زهير قصيباتي: من جنيف مع أطيب النيات/توفيق السيف: حول التعليم والتطرف

292

 من جنيف «مع أطيب النيات»
زهير قصيباتي/الحياة/03 شباط/16

المضحك أن تطالب المعارضة السورية في جنيف، النظام بإبداء «نيات طيبة». المضحك المبكي أن يمنّ وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف على «جيش الإسلام» و «أحرار الشام» بضوء أخضر للاعتراف بحضورهما في جنيف، كأشخاص. المبكي هو هو، ما زال منذ 5 سنوات، مزيداً من الموت… ومَنْ لا يسقط بغارات قيصر الكرملين، يبتلعه البحر. ولكن، لماذا التذمُّر؟ ألم يتراجع النظام السوري أخيراً عن حرب البراميل المتفجّرة؟ هو لم يعد بحاجة إليها، ما دامت «سوخوي» الحديثة تفعل فعلها، إلى حد يشيعُ الغبارَ عواصف تغشى الأبصار، فلا يستغرب السوريون أن يأتي يوم يطلب فيه النظام الرأفة من الرئيس فلاديمير بوتين… لا لشيء إلا لأن مَنْ لم يغيّبهم الموت هم ضرورة اقتراع، بعد «تطعيم» الدولة بتشكيلة «وحدة وطنية» حكومية، مرشدها الرئيس الذي يبقى في سدة الحكم على الخراب، فقط لأن «الشعب يريده».
أي سيناريو أسود؟ ولكن، ألم يقل موفد الأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا إن السعي إلى وقف القتل ليس من اختصاصه؟ دوره البحث عن الغد «الدستوري»، عن صناديق اقتراع لانتخابات نزيهة، في سورية التعدُّدية… أن ينتقل من «غرفة» النظام في جنيف إلى «غرفة» المعارضة التي تنتظر «نيات طيبة» ممن دمّر البلد ومزّقه، بعدما زجّ به تحت عمامة الوصاية الإيرانية. فليتمسّك السوريون بحكمة دي ميستورا، لعل الرئيس باراك أوباما المنزعج من رائحة الدم، يجدّد التنازل لـ «المفوّض السامي» بقوة الـ «سوخوي»، فلاديمير بوتين، المفتون بقدرة الجيش الروسي على اختبار الأسلحة الحديثة، في حقل الرماية السوري. وكلما قضم الروس من قدرة المعارضة على القتال، قد يختبر جيشهم وقف النار بين جولة وأخرى. إنه السبيل الوحيد لإعادة «تأهيل» ما يسمّونه الحكومة الشرعية في دمشق. وسواء أدرك دي ميستورا أم غلّب «النيات الطيبة»، فالوقائع ترجّح اعتماد بوتين سياسة سلخ المعارضة عن سلاحها، وحشرها في جزر متباعدة على الأراضي السورية… فمقابل كل جولة حوار بين غرفتي النظام والمعارضة، تشطب الـ «سوخوي» المزيد من خريطة مواقع الفصائل المقاتلة، وبعدها يترحّم الجميع على صيغة «جنيف 1»، وهيئة الحكم الانتقالي. الانتقال الوحيد الذي ترغب فيه موسكو، هو انتقال الأسد من القصر إلى… القصر.
هل من الحكمة إذاً، التساؤل عمن جرّ السوريين إلى الحرب العبثية المجنونة، ليكون ثمن «حكومة وحدة» حوالى ثلاثمئة ألف قتيل، وتشريد عشرة ملايين؟ أم يلعن السوريون الظلام الروسي الذي يمدّده الغرب طوعاً بـ «التفويض» الأميركي لقيصر الكرملين؟ ألم تكن العصا الأميركية جاهزة عشية جنيف، لتضغط على رأس المعارضة بتحذيرها من وضع أي شرط قبل دخول قطار المفاوضات غير المباشرة؟ لم يعد مطروحاً اليوم كم يبقى نظام الأسد بعد، فهو مجرد ركن من استراتيجية بوتين الجديدة التي تبدأ من شبه جزيرة القرم، ولا تنتهي في طهران واللاذقية. لكنه ركن مطلوب بإلحاح كما الحرب إلى أن يُنجز تفاهمٌ أميركي – روسي على الحل، تعتقد موسكو أنه بات مستحيلاً في عهد أوباما. نبأ سيئ لسورية المعذّبة أنها تحت سياط الغارات، ستبقى في موقع المتفرّج على المهرجانات الانتخابية الأميركية، حتى اختيار خليفة لأوباما. وكلما ابتهج القيصر بنشوة انتصاراته التي يظن أنه يرسم بها نظاماً عالمياً جديداً، حلّت بالسوريين نكبة جديدة.
بين خليفة أوباما و «خلافة داعش»، لا بأس لدى قيصر الكرملين بتمهيد أرض الشرق الأوسط وتعويده أيضاً على «اختبارات» توبيخ لتركيا، من أجل نزع أسنان نفوذها «العثماني». فلا فتح أبوابها للاجئين قرّبها إلى البيت الأوروبي، ولا المواجهة المفتوحة ممكنة مع مَنْ ابتلع القرم ولم يندم، رغم سيف العقوبات.
أقسى المرارات للسوريين ومعارضاتهم، أن يلتقي «هلال» إيران المرشد و «الحرس الثوري»، مع صحوة «مرشد» النظام العالمي الجديد، الجاهز لكل اختبارات القوة. عليهم أن ينتظروا الصفقة الكبرى في عهد ما بعد أوباما، وقبلها معركة حلب ومعركة الموصل، وأن ينتظروا الحسم مع «داعش»… وربما بعدها حسم ملف الطموحات الكردية.

 

حول التعليم والتطرف
توفيق السيف/الشرق الأوسط/03 شباط/16
قبل بضعة أيام أعادت وزارة التعليم السعودية التأكيد على تصفية المكتبات المدرسية من الكتب الداعية للتطرف. وهذا جزء من سياسة أقرت قبل سنوات، هدفها تجفيف مصادر التشدد في التعليم العام. ومثل كل الأخبار الجديدة، حظي القرار بتأييد بعض الناس وعارضه آخرون. لكن في المجمل أعاد القرار إحياء نقاش قديم حول مصادر التطرف في الثقافة العامة، سيما ثقافة الشباب. يجب القول ابتداء إن هذه ليست مهمة يسيرة ولا يمكن إنجازها في بضع سنين. كما لا ينبغي المبالغة في تحميل المدرسة عبء المهمة بمجملها. الميول المتطرفة ليست ثمرة عامل واحد، وعلاجها ليس سهلا كي يلقى على طرف واحد. يعرف الاجتماعيون أن تشكيل الذهن الجمعي، أو ما نسميه هنا بالثقافة العامة، يتأثر بعوامل كثيرة، بعضها ثقافي بالمعنى الخاص مثل التعليم والإعلام والتربية الدينية، وبعضها بعيد تمامًا عن هذا الإطار، كالاقتصاد والسياسة والتقاليد الاجتماعية والموقع الطبقي.. إلخ. من هنا، فإن تفكيك الميول المتطرفة يحتاج لاستراتيجية وطنية شاملة، تتعامل مع الثقافة في معناها الموسع، أي مجموع المصادر التي تشكل الذهن الجمعي. بعد سنوات من القراءة والتأمل في العلاقة بين الثقافة والعنف، أستطيع القول إن أحد المفاتيح الرئيسية لفهم المشكلة يكمن في «المنغلقات» أو الطرق المسدودة. يمكنني تعريف المنغلقات بالصدام بين الإرادة والعجز. ثمة مثال معروف يضرب عادة لإدانة السلوك الهروبي من المشكلات، لكني أراه صالحا لتوضيح مسألة الصدام تلك. فحوى المثال أن تلميذا فشل في الاختبار وحين سأله زملاؤه عن السبب أجاب بأن معلمه حاقد عليه فأسقطه عمدا. يضرب آخرون مثلا بابن الشيخ الذي عانى من عنف أبيه فاتجه إلى الإلحاد. وحين سئل الأب عن السبب وضع اللوم على المدرسة والتلفزيون ورفاق السوء.. إلخ. يكثر سرد هذين المثالين وأشباههما لتأكيد العلاقة بين الفعل ورد الفعل. وينظر إليهما عادة كدليل على خط مستقيم يشبه القاعدة المعروفة في الفيزياء: كل فعل يولد رد فعل يساويه في القوة ويعاكسه في الاتجاه.
وأرى أن استعمال هذه القاعدة لتفسير الفعل والانفعال الاجتماعي غير سليم، أو أنه – على أقل التقادير – قاصر عن إيضاح الطبيعة المركبة للفعل الإنساني وما يترتب عليه من تموجات في المحيط الاجتماعي. إن تبرير التلميذ لفشله في الامتحان بحقد معلمه قد لا يكون – بالضرورة – تعبيرا عن رغبته في تبرئة نفسه من المسؤولية، بل قد ينم عن جهله بالأسباب الأخرى المحتملة. تماما مثل لوم الشيخ للتلفزيون والمدرسة ورفاق السوء، الذي قد يخفي عدم إدراكه لمجموع العوامل التي قادت إلى هذه النتيجة. كان المفكر الأميركي دانييل ليرنر قد ناقش بالتفصيل مسألة «التكيف=empathy»، بل اعتبرها محور نظريته حول التحديث والتنمية. تعرف القابلية للتكيف بالقدرة على اكتشاف وتبني بدائل / تفسيرات أو حلول بديلة عن المألوف والمعروف مسبقا. وبهذا فهو المقابل لما أسميته «المنغلقات» أو الطرق المسدودة والأحادية. أعتقد أن أي استراتيجية وطنية لمعالجة التطرف ينبغي أن تركز على كشف ومعالجة المنغلقات، أي نقاط التصادم بين الإرادة والعجز. هذه النقاط منتشرة في حياتنا الخاصة والعامة. وكثير منها يتحول إلى توترات ثقافية / ذهنية، تشكل أرضية خصبة لاستقبال دواعي التطرف ودعواته. المدرسة قد تلعب دورا مهما في تسكين أو إعادة توجيه ميول الشاب. لكن من المبالغة اعتبار هذا الدور حلا كاملا.