خلوة سيدة الجبل الثانية عشرة وكلمات شددت على ضرورة مواجهة الارهاب واستعادة دور المسيحيين الحقيقي

286

خلوة سيدة الجبل الثانية عشرة وكلمات شددت على ضرورة مواجهة الارهاب واستعادة دور المسيحيين الحقيقي
الأحد 28 شباط 2016

وطنية – عقد “لقاء سيدة الجبل” خلوته الثانية عشرة، قبل ظهر اليوم في دير سيدة الجبل – فتقا، وهي مخصصة للبحث في مسألة “الخيارات المسيحية واللبنانية في ظل أزمة المنطقة”.

وألقى منسق الامانة العامة لقوى 14 آذار النائب السابق فارس سعيد كلمة قال فيها: “نجتمع اليوم في إطار سيدة الجبل من أجل المساهمة في إعادة تحديد الخيارات اللبنانية بوجه عام والمسيحية بوجه خاص، في ظل المتغيرات الهائلة والنوعية التي تفرض نفسها علينا جميعا”. أضاف: “تتطلب هذه المهمة درجة عالية من الرصانة السياسية والوضوح في قراءة الأحداث السياسية والشجاعة في تحديد الخيار. ليست المرة الأولى التي نواجه فيها تحديات مصيرية. وقد تعلمنا من أسلافنا أن منعطفات التاريخ الكبرى، كالتي تحصل اليوم، لا تهادن مجتمعات مفككة ولا كيانات مترددة”. وتابع: “بين العام 1917 و1920 حصلت منعطفات في العالم نلخصها بالتالي:
نهاية السلطنة العثمانية، بداية الإنتداب الفرنسي – البريطاني على المنطقة، وعد بلفور بإنشاء دولة ملجأ لليهود على أرض فلسطين، وقيام الثورة البولشيفية التي مهدت لقسمة العالم إلى معسكرين أيديولوجيين.
وفي ظل تلك المتغيرات الهائلة، تميزت الكنيسة المارونية بالمطالبة بإنشاء دولة لبنان الكبير بشراكة مع المسلمين. هذا الخيار الذي تغلب على خيار آخر لدى بعض المسيحيين والفرنسيين بإنشاء لبنان “وطنا ملجأ لمسيحيي الشرق”، لافتا الى ان أبرز متغيرات اليوم هي التالية في تقديري:
– بلورة نظام عالمي جديد بزعامة الولايات المتحدة يرتكز على نظام اقتصادي ومالي وسياسي وعسكري وقضائي في إطار عولمة متسارعة. كما يعيش العالم اليوم ثورة اتصالات وتواصل غير مسبوقة تجعل منه قرية صغيرة على شبكات التواصل الإجتماعي.
– فشل النظام العربي الذي أعقب مرحلة الإنتدابات الغربية، ثم قيام دولة إسرائيل، في توفير الاستقرار والتنمية المستدامة لمعظم الكيانات الوطنية الناشئة. فقد تميز هذا النظام في كثير من مواقعه بقيام سلطات إستبدادية عسكرية حاربت شعوبها بكفاءة، وحاربت اسرائيل بأشكال ملتبسة، مع احترامنا لتضحيات الجيوش العربية. ولعل الفشل الأكبر يتمثل في عجز الحكومات المتعاقبة عن بلورة أطروحة واضحة لنظام المصلحة العربية المشتركة وسبل تحقيقه، وتاليا لحماية هذا النظام وسط تدافع أنظمة المصالح الإقليمية والدولية المختلفة (النموذج النقيض هو تجربة الإتحاد الأوروبي الحديثة).
– بروز تيارات إسلامية متطرفة، تتراوح ما بين قيام دولة ولاية الفقيه ودولة الخلافة، مع لجوء هذه التيارات إلى عنف متنقل وفائض عن حدود المنطقة العربية، مما شوه صورة المنطقة وساهم في بروز تيار معاد للاسلام في الغرب أو ما يسمى بـ”الإسلاموفوبيا”، وبروز تيار آخر تكلم عنه البابا فرنسيس خلال زيارته إلى تركيا مؤخرا، “الكريستيانوفوبيا” – وهو تيار معاد للمسيحية بوصفها – في نظره – حاضنة للنظام العالمي المعادي لقضايا العرب والمسلمين العادلة، مثل قضية فلسطين وقضية الشعب السوري.
– دخول الإسلام كمكون إجتماعي وسياسي وانتخابي إلى أوروبا، وهو عامل مؤثر على ديموقراطيات الغرب. وقد بدأت معالمه تبرز مع توالي الإعتراف بدولة فلسطين من قبل البرلمانات الأوروبية بهدف تبريد العلاقات مع مسلمي أوروبا. هذا مع قناعة أوروبية متزايدة بأن مفتاح الاستقرار في الشرق الأوسط إنما يكمن في إنجاز “حل الدولتين”، مع رفض لاقتصار الدور الأوروبي على التمويل من دون فعالية سياسية تقريرية في هذا الشأن.
– بروز تيار مدني واعد، مع انتفاضات “الربيع العربي” السلمية، لا سيما في تونس ومصر واليمن، وخلال السنة الأولى من انتفاضة الشعب السوري. وقد تمثل هذا الأمر بدخول قوي لفئتي الشباب والمرأة على الحراك التغييري الإصلاحي. ولئن أصيب الطابع المدني السلمي بانتكاسات خطيرة في سياق ما سمي “الربيع العربي”، إلا أن المكانة المعتبرة التي بات يتمتع بها شعار “الدولة المدنية” في منظومة شعارات الإصلاح، وفي مقابل مفهومي “الدولة الأمنية” و”الدولة الدينية”، تؤشر (هذه المكانة) إلى تطور نوعي بالغ الأهمية.
– محاولة قوى إقليمية غير عربية التحكم بقرار المنطقة: اسرائيل – التي تدعي احتكار الديموقراطية في المنطقة وتحاول أن تكون امتدادا للغرب في أرض الشرق، تركيا – التي تقدم نفسها قوة إقليمية إسلامية قادرة على التفاعل مع العرب وفي الوقت نفسه قادرة على التفاعل مع النظام العالمي الجديد، وايران – التي تمددت بنفوذها حتى وصلت إلى البحر في غزة وبيروت مرورا بعواصم اليمن والعراق وسوريا.
– دخول روسيا بقوة على خط النزاع الاستراتيجي في المنطقة العربية وعليها. ويتميز هذا الدخول في المرحلة الراهنة بكونه محمولا على ائتلاف نزعتين روسيتين: نزعة امبراطورية على مستوى الدولة، تحاول توظيف ما تبقى من نفوذ شرق أوسطي عائد إلى الحقبة السوفياتية ومرحلة الحرب الباردة؛ ونزعة كنسية روسية تشدد على تمايزها عن كنائس الغرب، لا سيما الكاثوليكية، وفي مواجهتها. وإذا كان المشهد الحالي للدخول الروسي يتميز بانحيازه الشديد إلى النظام السوري وإلى “تحالف الأقليات”، مع استخدام الشعار الفضفاض والملتبس (محاربة الإرهاب)، إلا أن فهم الحوافز الروسية في العمق يحمل كثيرا من المراقبين على الاعتقاد بإمكانية التحول التدريجي، وربما الدراماتيكي، في المشهد التحالفي القائم، إنما على قاعدة مصلحية ثابتة وهي “ضرورة أن يحضر الروسي السوق، كي يبيع ويشتري”، خلافا لما حدث في واقعة سقوط النظام الليبي قبل نحو خمس سنوات.
– محاولة المملكة العربية السعودية ومجلس التعاون الخليجي الحفاظ على نظام المصلحة العربية بحيث لا يتحول العالم العربي الى ضواحي قوى اقليمية غير عربية.
– عودة الكلام على مسألة الأقليات في المنطقة. من مسيحيين ويهود وأيزيديين وعلويين ودروز وشيعة وغيرهم، والذين بغالبيتهم ينظرون إلى أحداث المنطقة بعين القلق، ويبحثون عن أشكال مختلفة من الحماية. فهناك من يطرح “تحالف الأقليات” وهناك من حاول استجداء حمايات أجنبية.
– بوادر جدية لعودة ايران إلى حضن النظام الدولي القائم. بيد أن هذه العودة ما تزال ملتبسة وفي بدايتها. فقد استدعت سؤالا أساسيا طرحه معظم المراقبين: هل ستعمل ايران على استثمار عودتها في التنمية الداخلية والسلم الإقليمي، أم في مواصلة زعزعة الاستقرار وسياسة “تصدير الثورة”، ما يعني عمليا مواصلة التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان العربية؟ في المدى المنظور، نعتقد أنها ستعمل في الإتجاهين معا، بحيث تحاول التعامل مع الغرب بوصفها “دولة”، ومع المنطقة العربية بوصفها “ثورة”، بما تحمله هذه الازدواجية من مخاطر عليها وعلى المنطقة في آن معا. وهذه الازدواجية تكاد تفرض نفسها حاليا، نظرا للصراع الجدي القائم بين خطي الدولة والثورة في ايران من جهة، ونظرا لهشاشة التضامن العربي التي تغري التطرف الايراني بمواصلة التدخل في المنطقة العربية من جهة ثانية وفي الوقت نفسه. إن تطوير التضامن العربي، مقترنا بالحكمة وشجاعة المبادرة، من شأنه المساهمة الفعالة في وضع حد لهذه الحالة غير الطبيعية.
– أخيرا، وقد يصح أن تأتي هذه النقطة أولا لاتصالها المباشر بموضوع ندوتنا، ظاهرة العنف الإرهابي المنفلت وغير المسبوق، الذي يجتاح منطقتنا ويفيض عنها. إن هذا العنف الايديولوجي المذهبي المتلبس بالإسلام، وما يقابله من عنف مضاد على القاعدة ذاتها، إنما يتواطآن اليوم عمليا على تجاوز حدود الدول الوطنية القائمة، بل إلغائها، لصالح أجندات بعيدة كل البعد عن نظام المصلحة الوطنية في أي بلد، كما يساهمان، كل على طريقته، في تصيير عدد من الكيانات الوطنية دولا فاشلة”. وختم سعيد: “إذا تسنى لنا اليوم أن نحل مكان البطريرك الحويك، ووقفنا أمام كليمنصو جديد او أحد مهندسي المنطقة، ماذا نقول؟ ماذا نختار؟ وما هي المتغيرات التي تفرض نفسها علينا؟ برأيي إن ما سيقدمه الاستاذ سمير فرنجية، باسم هذه الخلوة، محاولة للاجابة أكثر من جدية، ونحن مدعوون إلى مناقشة أكثر من جدية”.

كيلو
وألقى ميشال كيلو كلمة باسم المعارضة السورية قال فيها:”أرجو أن يكون لقاؤكم ناجحا، وان تترتب عليه النتائج الايجابية التي تتوخونها، في هذه الفترة الانعطافية والعصيبة من تاريخ مسيحيتنا، التي تجد نفسها أمام تحديات صعبة ومخاطر محدقة أسهمت مواقفها في تخلقها، قلما واجهت ما يماثلها خلال عقود كثيرة ماضية، يزيد من صعوبتها. أنه لا يمكن مواجهتها عبر سياسات لطالما اعتمدتها قياداتنا الكنسية، قامت على امساك العصا من منتصفها، بينما نشهد منذ اعوام صراعا ضاريا تعيشه مسيحيتنا، في سوريا وغيرها، مشحونا بالتطرف والتفاقم ولا يحتمل تسويات وحلولا وسطى، يفرض حتى على من يريدون البقاء خارجه مواقف مغايرة لكل ما دأبوا على اتخاذه من مواقف، خشية التعرض لنتائجه الوخيمة، التي لا يمكن تحاشيها في حال انتصر النظام وهزمت الثورة، او انتصرت الثورة وهزم النظام. هناك مشكلة نواجهها اليوم كمسيحيين عرب هي استحالة الوقوف جانبا في صراع مفصلي كالذي نعيشه منذ خمسة اعوام في سورية والمنطقة العربية وجوارها، تتدخل فيه قوى اقليمية ودولية جبارة ومتناقضة المصالح والخطط، وتخوضه وكأنه صراع داخلي نشب ضدها وعلى أراضيها”.أضاف: “مع أنه سبق للمسيحية العربية أن واجهت أوضاعا تشبه وضعنا الحالي، فانها عرفت كيف تتخطاه كل مرة بحكمة آباء الكنيسة، الذين فاضلوا بين اهل حكم يشهرون سلاح التجبر والعنف وبين ضحاياهم الضعفاء، ووجدوا أن من الافضل لكنيستهم ورعيتهم الوقوف مع الآخرين، وأن يدفعوا ثمنا عاجلا هو جزء مما يدفعه بقية الناس ، لكنه يحمل لهم النجاة، بما انه يوحد مصيرهم ومصير اخوتهم المسلمين، شركاؤهم في التاريخ والهوية والمال، الذين يكونون معهم جماعة يمكن لهذه الجهة او تلك تهميشها لبعض الوقت، لكنها سرعان ما تعود الى التاريخ من خلال جهد خارق ومباغت، مثلما يحدث اليوم في سورية، وكيف لا تعود وهي صانعة تاريخها بفصوله الرئيسة، والجهة التي أثبتت دوما انها باقية وان عدوها وخصمها عابر”. وتابع: “مشكلتنا كمسيحيين أن واقعنا الراهن يطرح علينا أسئلة نتهرب من الاجابة عليها، رغم انها تتطلب إجابات تعبر عنها مواقف عملية تتخطى أي كلمات، منها: هل ننتمي إلى مجتمعاتنا، العربية والمسلمة، أم إلى مجتمعات أخرى، وهل نحن ضيوف في بلداننا، وأجراء عند حكامها، أم اننا الجزء الاصيل من شعوبها، الذي يحمل هويتها ولا ينتمي إلى غيرها، وعليه أن يقاسمها مصيرها في السراء والضراء؟. وهل يجوز ان نكون محايدين في الصراع الدائر بين حكوماتنا الفاسدة والاستبدادية، وبين شعوبنا المطالبة بالحرية والعدالة والمساواة ؟. للمسيحية مبادىء تتضمنها مقولتها التاريخية: “المجد لله في العلى وعلى الارض السلام وفي الناس المسرة”. ماذا يبقى من مسيحيتنا، سكتنا على تأله الحكام، الذين نشروا العنف والحرب على الارض ، ولم يتركوا أثرا لمسرة في الناس ؟. لماذا صدقنا أن عنفهم موجه ضد الارهاب ، مع اننا كنا نرى بأعيننا أن ضحاياه من اخوتنا العزل والمسالمين، ولماذا صدقنا أنه يتفق ومبادئنا، التي لطالما انتهكها في مقولاتها الثلاث؟. لماذا لم ندن عنف النظام المتمادي ونطالب بوقفه وبحل مشكلات بلداننا سلميا وحواريا وقانونيا، رغم ان عنفهم كان يودي يوميا بحياة المئات من الابرياء والمسالمين؟”. أضاف: “وهل صدقنا حقا بعد تهجير الملايين وطردهم بالقنابل والصواريخ من بيوتهم ان النظام كان يقاتل أصوليين تسللوا الى صفوف الشعب واندسوا فيها ؟. ألا نرى انه لم يعد هناك شعب، بينما المندسون صاروا ارهابيين وانتشروا في كل شبر من أوطاننا، ألم يسهم صمتنا في وقوع ما حدث ؟. ألم ندرك أن نار العنف ما إن تستعر حتى تحرق كل شيء، وانها تحرق قبل كل شيء حكمة العقل وصفاء الايمان، وأن الحكمة الايمانية تتطلب النضال من اجل اطفائها، وان أي ثمن يقدم من أجل ذلك يكون صغيرا وقابلا للدفع ؟. وهل هناك معنى آخر لصمتنا غير اننا نرفض وحدة المصير مع شعبنا، واننا نعيش بين ظهرانيه دون ان ننتمي اليه، لأننا مسيحيون وهو مسلم، مع انه كان علينا، لو كنا مسيحيين حقا، الدفاع عن حقه في الحياة، لاسباب بينت بعضها في ما سبق من قول، وأضيف الآن سببا اضافيا هو أن قطاعات كبيرة منه تحمل أفكارا تتسم بالتعصب والجهل تجاه الآخر والمختلف ونحن منه؟. وهل أسهم موقفنا في كبح التعصب والجهل، أم فاقمهما وحولهما إلى حاضنة اضافية للارهاب ؟.ألم يستفز موقفنا مواطنينا، المقتول والمهجر والملاحق والمعتقل والمحاصر والمجوع … الخ ، مع ان مسيحيين بلا عدد أو حصر شاركوا في الثورة عند بدايتها ؟. ثم ألم يغر الشباب المسيحي في ما بعد بالالتحاق بقتلة النظام بحجة قتال الارهاب وحماية الاقليات؟. بالمناسبة ، منذ متى كان المسيحيون أقلية في بلدانهم، وهل يجوز لنا ان يحولوا أنفسهم الى أقلية، الى أغراب في محيط لا يشبهونه ولا يشبههم ، يحميهم منه قتلة يحتمون بهم ويستخدمونهم كدروع بشرية ضد شعب يفترض انهم ينتمون اليه؟”.وقال: “هل يصح أن يسهم دورنا في التغطية على إبادة الملايين من إخوتنا المطالبين بالحرية؟. وهل تناسينا ما قاله هيغل، وهو “ان للمسيحية منجزا تاريخيا غير مسبوق هو ادخال مبدأ الحرية إلى التاريخ ؟”. وختم: “هل يتفق مع ايماننا المسيحي دعم نظم تحكمنا، مسلمين ومسيحيين ، بالحديد والنار، تبتزنا دينيا وايمانيا بتخويفنا من إرهاب لا تحمينا منه، تعاونت معه كلما تطلبت مصالحها أن تتعاون ، والتقت معه دوما في منتصف الطريق، ليساعدها على تحويل حراك سلمي يطالب بالحرية إلى اقتتال طائفي آثم ، اذا لم تقاومه مسيحيتنا تحولت هي ايضا من دين للانسان والحرية إلى مذهب لا علاقة له بالفادي يسوع المسيح، يسكت عن قتل البشر، أو يباركه.تقف مسيحيتنا على مفترق طرق ، لا أبالغ اذا قلت إنها لن تبقى بعده ما كانت عليه قبله، وأن مصيرها بيدها، ويحتم عليها التعامل مع نفسها ومبادئها بأعلى قدر من روح المسؤولية الايمانية والانسانية، وعدم التخلي عن مبادئها من أجل وقتيات سياسية عابرة ، تتصل بصراعات لا مبادىء فيها ولا انسانية ولا ضمير ولا دين “.

متري
وكانت كلمة للوزير السابق طارق متري قال فيها: “بعيدا عن الجنوح الى التفجع الاقلوي العقيم، وان لم يكن مستغربا، والحنين الى زمن يعاد اختراعه او الاكتفاء بترداد الخطابة الوطنية، تضيق المسافة بين ما يبوح به البعض داخل الجماعة وما يعلنه في الحياة العامة. لذلك ابدأ في هذه المداخلة من محاذرة اللغة المزدوجة. فلا يمكن ان نتحدث اليوم في مشكلاتنا وقضايانا المجتمعية وكأن شريكنا في المواطنة لا يسمع. ولم يعد مقبولا ان نقول في حضوره ما نميل الى قوله في غيابه”. وتابع: “وتجدنا اليوم، بفعل مواقف واقوال وممارسات مستجدة، امام محاولة لتشكيل صورة للذات الجمعية لدى المسيحيين، تختلف عن تلك التي انطبعت في الاذهان منذ بداية ما اصطلحنا على تسميته عصر النهضة، أي أواخر القرن التاسع عشر. والمسألة تتعدى الصورة الى وعي الذات. وقد رسم عدد كبير من المسيحيين ملامح دعوتهم التاريخية ودورهم على امتداد زمن القرن العشرين الطويل، وبطرق متنوعة على صعيدي الفكر والممارسة. وقد تبدو لنا القطيعة مع وعي الذات المذكور متعذرة، لأنها بمثابة عودة مستحيلة الى ما قبل عصر النهضة، أيا كان من امر التجارب المرة والمخاوف المبررة التي تذهب بالبعض الى ما يشبه “واقعية الخيبة”. وهي غير مسوغة، لا من باب الأمانة لما كنا عليه او تطلعنا اليه فحسب، بل لان ملامح الدعوة والدور كانتا محط اهتمام وتفكر وحوار لعقود طويلة وجرى اخصابها بالروح الانجيلية ومعنى الانتماء الكنسي”. واردف متري: “صحيح ان ترداد كلام الهوية هذا، ومعه سياسات الهوية، بمثابة تيار جارف، وان لحين، وان الوقوف في طريقه يتطلب شجاعة معنوية كبيرة. وصحيح ايضا انه ليس من حقنا ان نلح في طلبها ممن نزلت بهم الويلات او تحكم بهم الخوف فأحاطت الغشاوة بالمرآة التي ينظرون فيها الى أنفسهم والى جماعهم. غير ان التذكير المستمر بمعطى بسيط من شأنه ان يضع الجنوح الى توكيد الهوية في نصابه وهو انه لكل منا هويات عدة وان الانسان، في مفهومنا المسيحي، ليس جزءا من شعب او ثقافة او جماعة، بل هذه الانتماءات ابعاد من شخصيته الإنسانية. والفكرة هذه، عن تعدد الهويات، ليست مجرد نظرية حديثة، فهي اصيلة في المسيحية منذ الرسالة الى ديوغنيطوس في القرن الثاني والتي يجري الاستشهاد بها كثيرا في هذه الأيام. فهي تقول “ان لا لباس يميز المسيحيين عن سائر الناس ولا يقطنون مدنا خاصة بهم ولا يتفردون بلهجة. يجارون عادات البلاد في المأكل والملبس ونمط الحياة” في حقيقة الامر، تحررنا فكرة الحضور المسيحي من اسر الهوية الواحدة. فالاهتمام بالحضور يصرفنا عن الانكفاء والتقوقع ويعصمنا من تحويل الجماعة الى وثن يضاف الى الاوثان الكثيرة التي علمنا التاريخ انها عطشى للدم”.
وسأل: “هل باستطاعتنا مقاربة الصعوبات التي ارخت بثقلها على المسيحيين من زاوية الحضور المسيحي بدل النظر اليها وفق سياسات الهوية؟فاليوم، يتصل، بل يختلط، الحديث عن الحاضر والمستقبل بقراءة الماضي. وليس مرد ذلك الى ان اليوم وغدا يشبهان الامس جملة ولو اختلفا عنه تفصيلا، بل لأن العودة الى الماضي، بعين المؤرخ او سواه، تحكمها، وان بنصيب متفاوت، هواجس الحاضر وهموم المستقبل. فلا يجازف أحد بالاستشراف الا بعد تدبر امره مع التاريخ. ولعل هذا الازدواج يظهر بجلاء حين يتعلق الامر بجماعة تضع هويتها ومصيرها تحت السؤال. وتظهر، باشكال مختلفة مواقف يمكن اختصارها باثنتين: يطيب الاولى خاطر القلقين على الوجود المسيحي فيما ينذر الثاني بكارثة اندثارهم. وترى هذا المواقف المستقبل بعين الذكرى. والتي تنتمي الى الصنف الأول ترى الغد بصورة الامس ما خلا بعض الفروقات التفصيلية. وتؤكد ان بقاء المسيحيين في الشرق العربي وحفاظهم على قدر ما من الحيوية واستعادتهم إياها، رغم تقلبات التاريخ ومنها العاتية، دليل، بحد ذاته، على إمكانية استمرارهم. اما الفئة الثانية فتتوسل التاريخ في قراءة تغلق على المسيحيين في ثنائية الأغلبية المتكاثرة والأقلية المتناقصة لتصل الى نعي مستعجل لهم، آسف في الغالب او مشفق عليهم، وهو في بعض الحالات شامت بهم. وكثيرا ما نجد أنفسنا امام هاتين المقاربتين المتعارضتين تفسر كل منهما، على طريقتها، الأرقام والوقائع والاحداث في سياق أوسع مدى واطول زمنا من الذين تتحكم فيه حسابات السياسة المباشرة وخصوصيات البلدان وموازين القوى فيها. بالطبع، لا تغيب الواحدة منهما عن كل ما يقال في امر المسيحيين وتراجع ادوارهم واستبعادهم وانكفائهم، ولا تخفى الأخرى على الذين يتحدثون، في المقابل، من باب طمأنتهم واستدعاء مشاركتهم، وتعزيز تضامنهم مع مواطنيهم وولائهم لبلدانهم في وجه أعداء الخارج من الذين لا يزالون يحسبون حماة للأقليات المقهورة”.
ولفت الى انه “لا يختلف اثنان ان المسيحيين امتحنوا في انتمائهم الوطني وفي قدرتهم على إعادة بناء الوحدة المتصدعة بين أبناء الوطن الواحد وسعيهم الى قيام الدولة الواحدة، دولة المساواة في المواطنة. وعانوا كغيرهم من تراجع فكرتي الدولة والمواطنة. وتضرروا من إعاقة تحقّقهما، اكان ذلك بالاستئثار او التسلط ام بغلبة منطق القوة على منطق الحق والتهديد والتخويف وتجديد الأحقاد القديمة او اختراع احقاد جديدة. وشعر الكثيرون منهم، بظل المشكلات المعيشية المتراكمة وأزمة النظام السياسي والمجتمعي، بازدياد هامشيتهم وتراجع إمكانية مشاركتهم في صنع مصائرهم، فضلا عن المصير الوطني. ولكنهم كثيرا ما سلكوا مسالك متعددة في العمل السياسي، ولم ينضووا مرة في تنظيم سياسي واحد او اتبعوا زعيما بعينه. وظهرت في صفوفهم نخب سياسية متنوعة. هذا ان لم يميلوا الى الاحجام عنه. فشاركت فئة منهم في الحياة العامة مشاركة فاعلة، في ما عزفت فئة أخرى عنها. واقبلت مجموعات من الشباب على طلب الوظائف العامة في ما انصرفت مجموعات أكبر الى العمل في القطاع الخاص. وأفادت فئة ثالثة من فرص للتعلم والترقي المهني في بلدان قريبة وبعيدة، وبخاصة عند اضطراب الأوضاع الأمنية وازدياد القلق على المستقبل وتأزم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية”.وأضاف متري: “أيا كان من امر الاخفاقات والمعاناة التي عرفها المسيحيون وتراجع ادوارهم، لا سيما في السياسة والثقافة، وتعرضهم لضغوط او مضايقات، فان ثنائية الأقلية المنكفئة والاغلبية الطاغية لم تغلق عليهم ولم تطبع مواقف مجموع المسلمين حيالهم. ذلك ان مشكلات المسيحيين كانت بمعظمها تعبيرا عن مشكلات المجتمعات العربية كلها، ما يتصل منها بالمساواة والمشاركة السياسية او ما يختص بالتنمية والنهوض الثقافي. ولم يغب ذلك عن عدد كبير من الرعاة والنخب الدينية والثقافية، كما تبينه الكتابات والوثائق والنداءات، فضلا عن ممارسات مؤسساتهم التربوية والاجتماعية وغيرها من الهيئات التي هي بمثابة أدوات في خدمة الشهادة المسيحية او الحضور المسيحي. وتكاد لا تجد نصا مسيحيا مرجعيا في العقود الخمسة الأخيرة يضع ما صار يدعى هواجس الأقلية في تناقض مع توجهات الأغلبية.
ولم يؤد تزايد القلق عند فئات منهم، أفصحوا عنه جهارا ام كان مدار همس بينهم، الى انزلاق المسؤولين الروحيين الى التخويف. بل جاء الاهتمام به في صورة دعوة الى مصارحة لا تضع المسلمين والمسيحيين في صفين متقابلين. ولم يتردد هؤلاء المسؤولين في سلوك الطريق، الضيق احيانا، بين التهويل بحراجة أوضاع المسيحيين وبين الاستهانة بها والتأكيد على الصفة العابرة لتلك الأوضاع المتسببة بالقلق. وبوجه العموم خلت لغتهم من الحدة، مجروحة كانت ام جارحة، وان لم يضربوا صفحا عن الازمات التي “تمتحن وجود المسيحيين وشهادتهم”. واجتنبوا التفسيرات التآمرية عن افراغ العالم العربي من مسيحييه التي، الى جانب خفتها، تدفع المنقادين وراءها الى العزوف واجترار مرارة الخيبة”.وشدد على “ان هذه المواقف، وقبلها مساهمات المسيحيين في حركة النهضة العربية أوائل القرن الماضي، لم تفقد معناها، بل تستحق ان تستعاد وتتجدد في زمن التغيير العربي غير المتوقع والذي لما تعرف مآلاته. فلا يقع المسيحيون، او بالأحرى يوقعون، في اقلوية معطلة لدورهم في الاسهام بهذا التغيير. ولا يحسبون، او يحسبون أنفسهم، كتلة متجانسة ومتراصة بوجه كتلة واحدة ومتماسكة. فالمسيحيون مواطنون متنوعون، وليسوا جمهورا يسير وراء زعيم او قائد. والمسلمون متعددو الاتجاهات وليسوا بمعظمهم إسلاميين، والاسلاميون منهم ليسوا أصحاب موقف واحد ولا يمكن وصفهم جملة بالتشدد دون التمييز بين من يرفض العنف، عنف القتل والخطف والتكفير، ومن يتوسله. والتمييز هذا أحد عناصر الوقاية من الجنوح المستعجل الى جر المسيحيين صوب التوجس حيال نوايا الأكثرية الدينية او العداء لها. غير ان عنصر الوقاية الأول من هذا الجنوح المدمر يبقى الموقف الأخلاقي. ويعني هذا الموقف الا يجد المسيحيون أنفسهم في غربة عن التوق الى الحرية، ومتساهلين مع العنف، عنف الاستبداد وعنف الإرهاب، عنف التخوين والتخويف، وعنف الإلغاء والاقصاء، وساكتين عن الإساءة الى كرامة الشخص الإنساني، أيا كان انتماؤه”. واضاف: “بالطبع لا يجيب الموقف الأخلاقي على كل التساؤلات القلقة عند المسيحيين. الا انه يحفظ أصحابه من الوقوع فريسة الارعاب المسيس، الذي يضعف قدرة المسيحيين على المشاركة في صياغة مشروع للمستقبل ويجازف بتعطيل ادوارهم باسم الدفاع عنهم. يفترض منطق الحضور المسيحي قدرة على المخاطبة، مخاطبة في العمق لقلب الشعب الذي ينتمي اليه المسيحيون. ويبدأ ذلك من المشاركة في آلامه مشاركة كاملة، اي الصبر كما الشجاعة. وتكون الكنيسة، “لا كنيسة ردود الفعل والخصوصيات التي تحافظ عليها في وجود لا يهدف الا الى البقاء، بل كنيسة منتشرة كالملح، تبحث عن هويتها في رسالتها” (اغناطيوس الرابع، باريس 1984)”.
واردف متري: “تستدعي هذه المخاطبة، فضلا عن المشاركة، مجموعة ملاحظات هي، في الاعلم الاغلب، بديهية. غير ان بديهيتها لا تعفينا من تكرارها، في ظروف الاضطراب والتشويش الحاضرة.
اولا: ان الخوف، ومعه التخويف، وان كان امرا طبيعيا بظل الاضطرابات، الا انه إذا صار معيارا اولا للحكم على الأوضاع والاحتمالات، او استثمر في السياسة القصيرة النظر، يستعجل تحقيق ما نخافه، ويلهينا عن دعوة الانجيل.
ثانيا: ليس من تناقض مطلق بين ما يسمى هواجس الأقلية وهموم الأغلبية. والنظرة الثنائية التي توحي بالانقسام العامودي الذي لا رجعة فيه، ورغم تزايد الممارسات التي تؤيدها، ليست المفتاح الوحيد لفهم الواقع. وهي بطبيعة الحال، لا توفر لنا الأدوات اللازمة لتغييره، اللهم الا الانسحاب والهجرة، الفعلية او الرمزية.
ثالثا: لا يقاس الحضور من منظوري الضعف والقوة. فليس هو مجرد انعكاس لموازين القوى بل ينقلنا الى مستوى آخر بالكلية عنيت به اقدار المنتمين الى “الأقلية” ان يمارسوا تأثيرا على المجتمع كله. ولعل الثقافة هي المجال الأرحب لهذا التأثير. ولا اقصد هنا الفن والادب والموسيقى فحسب بل مجال المعرفة والقيم الثقافية والأخلاقية.
رابعا: يتطلب الانخراط في الحياة العامة، والاحجام عن الرد على التهميش بتهميش الذات، عملية ارادية واعية من قبل القيادات والنخب. ويقتضي الحث على تلك المشاركة، حسب منطق الحضور، المؤامة بين السعي وراء الصالح العام وصالح الجماعة الصغرى. ومن شأن التشديد على المشاركة في الحياة العامة لا من باب حقوق المواطنة فحسب بل انطلاقا من واجباتها، ان يردم الهوة بين مطالب الطائفة واحتياجات الجماعة الوطنية.
خامسا: تقتضي الصدقية، وهي بطبيعة الحال شرط من شروط الحضور المسيحي، تجنب الوقوع في ازدواجية المعايير عند اتخاذ المواقف الأخلاقية، اكان ذلك في الإدانة او في الدفاع عن حقوق الناس، افرادا او جماعات. ولا يبرر التمييز النازل بالمسيحيين، تمييزا مضادا، سافرا او مستترا، فعليا او معنويا، فمن ناقل الالتزام بالأخلاق المسيحية لا يحده حدود الجماعة المسيحية.
سادسا: لا يفيد الجماعة المسيحية بشيء افتعال رص الصفوف وتوحيد الزعامة والإصرار عليها. فالتنوع سمة طبيعية من سمات الحياة السياسية والثقافية. فان التكتل وراء قائد ملهم او قوي، يعرض مستقبل الجماعة للخطر ويحملها تبعات اختيارات واخطاء ليست كلها مسؤولة عنها.
سابعا: لا يعفي الاعتراف بالتنوع، وهو حقيقة لا مفر منها، من ضرورة التشاور الذي يحول دون التنابذ باسم الاختلاف. أكثر من ذلك، ان الحوار والتلاقي يجعل التنوع مصدرا للاغتناء المتبادل مما يتيح استجماع قدرات الجميع واستنهاضها في عدد من مجالات الخدمة العامة”.

المعشر
وتحدث الوزير الاردني السابق مروان المعشر فقال: “تحية عطرة ابعثها لكم من الاردن، حيث اشارككم والكثيرون تطلعاتكم من حيث الحاجة لتجدد مسيحي، بل تجدد عربي يعمل من اجل مجتمعات عمادها المواطنة المتساوية الحاضنة للتنوع بكافة اشكاله الدينية والسياسية والثقافية والجندرية. في العام 2002، أصدرت الأمم المتحدة تقريرا حول التنمية البشرية في العالم العربي، أحدث ضجة هائلة. كان التقرير صفارة إنذار أولى للمنطقة، من ناحية كونه أول محاولة فكرية سلمية من قبل باحثين ومفكرين عرب، لتعريف التحديات الرئيسة التي تواجه العالم العربي، وقد تم تلخيصها آنذاك في ثلاث فجوات: فجوة المعرفة، وفجوة الحريات السياسية، وفجوة النظرة نحو المرأة ومقاومة تمكينها”. وأضاف: “لم تول الحكومات العربية صفارة الإنذار الفكرية هذه أي اهتمام يذكر. ووضع التقرير على الرف، وربما لم يقرأه أغلب المسؤولين العرب. وبعد حوالي عقد، جاءت الثورات العربية ليقول لسان حالها للحكومات العربية: إن أردتم تجاهل أوضاع الوطن العربي وعدم حل مشاكله السياسية والاقتصادية والمجتمعية، فدعونا نمسك الأمور بأيدينا ونحاول حلها. كانت هذه صفارة الإنذار الثانية، وقد انتقلت من حالة فكرية إلى ثورات شعبية بدأت سلميا، في مصر وتونس وسوريا وغيرها. كان يمكن للحكومات أن تتعظ وتفهم أن تجاهلها للمشاكل لا يعني انتفاءها أو حلها، لكنها لم تفعل ذلك. فمنها من حاول فرض الأمن بالقوة وعلى حساب شعبه، كالنظام السوري، ومنها من أغدق الأموال في محاولة لعكس التحول التاريخي الذي تشهده المنطقة، عل البحبوحة الاقتصادية تغطي على حاجة المواطن للشعور بسيادة القانون على الجميع. وبعض ثالث استخدم الإصلاح اللفظي أو التجميلي وسيلة لتحويل النظر عما ينبغي فعله بوضع المنطقة على طريق الاستقرار والازدهار الحقيقيين والمستدامي. في كل الأحوال، لم تتعظ أي حكومة من الصفارة الثانية التي جاءت أقوى من الأولى، ولم تنتج أي إعادة نظر حقيقية للسياسات الاقتصادية والسياسية والمجتمعية في أي من الدول التي لم يطلها التغيير. صفارة الإنذار الثالثة لم تنتظر عقدا كاملا، ولم تكن حتى سلمية. جاءت هذه المرة على شكل قوى همجية عنيفة تكفيرية، لا تمت للانسانية بصلة، تقطع الرؤوس من دون أن يرف لها جفن، وتكفر بالسلطة والعالم وكل شيء. ومحاربة هذه القوى عسكريا واجب علينا، فليس هناك مجال آخر للتعاطي مع من لا يريد التعاطي مع أحد. لكن يبقى السؤال عن “الدواعش” الذين سينبتون لاحقا بعد دحر “داعش” الحالي عسكريا، إن بقينا نعتقد أن القوة وحدها تستطيع حل التحديات كافة، من دون النظر في الأسباب التي تؤدي إلى ظهور “الدواعش” الذين اتوا من عقر دارنا”. وتابع: “ان احدى نتائج الثورات العربية الماثلة أمامنا بكل وضوح تآكل الدولة القطرية في اجزاء عديدة من الوطن العربي. كيف يمكن لنا اليوم ان نتحدث عن استمرار الدولة القطرية في سوريا او ليبيا او اليمن؟ حتى دول كالعراق ولبنان تواجه أزمات حكم باتت فيها غير قادرة على السيطرة على كافة أراضيها. وفي حين كانت الدول القطرية سابقا تتوق للاندماج في أوعية اكبر لتحقيق حلم القومية العربية بوطن عربي موحد، بتنا نشهد اليوم بروز لاعبين فاعلين ما دون الدولة كداعش والمليشيات الشيعية في العراق وحتى حزب الله في لبنان باتت تهدد ليس مفهوم الدولة القطرية وحده، ولكن ايضا مفهوم الهوية الوطنية ومفهوم المواطنة. لا يأخذنا التحليل طويلا لإدراك ان العديد من الدول القطرية في الوطن العربي كانت أوعية شبه فارغة، لانها بنيت على أسس ضعيفة، فبدلا من بناء المؤسسات الديمقراطية ومفاهيم حديثة للهويات الوطنية والمواطنة، أستعيض عن ذلك بانظمة فرضت الاستقرار الأمني بالقوة وبشكل مصطنع، او اعتمدت المحاصصات الطائفية التي لا تنمي شعورا حقيقيا بالمواطنة، وعندما وقعت الواقعة، لم تجد هذه الدول مؤسسات تحميها ولا مواطنين يدينوا بالولاء لدولهم وليس لطوائفهم او هوياتهم الفرعية، فشهدت انهيارا سريعا لأبنية هشة لم تحتمل الهزات التي اعترت بلادها”.
وسأل المعشر: “هل هناك ابلغ من هذه الدروس ان أردنا ان نبدأ بداية جديدة؟ هل نحتاج الى هزات اكبر قبل ان ندرك ان الاستقرار الحقيقي لا يعتمد على الأمن وحده، وإنما على التنمية السياسية والاقتصادية ايضا وعلى مفهوم حداثي للهوية الوطنية الجامعة التي تسمو على أية هوية فرعية، وعلى مفهوم حداثي ايضا للمواطنة تشعر من خلاله كافة مكونات المجتمع بان حقوقهم محفوظة لا يتغول عليها احد، وعلى بناء متين لمؤسسات الدولة يستطيع الصمود امام كل الهزات لانه سيجد مواطنين وليس اتباع مستعدون للوقوف يدا واحدة ضد الاخطار الخارجية بدلا من انشغالهم في صراعاتهم الداخلية؟”.وقال: “بعد أربع سنوات من بدء الثورات العربية، ما تزال أغلب الدول العربية، سواء التي مرت بتغيرات سياسية وتلك التي لم تمر، أقدر على تعريف نفسها بما هي ضده، أكثر بكثير مما هي معه. وبالتالي، شهدنا ونشهد تحالفات يوحدها التهديد من الآخر، سواء كان هذا الآخر هو تنظيم “داعش” في سوريا والعراق، أو الخطر الإيراني التوسعي، أو في زمن ليس ببعيد تكاتف قوى “14 آذار” في لبنان بسبب الهيمنة السورية. بمعنى آخر، فإن قوى “الاعتدال” تعرف نفسها فقط بوقوفها ضد قوى “التطرف”. لكن حين يتعلق الموضوع بالتعريف الإيجابي لهذه القوى، بمعنى مشروعها التفصيلي لملامح الدولة المدنية الحديثة التي تحاكي هموم الناس اليومية من النواحي السياسية والاقتصادية والمجتمعية، فإنه لا توجد مجموعة عربية، منفردة أو مجتمعة، لديها مشروع لمستقبل تنويري مصحوب بإرادة سياسية وخطوات عملية لتنفيذه. وبالتالي، حين يتعلق الموضوع بالنظرة الإيجابية المنفتحة، يصبح مفهوم الاعتدال لدى هذه الدول قاصرا وغير مقنع.قوى الاعتدال في الوطن العربي، ان ارادت ان تتمتع بشعبية ومصداقية عريضة، بحاجة لمشروع تنويري تعددي مدني ديموقراطي يحاكي حاجة الناس للحكم الرشيد وشعورهم انهم شركاء في صناعة القرار كما يحاكي حاجاتهم الاقتصادية ويرفع من مستوى معيشتهم، ومن ثم يشعرهم انهم مواطنون كاملون دون محاباة او تمييز. هذا المشروع ان وجد بالتوازي مع الارادة السياسية لتنفيذه وحده الكفيل بالتصدي للافكار والممارسات الداعشية في عالمنا العربي، فبينما الوقوف امام الاخطار الامنية ضروري، فانه وحده لا يصنع مستقبلا مشرقا دون مشروع حداثي لبناء الدولة العصرية”.واردف: “لقد حان الوقت كي تسمى الأشياء بمسمياتها. في غياب مفهوم حداثي للمواطنة، يسهل الحديث عن طوائف واكثرية واقليات، وتعظم الهوية الطائفية الفرعية على تلك الوطنية الجامعة، وينقسم الناس الى “نحن” و”هم”، فتصبح نحن رديفة للصديق، وهم رديفة للعدو، فيما يفترض ان يكون الاثنان شركاء في وطن واحد.لا مجال للحديث الجدي عن تطوير مفهوم حداثي للهوية العربية دون ربطه بالمواطنة الحاضنة، لا المستوعبة فقط، للتنوع. حين يطرح الموضوع في إطار المواطنة المتساوية للجميع المحتفية بتنوع المجتمع، تصبح الخلافات المذهبية ليست ثانوية فقط، وإنما ايضا مصدر قوة لمجتمع تعددي يحتضن كافة الاراء والمذاهب، ويعامل الجميع على أساس انهم مواطنون ومواطنات متساوو الحقوق بغض النظر عن أعدادهم او مذاهبهم.لم يكن العالم العربي بحاجة اكثر من اليوم لعقود اجتماعية جديدة، يتم قوننتها عن طريق دساتير جديدة تعترف بالمواطنة المتساوية الحاضنة للتنوع بغض النظر عن طوائف او أصول او آراء الناس، رجالا و نساء، فعلا لا قولا، فتعطي الحماية المطلوبة للمجتمع من دوله، بدلا من ان يطلب هذه الحماية من الخارج او يسلح البعض نفسه ضد اخوانه وأخواته”.وختم المعشر: “من هنا تنبع اهمية لقائكم اليوم، خاصة ان وضع المسيحيون والمسلمون التنويريون العرب ايديهم بعضا ببعض من اجل بلورة مشروع دولة حداثي تنويري مدني ديمقراطي تعددي يضمن لكافة مكونات المجتمع حقوقها، فلا يتغول عليها احد، مشروع يضمن للجيل الجديد العيش الكريم للجميع ضمن مناخ ينظر للتعددية على انها مصدر قوة لا ضعف. وحدها الدولة المدنية الديمقراطية هي حامية الاخر، لا مكان فيها للعنصرية و لا متسع للاقصاء”.

فرنجية
وختاما كانت كلمة لعضو الامانة العامة لقوى 14 آذار سمير فرنجية قال فيها: “يعيش لبنان تحت سيف التهديد باندلاع حرب أهلية جديدة، يتقابل فيها هذه المرة مسلمون سنة ومسلمون شيعة، ليس في لبنان وحسب، وإنما على امتداد المنطقة العربية. هذه الحرب، إن وقعت، ستعني نهاية لبنان، وطنا ودولة ونموذجا للعيش المشترك. من مسؤولياتنا الكبرى كمسيحيين أن لا نوفر جهدا لمنع هذا السقوط إلى الجحيم، وللمساهمة الفعالة في بناء سلام لبنان. لماذا نحن مدعوون اليوم كمسيحيين للنهوض بهذا الواجب، ولخوض معركته التي سيكون لنتيجتها تأثير حاسم على مستقبل لبنان؟
لأن الحرب التي تطل برأسها إنما تعنينا بمقدار ما تعني المسلمين أنفسهم. فنحن – كما أشار بطاركة الشرق الكاثوليك – نشكل جزءا عضويا من الهوية الثقافية لمسلمي الشرق، مثلما يشكل مسلمو الشرق جزءا عضويا من الهوية الثقافية للمسيحيين. وعليه فنحن مسؤولون عن بعضنا بعضا أمام الله وأمام التاريخ”. وسأل: “هل نستطيع خوض هذه المعركة؟ نعم، وبالتأكيد. نستطيع خوض هذه المعركة لأننا لعبنا تاريخيا دورا طليعيا في إعلاء فكرة العيش المشترك، وذلك بمساهمتنا الفعالة، منذ القرن التاسع عشر، في حركة “النهضة العربية”، ثم برفضنا عام 1920 فكرة “الوطن المسيحي”، وأخيرا برفضنا عام 1943 استمرار الانتداب الفرنسي وإصرارنا على الاستقلال الناجز.نستطيع خوض هذه المعركة لأننا كنا في طليعة المبادرين، غداة حرب 1975-1990، إلى العمل لاستعادة العيش اللبناني المشترك، الاسلامي – المسيحي، وذلك بإقدامنا على المراجعة و”تنقية الذاكرة” وفقا لتعاليم الإرشاد الرسولي (1997). نستطيع خوض هذه المعركة لأننا كنا، مع نداء المطارنة الموارنة (أيلول 2000)، أول المبادرين في العالم العربي لخوض معركة الحرية في وجه أنظمة الاستبداد، ممهدين بذلك الطريق نحو ثورة الأرز (2005) التي شكلت أولى تباشير “الربيع العربي” (2011). نستطيع خوض هذه المعركة لأننا كنا، مع “المجمع البطريركي الماروني” (2006)، أول الداعين في هذا العالم العربي إلى إقامة “الدولة المدنية” لإرساء دعائم العيش المشترك على شروط الدولة الجامعة وليس على شروط جماعة طائفية”. واضاف: “هذا الدور التاريخي المشهود يتعرض اليوم للطعن في جدارته ومصداقيته، بفعل قوى اختزلت السياسة في مجرد الصراع على السلطة، الأمر الذي دفع البعض الى الانحياز إلى المحور السوري – الايراني، بعدما خاضوا معركة الاستقلال ضد هذا المحور، والى دعم ديكتاتورية النظام السوري بذريعة “حماية الأقليات”، وصولا الى تعطيل انتخاب رئيس جديد للجمهورية – كل ذلك يبين فداحة الانكفاء الذي أصابنا منذ العام 2005. لوضع حد لهذا الانحدار وما يشكله من تهديد لمستقبلنا في لبنان والمنطقة، علينا العودة إلى رسالتنا التاريخية التي صنعت خصوصيتنا في هذه المنطقة من العالم. فلقد ناضلنا وما زلنا، منذ نحو قرن، دفاعا عن فكرة العيش معا، مسيحيين ومسلمين، متساوين في حقوقنا والواجبات، ومتنوعين في انتماءاتنا الدينية”. واردف: “لقد نجحنا في خلق نموذج لبناني للعيش المشترك، هو اليوم محط أنظار العقول الرشيدة والإرادات الطيبة في العالم، بلحاظ موجة العنف التي تجتاح منطقتنا والآخذة في التمدد نحو أوروبا. نجحنا بفضل استثنائية تجربتنا التي أتاحت لبلدنا أن يكون الوحيد في العالم حيث يتشارك مسيحيون ومسلمون – بصفتيهم هاتين – في إدارة دولة واحدة، وأن يكون الوحيد في العالم الإسلامي حيث يتشارك سنة وشيعة – بصفتيهم هاتين – في إدارة دولة واحدة”.
وختم فرنجية: “على قاعدة ما تقدم، فإننا نهيب بالمسيحيين اللبنانيين أن ينهضوا بمسؤولياتهم، وذلك من خلال:
أولا – العودة إلى جوهر الرسالة الانجيلية التي تعلم الناس كيف يعيشون معا بسلام، وتنهاهم عن استخدام الدين لاصطناع هويات مغلقة سرعان ما تتحول كما بيَّنت تجربة الحرب إلى هويات قاتلة.
ثانيا – العمل على تجاوز الحدود الطائفية المرسومة لتوحيد الجهود بين المعتدلين في كل الطوائف بمواجهة المتطرفين في كل الطوائف وخلق شبكة آمان تحمي لبنان من تداعيات الصراعات الجارية في المنطقة.
ثالثا – توثيق علاقات المودة والتفاهم مع مسيحيي العالم العربي، والتواصل مع المسلمين الذين يناهضون التطرف واللاتسامح، لنفكر معا وجميعا في ما من شأنه أن يؤسس لقيام مشرق عربي جديد، “مشرق العيش معا”، حيث التنوع الديني والإثني الفذ يشكل مصدر غنى لكل منا ولجميعنا.
رابعا – التواصل مع قوى الاعتدال في أوروبا، التي تناهض الاسلاموفوبيا وكل أشكال التمييز ضد الآخر المختلف، والعمل معها على اشتقاق رؤية جديدة إلى حوض المتوسط، بحيث يغدو “متوسط العيش معا”، بعد أن تحول هذا البحر التواصلي بامتياز في تاريخه العريق، الى “بحر التصدعات”، تحف به صراعات كبرى حمالة شقاقات دينية وتصفيات عرقية وقومية لم يعد أحد في منأى عنها”.