شارل الياس شرتوني/لبنان من الجمهورية المتحللة الى دولة الرعاع… لم يبق لنا فعليا سوى تدويل الازمة اللبنانية لاحتواء تأثيراتها على السلم الاهلي، والتعاطي مع مشاكلنا الوجودية البالغة التعقيد والخطورة، والتداول المتحرر في سبل ايجاد حل سياسي لازمات مديدة ومتحولة

78

لبنان من الجمهورية المتحللة الى دولة الرعاع

لم يبق لنا فعليا سوى تدويل الازمة اللبنانية لاحتواء تأثيراتها على السلم الاهلي، والتعاطي مع مشاكلنا الوجودية البالغة التعقيد والخطورة، والتداول المتحرر في سبل ايجاد حل سياسي لازمات مديدة ومتحولة.

شارل الياس شرتوني/29 كانون الثاني/2021

ان درجة التفكك التي وصلت اليها الدولة اللبنانية تطرح اسئلة جدية حول قدرة هذا الكيان الوطني على اعادة تكوين حيثياته، ومعالجة مشاكله الحياتية على نحو فعلي، وصيانة سلمه الاهلي والحؤول دون تمدد الفراغات الاستراتيجية الاقليمية باتجاهه، وتحوله الى مداد نزاعي اضافي تستعمله النزاعات الاقليمية والدولية بديلا كما هو الحال منذ ١٩٥٨ حتى اليوم. ان الطابع الخطير الذي تتخذه الاحداث الجارية في طرابلس ليس الا تظهيرا لعجز، ما تبقى من الكيان الدولتي اللبناني، عن التعاطي مع المسائل الحياتية الاولية، لجهة ادارة مندرجات الازمة الوبائية (تنسيق العمل بين القطاعات الطبية والمؤسسات الدولية والمدنية، وصياغة وانفاذ سياسات الدعم التي تستوجبها الانهيارات المالية والاقتصادية والاجتماعية المتداخلة… )، والخروج من واقع التعطيل الحكومي على قاعدة تسويات سياسية مرحلية تساعد البلاد على استعادة مبادرتها ومعالجة أوضاع بالغة التدهور، سوف تؤدي الى سقوط السلم الاهلي وادخال البلاد في ديناميكيات صراعية مفتوحة على غير محور، وتوسيع رقعة المكبات النزاعية الاقليمية في دواخلها.

ان الاقفالات السياسية المفروضة التي تحول دون أية مقاربة عملية للازمات المتوالية منذ بداية الازمة المالية البنيوية وتردداتها (السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والبيئية…) لا تندرج بعد انقضاء ١٥ شهرا في سياق ازمة حكومية دورية او عابرة، بل في ديناميكية انقلابية واندثارية تستهدف شرعية البلاد الوطنية، وقدرتها على اعادة بناء سياق سياسي متماسك، يعيد بناء مفاهيم الحوكمة على قاعدة تفاهمات اصلاحية جامعة ومرتبطة بمفكرة تنفيذية ملزمة تتركز حول المحاور التالية:

-السلم الاهلي، ان التداخل بين الازمات الحياتية المتضاعفة والسياسات الانقلابية والمداخلات الخارجية هو سياق مألوف تشهده كل الدول التي تعاني من نزاعات اهلية حادة (ڤنزويلا، العراق، سوريا، اليمن، ليبيا، مالي، الصومال، اتيوپيا …) تستثمرها سياسات النفوذ على محاور عدة من اجل تعزيز تموضعاتها وامكانياتها الانقلابية على خط التقاطع بين افتعال الازمات السياسية، وتحفيز الاجواء النزاعية وترسيخ الانهيارات البنيوية من خلال اللجوء الى سياسات التدمير الشامل ( عملية مرفأ بيروت الارهابية )، وتعزيز المناخات النهيلية ( المواجهات في وسط بيروت وما يرافقها من تفلت أمني تديره الفاشيات الشيعية، وتحفزه الأزمات الاجتماعية في طرابلس، وتستغلها سياسات النفوذ المتضاربة، وسياسات القمع التي استعملتها القوى الامنية بتوجيه من مفكرات سياسية تابعة لمراكز النفوذ الشيعية). تفترض الادارة العقلانية للازمات المتداخلة ارادة تسوية توافقية، وتفكيكا للمسارات المتداخلة، ومقاربة موضعية للاشكاليات، تستند الى مواقيت عملية تساعد على اجراء نقلات نوعية في أزمنة قياسية.

لم يعد هنالك من امكان للتأقلم مع حسابات الفريق الشيعي الاستراتيجية (امل، حزب الله) على مستوى السلطات الاجرائية والتشريعية والقضائية، ومصالح ملحقاته السياسية (ميشال عون وفريقه السياسي، ونزق القاصر حسان دياب وفريقه الحكومي التابع لحزب الله، ومجموعة الانتهازيين الذي يدورون في فلكه، جبران باسيل، طلال ارسلان، وئام وهاب، عبد الرحيم مراد، ومناورات سعد الحريري غير الناضجة، والتوفيق بين المصالح الاوليغارشية المتحركة والمتضاربة،…).

ان انهاء هذه المعادلات المغلقة يفترض خروجا عن سياسات المحاور الاقليمية السنية والشيعية على تنوع مداراتها الايرانية، والتركية والقطرية والسعودية، لحساب تسوية داخلية مرحلية تسمح باعطاء الاولوية لمعالجة المسائل السياسية والحياتية الداخلية، والخروج من دائرة الصراعات الاقليمية المفتوحة. ان التسمر على خطوط تماس مراكز القوى الاقليمية المعنية، والانتظام على قاعدة تفاهماتها وخلافاتها المرحلية، هو تواطؤ فعلي مع سياساتها وأولوياتها، وتثبيت لديناميكية تفكيك الاوصال القائمة على غير اتجاه.

-أولوية الحكومة ومعالجة المسائل الحياتية واشكاليات الاصلاح البنيوي، ان تأليف الحكومة هو شرط مسبق من أجل معالجة المسائل الحياتية على نحو ناجز ونزيه خلافا لاداء حكومة حسان دياب في مجال التعاطي مع كارثة مرفأ بيروت، وما أوحى به من سياسة تمييزية فاقعة تجاه الشق الشرقي من العاصمة، وجلافة اخلاقية عبر عنها من خلال التنكر لما جرى، وانعدام التعاطف بحدوده الانسانية الأولية، وعدم المشاركة في اعمال الاغاثة واعادة الاعمار والاستنكاف في مسألة التعويضات، لناحية تخمينها وصرفها ومشاركة المؤسسات الدولية في اعمال المسح والتخطيط واعادة الاعمار والتعويضات، ناهيك عن الانصياع لاملاءات حزب الله لجهة التحقيق الجنائي وآلياته القضائية ورفض مشاركة الهيئات الجنائية الدولية، والتلاعب بمسرح الجريمة، وتغطية اعمال الاغتيالات التي طالت مسؤولي الجمارك والمصور المهني جو بجاني، ورفض الامتثال للسلطة القضائية وانهاء مهمات القاضي المولج بالملف.

يضاف اليها ملف الازمة الوبائية والتعاطي معها على قاعدة حسابات مصالح مراكز النفوذ الشيعية، وخارجا عن اي تقدير لموجبات المداخلة الحكومية فيما يعود للتنسيق مع المؤسسات الدولية والدول الديموقراطية الغربية التي هبت للمساعدة، ووضع آلية تعاون مع السلطات المحلية، من محافظات وأقضية وبلديات وجمعيات أهلية، من اجل انفاذ سياسة وقائية وعلاجية وانسانية تخفف من وطأة الازمات الصحية والاجتماعية المتشابكة على نحو عقلاني وسوي من الناحية الاخلاقية والميدانية. ان الطفرة الوبائية التي تزامنت مع زمن الاعياد هي نتيجة مباشرة لفقدان الرؤية والتخطيط والضمير الأخلاقي، والتعاون مع المعنيين واصحاب الامكانيات والمداخلات المهنية المباشرة.

ان الخطة الوقائية الرشيدة القائمة على التعاون مع كل الفعاليات المحلية والدولية لجهة تأمين البنيات الاستشفائية، وادارة اشكالات التباعد الاجتماعي في الاماكن العامة، ومساحات العمل المهني والتربوي، ومنصات التواصل الافتراضي، وتنسيق اعمال الاسعاف الاولي، قد اطيح بها لصالح سياسة التمدد الاخطبوطي لحزب الله وأمل داخل الادارات العامة، كما ظهرها الاداء اللامسؤول وغير المهني لحمد حسن في وزارة الصحة؛ والملف المالي العالق في سراديب المصالح الاوليغارشية التي يمثلها خير تمثيل التحالف القائم بين سعد الحريري ونبيه بري ووليد جنبلاط ونجيب الميقاتي ومحمد الصفدي وتقاسم الادوار مع حزب الله وأجرامه في السلطتين التنفيذية والتشريعية وعلى المستوى القضائي ( ميشال عون وفريقه السياسي وحسان دياب وفريقه الحكومي المتواطىء إراديا مع اوليائه ).

ان مناورات سعد الحريري على مستوى العودة الى الحكم على أساس تبني خريطة الطريق التي وضعتها الوساطة الفرنسية، تقع في دائرة البلف المعهودة للاسباب التالية: استقلالية الوزراء المعنوية والفعلية عن مراكز النفوذ الاوليغارشية، التبني غير المشروط لآلية دولية للتحقيق الجنائي المالي والمقاضاة أمام محاكم لبنانية مستقلة وأمام قضاءات دولية متعددة، إعادة الاموال المهربة والمنهوبة انطلاقا من خطة اصلاح بنيوية للقطاع المصرفي، ورسملته على اساس تقسيم جديد للعمل تلغي ترسبات الاقتصاد الريعي والمنحرف فيما يعود لآلية الديون العامة غير المشروعة، وتبييض الاموال وتطبيق مقررات بازل، وسرقة الاموال العامة من خلال مشاريع عامة مشبوهة وغير مدروسة، والخاصة من خلال عدم توظيف الودائع المصرفية في مجالات الاقتصاد الفعلي وتنمية فرص العمل والانخراط في آليات تقسيم العمل الدولي، واعادة النظر بدور المصرف المركزي في سياق صياغة السياسات المالية والاقتصادية؛ وادارة القطاع العام على أسس مهنية لا على قاعدة توزع الحيازات والزبائنيات التي وضعتها سياسات النفوذ السنية والشيعية والدرزية وملحقاتها في الاوساط المسيحية.

– تصفية المرحلة الاوليغارشية وما تفترضه من مراجعة للهندسة الدستورية تنهي سياسات المحاصصة الاوليغارشية باقسامها السلطوية والادارية والمالية، لحساب حركية النخب السياسية والادارية، والاعتبارات المهنية المضادة لسياسة النفوذ، واخلاقيات الخدمة العامة والخير العام، واعادة الاعتبار لاستقلالية المبنى الدولاتي عن محاور النفوذ الداخلية والخارجية. ان الاوليغارشيات السياسية على تنوع مصادرها غير راغبة في بناء سياق اصلاحي خارج عن دوائر نفوذها، كما هو بين من خلال المداولات اللامتناهية حول سبل تشكيل حكومة اصلاحية انتقالية تخرجنا من دائرة الاقفالات الاوليغارشية.

لا اعرف ما الجديد الذي يأتي به سعد الحريري، بعد خروجه الطوعي من الحكم لحساب حكومة الفاشية الشيعية، وما هي حيثية عودته على خط تقاطع المصالح الاوليغارشية، و” حدود حزب الله الشرعية ” والاستراتيجية، وتهميش الحراكات الاصلاحية المدنية، وتمتين مداخل سياسات النفوذ الاقليمية.

لقد انتهت جمهورية الطائف من خلال المعادلات الجيو-پوليتيكية التي أتت بها، ومفارقات الاحكام الدستورية التي ربطت سلطاتها الإجرائية ببنود معطلة جعلت من الاحتكام للخارج الاقليمي آلية لا مفر منها، ومن المؤسسات التمثيلية آليات رديفة وتابعة لمراكز القوى المهيمنة على أساس نظام پوليارشي جعل من المقاطعات السلطوية القائمة وتحالفاتها الانقلابية المتبدلة المرجعية الناظمة للعبة السياسية، ومن المؤسسات الدستورية رديفا وصندوق ايقاع للعبة الاوليغارشية السائدة.

ان اللعبة الاوليغارشية القائمة منذ ثلاثين سنة مبنية على خط تواصل سياسات نفوذ الداخل والخارج واملاءاتها المتحركة، فلا خروج من هذه الرمال المتحركة الا من خلال معادلات سياسية وجيوپوليتيكية ودستورية جديدة، تنهي الاقفالات المديدة، والا فديناميكيات النزاع والفوضى الاقليمية كفيلة بما تبقى من استقرار اهلي، وما الاحداث الامنية المتنقلة والازمات المتوالدة الا دلائل على استحالة ارساء ديناميكيات اعادة اعمار بنيوية ،وترسخ احوال الفوضى والتقهقر قاعدة حياة لا أفق لها.

لم يبق لنا فعليا سوى تدويل الازمة اللبنانية لاحتواء تأثيراتها على السلم الاهلي، والتعاطي مع مشاكلنا الوجودية البالغة التعقيد والخطورة، والتداول المتحرر في سبل ايجاد حل سياسي لازمات مديدة ومتحولة.