في رثاء السيدة نهاد سعيد//ايلي الحاج: الست نهاد/كمال ريشا: سنديانة جبيلية

545

“الست نهاد”
ايلي الحاج /النهار/04 أيار/16

إذا كانت الشجاعة تجسّدت يوماً في امرأة فهذه المرأة هي نهاد سعيد، الفارسة “إخت الرجال” التي تودعها قرطبا وبلاد جبيل والبلاد الأوسع اليوم.
كانت أماً لستة أولاد كبيرتهم لم تصل إلى سن المراهقة وصغيرهم يحبو، وقفت كاللبوءة الجريح بعد وفاة زوجها المفاجئة الدكتور أنطوان سعَيد بعمر 40 سنة، ولم تكن سنة مضت على انتخابه نائباً إثر معركة انتخابية طاحنة مع القطب الماروني القوي عميد حزب الكتلة الوطنية ريمون إده، كان عمرها 32 سنة فقط. وقفت وقالت سأكمل رسالة زوجي في خدمة ابناء منطقتي وفي السياسة. كان الموقف جنونياً. وبعد الأربعين زارت مع وفد بطريرك الموارنة آنذاك الكاردينال بولس المعوشي لشكره على مؤاساته العائلة برقيم بطريركي. انتحى بها جانباً في مكتبه البطريركي وقال لها: “أعلم أنك أم لستة أولاد، وزوجك كان يطبب الناس مجاناً في مستشفاه وتوفي مديوناً للبنوك بـ400 ألف ليرة، اسمعي مني خذي المبلغ واوفي الديون وانصرفي لتربية الأولاد وبلا معارك سياسية”، أجابت أنها جاءت بأولادها الستة للوطن ولن تتراجع.
بثياب الترمل السوداء خاضت معركة انتخابات فرعية في وجه العميد إده ما زالت أخبارها يرددها الكبار في بلاد جبيل، وتلك الأيام كان لبنان منقسماً بين دستوريين وكتلويين من كل الطوائف لذلك كانت “أم المعارك”، وخسرت النيابة بفارق 200 صوت عن العميد إده الذي نافسته لاحقاً في انتخابات 1968 و1972 وأصبحا صديقين في باريس حيث عاش خلال الحرب. ستقول لاحقاً لمن يسألها هل هي راضية عن سياسة نجلها الدكتور فارس : “حاربت ريمون إده 40 سنة، فرّخ ريمون إده جوّات البيت!”.
وكان العهد الشهابي يحمي السياسيين من مؤيديه، وربما لافتقار أنصاره إلى رمز في بعض الأحياء البيروتية كانوا يرفعون على الشرفات وفي الساحات العامة صور “الست نهاد” منافسة العميد خصم الشهابية العنيد، صور امرأة شقراء جميلة من العاقورة. ومرة أنزل رجال العهد صورة كبيرة للرئيس كميل شمعون من ساحة ساسين في الأشرفية ووضعوا صورتها . لماذا؟ هكذا، نكاية بالمعارضة.
نبذة عن قوتها : في إحدى جولاتها الإنتخابية سنة 1965 قطع آل زعيتر الطريق أمامها في أفقا وحاولوا إهانتها، فنزلت من السيارة وهاجمتهم وكان خلفها مئات الأنصار، معظمهم من العاقورة وقرطبا ، فأطلق أحدهم النار في الهواء وفقد الجميع السيطرة، وقُتل شاب بعمر 22 عاماً من هؤلاء الأنصار ( اسمه بطرس يزبك) برصاص ضابط في قوى الأمن حوكم لاحقاً. وكان يوم سبت فقالت “الست نهاد” لعائلة القتيل والأنصار: “غداً الأحد انتخابات، ضعوا الجثة جانباً في مكان بارد، ويوم الإثنين سنبكي وننوح”. وهكذا كان.
وبعد الانتخابات جمع “مسرح الساعة العاشرة” في الزيتونة في أحد اسكتشاته بين العميد إده ومنافسته “الست نهاد” وبين عرض فني فرنسي في “كازينو لبنان” اسمه karata ، فدمّر أنصار “الست نهاد” الصالة والمسرح على رؤوس الممثلين. وأثارت الحادثة ضجة كبيرة وانتقد العميد إده والرئيس صائب سلام وجريدة “النهار” صمت الدولة ، فاضطرت السلطات القضائية إلى التحرك لملاحقة الفاعلين. ستقول “الست نهاد” للرئيس شارل حلو “أنا أقبل المزاح بالفرنسية، وتناول اسمي بين تانتات الأشرفية. أما أمام أنصاري في جبيل فأنا مريم العذراء!”. وطُوي الملف. لكن نهاد سعيد ستظل تتهم الرئيس حلو بأنه غطى قراراً بإسقاطها في الانتخاب الفرعي، وبأن “المكتب الثاني” تدبّر إسقاطها خلافاً للفكرة السائدة عن سلوكه تلك الأيام لأن العهد الشهابي الثاني في تقديره لا يتحمل إسقاط شمعون وإده معاً.
بعد الحرب قاطعت “الست” انتخابات 1992 نزولاً عند طلب البطريرك مار نصرالله صفير، لكنها دخلت البرلمان نائبة في 1996. كان لبنان تغيّر كثيراً بعد الحرب، لكنه سيظل يذكرها.

 

 

 سنديانة جبيلية
كمال ريشا/المستقبل/04 أيار/16
لم تكن نهاد سعيد «أخت الرجال»، كانت سيدة كاملة الأنوثة، كاملة المواصفات، سيدة رفضت أن تستكين لكونها امرأة، وفي مجتمع ذكوري، وزوجة طبيب، ونائب وبيت سياسي. رفضت نهاد سعيد أن تكون أرملة النائب الدكتور انطوان سعيد الذي رحل فجأة بعد سنة على انتخابه نائباً، فقررت إكمال مسيرة زوجها الراحل، ولكن في مواجهة من؟ في العام 1965، قررت الترشح للانتحابات الفرعية، خلفاً لزوجها الراحل، في مواجهة عميد الكتلة الوطنية العميد ريمون اده، أرملة في الثالثة والثلاثين من عمرها، أم لستة أطفال كبيرهم في الثانية عشرة من العمر، ووريثة بيت سياسي «مفتوح» من والد زوجها، الدكتور فارس سعيد، الذي كان أول طبيب يحمل إجازة جامعية في الطب في بلاد جبيل، وقضاء بعلبك، فسكن قرطبا في جرود جبيل، بما هي حلقة وصل بين بعلبك وجبيل، يمارس مهنة الطب، وورثت نهاد سعيد، ديون تنوء بحملها رجال ومؤسسات، ومستشفى كان يديرها طبيب إنساني. ومع ذلك، قررت خوض المعركة الانتخابية في وجه خصم يُحسب له ألف حساب، ولولا المداخلات السياسية لكانت فازت في تلك الانتخابات، ولو أن أعراف اليوم كانت سائدة في الستينات، لكان العميد ترك المقعد النيابي للست نهاد، إلا أنها خسرت بفارق 200 صوت فقط، فلم تستسلم، بل عاهدت الذين اقترعوا لها، على السير معهم، فكانت سيدة تتقدم مجتمع الرجال، في بيئة جردية محافظة، رافقها «قبضايات» من النهج الشهابي، الدستوري، في وجه الكتلة الوطنية، فعبرت بالعائلة والبيت وسط مناخ سياسي في لبنان لم يكن ليستوعب وجود إمرأة في ملعب الرجال، وليس أي رجال، عهود ما بعد الشهابية، والرئيس شارل حلو، وعهد الرئيس سليمان فرنجيه، عهد الانقضاض على سلطة «المكتب الثاني»، الداعم الرئيس لبيت سعيد، فحافظت نهاد على رباطة جأشها، ونسجت صداقات تنسجم مع قناعاتها السياسية فوجدت في العلاقة السياسية مع الزعيم كمال جنبلاط سنداً، فخطبت في مهرجان للحزب الاشتراكي في طرابلس، وواظبت على خوض المعارك الانتخابية النيابية، والبلدية والاختيارية، لم تميز بين قرية شيعية وأخرى مسيحية، وكان لكل منطقة من بلاد جبيل في قلبها مكانة، بـ«قرنة الروم» ما بيحبونا، أهل المغيري ولاسا جيران وأصحاب، بالساحل نحنا وبيت شهيد الخوري، وهكذا كانت خارطة جبيل محفورة في عقل الست نهاد وقلبها، لم تفارقها حتى الرمق الأخير.

لم تقفل باب بيتها يوماً في وجه طالب حاجة، نصيراً كان أم محايداً، أم حتى خصماً، تسارع الى تلبية حاجاته، وإذا استعصى الأمر رافقته الى دائرة أو وزارة ولا تفارقه الى أن يحل مشكلته، كبيرة كانت أم صغيرة. في العام 1968، ترشحت للانتخابات النيابية، وكذلك في العام 1972، وكانت الظروف السياسية تعاكسها، فيجتمع على محاربتها عتاة الموارنة، في عز سطوتهم، واتفاقهم في إطار ما سمي بـ«الحلف الثلاثي»، فكانت سنديانة تنتصب بقامتها في وجههم، غير عابئة باتفاقات إلغاء. مع اندلاع الحرب الأهلية، كانت الست نهاد «صمام أمان» لبلاد جبيل، باختلاطها الشيعي السني المسيحي، فسعت بكل ما لها من علاقات واتصالات الى تحييد المنطقة عن أتون النزاع الطائفي، وبين منزلها في محلة المتحف، وقرطبا، كانت محور الاتصالات بين فعاليات المنطقة، الشيعة والمسيحيين، لما تربطها بالجانبين من علاقة احترام وثقة، فجنبت بلاد جبيل خراب نزاع طائفي، ووقّع فعاليات المنطقة في منزلها ما سمي بـ«وثيقة المتحف» للعيش المشترك في بلاد جبيل، وهي الوثيقة التي بقيت محل احترام الأهالي حتى نهاية الأعمال العسكرية الميليشيوية في المنطقة. في العام 1992، كانت فرصتها السانحة لخوض غمار الانتخابات النيابية والفوز بمقعد نيابي سهل، بعد أن أعلن البطريرك صفير مقاطعة المسيحيين الانتخابات، إلا أن الست نهاد استجابت لرغبة البطريرك، وأعلنت مقاطعة الانتخابات، ففرغت صناديق الانتخابات في جرود جبيل، من الأصوات، في أول استفتاء على ثقة الجبيليين بالبطريرك واستجابة لنداء «الست نهاد« التي وإن لم تحتل المقعد النيابي حينها، إلا أنها فازت سياسياً بثقة الجبيليين. وهكذا، في العام 1996، دخلت الست نهاد تحت قبة البرلمان- نائب منتخب، بثقة الجبيليين، فتوجت مسيرة سياسية، بدأت منذ ذلك اليوم المشؤوم الذي أخذت فيه نوبة قلبية رفيق دربها. واظبت الست نهاد على العمل النيابي، ولم تترشح لانتخابات العام 2000 فحل مكانها نجلها الدكتور فارس سعيد، وبقيت الست نهاد مقصد الجبيليين، تختلف مع فارس في السياسة وتصالحه، ولكنها لم تتخل يوماً عن متابعة قضية أو مطلب مهما كان شأنه، فتزيل عن كاهل ابنها الشاب مسؤولية، لينصرف الى تدعيم مداميك البيت السياسي. الست نهاد كما عرفتها، قامة لم تنحن يوماً، لا العمر أقعدها، لا السياسة ارغمتها على التقاعد، فحتى آخر يوم في حياتها حافظت على أناقتها الارستقراطية، وتسريحة شعرها التي ميزتها. والأهم حافظت على عرض منكبيها، واستقامة ظهرها. إنها نهاد سعيد التي فارقتنا. سنفتقدها، لكننا سنبقى نتذكرها ونضرب بها المثل. المرأة التي لم تطلب حصة من إرث زوجها السياسي، فحملته على أكتافها وسارت. المرأة التي لم تستغل أنوثتها لتستعطي مكانة البيت السياسي. المرأة التي لم تعرف أن في الحياة «كوتا» للنساء. المرأة التي كانت نداً للرجال وليس أي رجال. سنفتقد جرأة هذه السيدة وطلتها.

الصورة المرفقة/النائبة السابقة الراحلة نهاد سعَيد مع أولادها في عيد الفصح 1966 تحت صورة زوجها الراحل الدكتور أنطوان سعَيد، وبدا والده الدكتور فارس سعَيد الجدّ. (الأرشيف)