغيرها وبنت الكثير من المنشآت حول طرابلس وعكار لاقامة الموظفين والمستودعات والمصانع التابعة لها وحتى الملاعب، كما ساهمت بتجهيز الميناء ليصبح واحد من أهم موانئ البترول على ساحل المتوسط والتي تستقبل ناقلات كبيرة نسبيا. وكانت تدفع للبنان مقابل نقل هذا النفط ما يسمى عائدات الترنزيت التي تدخل إلى الخزينة.

من جهة أخرى قامت شركة النفط السعوي أرامكو باقامة أنبوب لنقل البترول من منطقة الظهران شرق السعودية إلى الزهراني جنوب صيدا سنة 1950 حيث كانت هذه الشركة الأميركية السعودية أرامكو كما الاي بي سي تقوم بتوظيف عددا كبيرا من الموظفين اللبنانيين بالاضافة إلى نقل النفط الخام عبر الناقلات البحرية وتكرير قسم منه لصالح السوق المحلي. بالطبع كانت هذه العملية مربحة للبنان في عدد الموظفين المحليين وفي تأمين السوق المحلي بالمشتقات النفطية وفي ما يدفع لصندوق الدولة كعائدات ترانزيت.
عندما بدأت الأحداث في لبنان، بعد تراكم التجاوزات الفلسطينية وبتأثير الجو الاعلامي والدعائي المرافق، وخاصة عمل الأحزاب الغريبة التي كانت تنفث الحقد على الدولة، بدأت المشاكل تزور لبنان وتستقر في بعض أرجائه، ما جعل الشركات الكبرى تعيد حساباتها فتخفف من الاعتماد على لبنان كممر الزامي لنفطها، وبالتالي قررت شركة أي بي سي سنة 1973 اغلاق مكاتبها في طرابلس وتسريح عمالها وموظفيها واعطاء الدولة كل الأبنية التابعة لها. وكانت هذه أول ضربة لمدينة طرابلس. فهل إن ابناء المدينة وزعامتها لم يقدّروا مدى الضرر الذي سيلحق بالمدينة عند اغلاق هذه المؤسسات؟ وهل أن تنامي الحقد الذي بثته الأحزاب مع المنظمات الفلسطينية كان يعمي العيون ويغلق التفكير ليقبل رشيد كرامي وغيره من زعماء المدينة بأن تحرم مدينتهم من كل الثراء الذي تنعم به مقابل ارضاء عرفات وشلته وتنامي الحقد الذي نشره فاروق المقدم وغيره من أبناء طرابلس ضد الدولة؟ ولماذا لم يبادر كرامي مثلا لتأليف حكومة يوم اعترض سلام أثناء حملة الجيش على الفلسطينيين في ايار 1973 ؟ ولو فعل وأنهى الموضوع لكان بالامكان ربما تفادي اغلاق الشركة ابوابها، ولكانت طرابلس لا تزال تنعم بالعزّ بدل أن يفتقد سكانها لأبسط أمورهم المعيشية.

أما في الزهراني وحتى بعد بدء الأحداث في 1975 لم تتوقف الشركة عن استقبال وتصدير نفطها القادم من السعودية ولكن تفاقم الأحداث واعادة فتح قناة السويس في ايار من سنة 1975 وبدء الاعتماد على ناقلات كبرى اوفر من اجرة النقل، جعلت السعودية تغلق الخط سنة 1976 وتبقي الفرع الذي يصل إلى الأردن شغالا للحاجة المحلية للاردن، إلى أن قام الملك حسين بالوقوف مع صدام يوم قضية الكويت ما دفع السعودية لوقف استعمال هذا الخط نهائيا في 1990.

عائدات النفط ورواتب الموظفين وتأمين المحروقات للسوق المحلي في لبنان كانت كلها قائمة وبشكل منظم لم يشعر به المواطنون إلا عندما فقدناه. من هنا أهمية النظر إلى الأمور بالمنظار المنطقي ودراستها بمقياس العقل والربح والخسارة وليس بميزان العواطف التي تثيرها أجهزة مخابرات أحيانا كثيرة لتلعب على أفكار المواطنين وتدفعهم إلى العمل ضد مصالحهم، كما يجري اليوم عندما تتوجه بعض القيادات، التي تعتقد بأنها فاعلة، للتحالف مع نظام الأسد الفاقد لكل شرعية والذي ساهم بتهجير أكثر سكان سوريا وجرب الالتحاق بمنظومة الملالي الإيرانية التي تعادي كل المحيط ونصف الكرة الأرضية وهي غير قادرة على اطعام الايرانيين فكيف بها تسهم باشباع اللبنانيين أو السوريين وغيرهم ممن يدورون في فلكها.
المطلوب من اللبنانيين بدل البحث في مشكلة النظام وتحميله لكل مصائبهم، أن يفقهوا بأنه لا يوجد مشكلة طائفية في لبنان والدليل مطالبتهم هم بالدولة العلمانية، ولكن المشكلة هي في احتلال البلد من قبل عرفات وزمرته حتى 1982 باشراف سوريا، ومن قبل سوريا مباشرة حتى 2005، واليوم من قبل إيران بواسطة عناصر الحرس الثوري الذين يسمون أنفسهم حزبلا. فهلا يتنبه اللبنانيون إلى مصيرهم ويعرفون كيف يتبصرون ويناضلون في سبيل استقلالهم الصحيح، سيما وأن فرصا نادرة تمر اليوم تقدر أن تعيد للبنان عزه بالتحاقه بقطار الحداثة وابتعاده عن طروحات الفجور وفرض هيمنة نظام يستعبد ابناءهم ويجعلهم يعادون المحيط القريب والبعيد بدون سبب سوى طموحاته لاحتلال بلادهم.