السفير د. هشام حمدان: العدالة في مهبّ السياسة … لدينا أفعل قوة يمكن لشعب في الشرق الأوسط أن يملكه، إلا وهو قوة الحضور المسيحي في لبنان.ة

103

العدالة في مهبّ السياسة… لدينا أفعل قوة يمكن لشعب في الشرق الأوسط أن يملكه، إلا وهو قوة الحضور المسيحي في لبنان.

السفير د. هشام حمدان/23 نيسان/2021

نعيد مناشدة بطريرك لبنان، ليلعب دوره. سيادة لبنان والعدالة فيه، أمانة في عنقكم. أنتم لستم مؤتمنون على التاريخ المسيحي في هذا الوطن فحسب، بل على التاريخ المسيحي في الشرق برمته. نريدكم أن ترفعوا صوتنا المطالب بالعدالة في الأمم المتحدة فرجاء كفى ترددا.

****
أثارت القاضية غادة عون، خلال الأسبوع المنصرم، ضجة عارمة في الوسط العام اللبناني. ولا شك أن صداه تردد في الأروقة الدبلوماسيّة الدوليّة، ناقلا المزيد من صور الإهتراء الذي يمر به النظام الوطني في لبنان.

قرأت باهتمام عددا من المقالات والآراء العاقلة التي أعرف عمق إيمانها كاتبيها بالعدالة وبدور القضاء الوطني، في مسيرة إنقاذنا من حالة الفساد السائدة في المجتمع السياسي. فالأستاذة أميرة سكر كتبت متسائلة:  “لماذا لا يمكننا استجواب كل من هو متورط في اي ملف كان، مهما كان منصبه؟ ولماذا نضع حصانة دستورية على الفاسدين؟ وهل من المسموح أصولا ان نسمح بإذلالنا كل يوم؟ واين العدالة التي وضعتها القوانين في بيروت التي هي أم مدارس القانون واحتضنت مدرسة بيريت التاريخية التي اسست الشرائع وطورتها؟”.

“هل من الممكن أن نضع جانبا انتماءاتنا العقائديّة السياسيّة، وننفصل عنها للحظة، ونفكر بالفعل الذي تقوم به القاضية عون، ونغض النظر ان كان فيه كيدية او انتقاما من طرف سياسي لاخر، وننظر الى فحوى ما تقوم به هذه السيدة؟ هي تجرأت على فتح ملفات فساد كبيرة. فليقم غيرها من قضاة آخرين، بفتح ملفات لفاسدين من غير فريق سياسي، وسندعم كل من هو غير فاسد وغير منحاز سياسيا. حتى وان كان الهدف كيديا فالنتيجة ان كانت فضح الفساد المستتر أسمى من أن نبقى صامتين.” توقفت مطولا امام هذا المقال. فالمقالة جريئة وملفتة طبعا. ويسود فيها غلبة لمنطق العدل لا السياسة. وهذا ما احترمه كثيرا في القراءات العاقلة. لكن علينا ان ندرك ان الاختيار الافرادي لمتهم واحد بالفساد يحوله الى ضحيّة، لا سيما وأن للقاضية غادة عون، خلفية سياسيّة معروفة، مما طبع توجهها الى هذا “الوكر”، بطابع سياسي أمكن للمتضررين من إخراجه من ثوب العدالة. لو انها ذهبت الى “وكر” فساد بين مجموعتها السياسيّة لكانت سجلت موقفا وطنيا تاريخيا. كما ان اتهام القاضي عويدات بعد أن كف يدها، وسحب الصلاحيات منها، ونقل الملف إلى قاض آخر، بالانتماء السياسي للحريري، زاد من تسييس الموضوع اكثر. فبتنا الان بين العدالة الحريرية والعدالة العونية.

وقال صديق آخر هو المحامي مازن أبو الحسن: “حتى ولو كان لتحقيقات القاضية عون خلفيات سياسية او كيدية، فإننا نريد أن نبدأ بمكان، وهذا هو المكان المتاح الان. وما هو التهديد لسلامة الوطن اذا حقق مع الشركة او قدمت حساباتها للقضاء؟ وهل “مكتف” حجر زاوية بالوطن لينهار اذا تم التحقيق معه أو سلم حساباته؟”. في الواقع، لا يمكنني أن أقتنع بمثل هذا الطرح مهما كان نبيل الهدف. فالقضاء الوطني لا يمكن أن يحقق العدالة في مثل هذه القضايا الوطنية المصيرية. وطالما أننا لا نملك سيادتنا/ وتوجد ميليشيا تقيم دويلة لها بقوة السلاح، وتمنع الدولة من العمل كوحدة قانونيّة شاملة، فالعدالة ستكون كيدية غير قابلة للتفعيل.

القضاء في لبنان ليس مستقلا لكي نامل بتحقيق العدالة. لو كان القضاء مستقلا وقادرا على ممارسة مثل هذا الدور لما طالبنا بمحكمة جنائيّة دوليّة للتحقيق في جريمة تفجير المرفأ. لقد إنشعل الناس أيضا في متابعة القضاء الوطني لهذه القضية، وثاروا حين خلع المدعي العام العدلي بشان تفجير المرفأ. لكن ثورتهم خمدت سريعا ولم تحظ بمثل هذا الحجم من الاهتمام الذي تحظي به قضية مكتب مكتف. لماذا؟

لان السياسيين كلهم كانوا لا يريدون العدالة في موضوع تفجير المرفأ. أما في قضية متكف فالسياسيون منقسمون. فبرزت هذه الضجة. هنا أيضا لن تتحقق العدالة. العدالة لا تتجزأ. العدالة ليست وجهة نظر. فمن يقتل العدالة في مكان، سيقتلها في كل مكان. ومن ينظر اليها بعين المصلحة والسياسة في مكان، سينظر اليها بمثل هذه العين في كل مكان. غادة عون حالة سياسية تلبس ثوب القضاء. والموقف ليس في القضية التي تمسك بها، بل في الاسلوب والشخص الذي يمسك بالقضية. فكما ترك الراي العام للقاضي بيطار ان يتابع ملف التفجير في المرفأ، يجب ان يترك للقاضي الجديد ان يتابع قضية مكتف وان يقف بالمرصاد له .المشاركة في معركة غادة عون سيحمي المتهم ولن يساعد في تحقيق العدالة كما نتمناها.

العدالة هي مفتاح الإنتقال إلى لبنان الجديد. هي القاعدة التي أقمنا عليها مطالبنا السيادية. فالسيادة والعدالة صنوان لا ينفصمان. لبنان وشعبه لن يحصلا على العدالة من دون السيادة، والسيادة لن تتحقق  من دون عدالة المجتمع الدولي. وعدالة المجتمع الدولي تعني بالاعتراف، ولو الضمني للبنان، بأنه كان ضحيّة الحروب الخارجية على أرضه، والعمل بالتالي، على تنفيذ قراراته المختلفة بشأنه بدءا بتنفيذ اتفاق الهدنة لعام 1949، وصولا لتنفيذ القرار 1701 لإخراجه من مستنقع الحروب القائمة حوله. وعندما يحصل لبنان على سيادته سيمكن الحديث عن تحقيق العدالة لشعبنا، ليس فقط فيما يتصل بالفساد، بل أيضا فيما يتصل بكل الجرائم التي ارتكبت على أرضه منذ عام 1975 وحتى تاريخه وخاصة الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإرهاب.

وهنا يأتي السؤال المتكرر الذي يوجه لي في كل مناسبة: كيف يمكننا أن نفعل ذلك، خاصة وأنّ المجتمع الدولي لن يستجيب لنا والقوى العظمى التي تسيطر على مفاصله لن تسمح بذلك؟ قلت وأكرر، من أكد لكم هذا الإستنتاج. لا يموت حق خلفه مطالب.

أن لدينا قوة لو فعلت لغيرت كل المعايير المتحكمة بحالتنا. لعل ابرزها هي هذه العناصر المتكاملة من القواعد القانونية الدوليّة التي يجب التمسك بها، وعدم السماح بمناقشات سياسية باي حق من حقوقنا. ونحن لدينا أفعل قوة يمكن لشعب في الشرق الأوسط أن يملكه، إلا وهو قوة الحضور المسيحي في لبنان.

المسيحيون في لبنان هم من يمنح الحضور المسيحي في كل هذا الشرق، هالته المشرقيّة ورابطه بالعالم الغربي وخاصة المسيحي في العالم. في مقالته تاريخ 11 آذار 2021، كتب السيد محمد سالم المزعل في صحيفة القبس الكويتية، مقالة تحت عنوان: نحن مدينون للمسيحيين العرب، لكن خذلناهم. واشار إلى رسالة المطران دويهي اللبناني الماروني، إلى العلماء المسلمين في دمشق، قبل 200 سنة يناشدهم فيها “النظر إلى إخوتهم المسيحيين بدلاً من التطلع إلى العلاقة الدينية مع الغرباء (الأتراك) في إسطنبول، مؤكداً أن الجامع القومي أقوى وأكثر وعداً”.

إنطلاقا مما سبق، فإننا نعيد مناشدة بطريرك لبنان، ليلعب دوره. سيادة لبنان والعدالة فيه، أمانة في عنقكم. أنتم لستم مؤتمنون على التاريخ المسيحي في هذا الوطن فحسب، بل على التاريخ المسيحي في الشرق برمته. نريدكم أن ترفعوا صوتنا المطالب بالعدالة في الأمم المتحدة فرجاء كفى ترددا.