إياد أبو شقرا: سوريا: التجويع في خدمة السياسة/عبد الرحمن الراشد: التجويع الجماعي بعد البراميل والكيماوي

499

سوريا: التجويع في خدمة السياسة
إياد أبو شقرا/الشرق الأوسط/10 كانون الثاني/16

تشرّفت في حياتي بالتعرّف إلى رجلين استثنائيين كل منهما رحل عن عالمنا حاملاً في قلبه عشقًا لا يموت لدمشق، هما أستاذي ومعلمي الراحل البروفسور يوسف إيبش، والشاعر الكبير نزار قباني. أشعار نزار في دمشق طبّقت شهرتها الخافقين، أما حبّ «الدكتور يوسف» – كما كان يسعده أن أناديه – لدمشق فما كان يدرك عمقه إلا من عرفه عن كثب، واكتسب من غزير علمه وثقافته وذائقته الفنية المدهشة. الدكتور يوسف شرح لي ذات يوم: «لا توجد مدينة في الدنيا أهّلتها الطبيعة لتكون حاضرة مثل دمشق، ولذا غدت أقدم مدن العالم. فهي تقوم وسط واحة (الغوطة) الغنّاء التي يسقيها نهران ينبعان من منحدرات جبال لبنان الشرقية، هما برَدى (قرب مدينة الزبداني) والأعوَج (من جبل الشيخ)، ويصبّان في بحيرتين تتموضّعان شرقيها هما العتيبة والهيجانة. ثم إن ما يساهم في خضرة (الغوطة) ومناخها الطيب أنها تتلقى الرياح الغربية عبر المنخفض الفاصل بين كتلتي جبال لبنان الشرقية، أي جبال القلمون شمالاً وجبل الشيخ جنوبًا. وإلى الشرق تمتد بادية الشام لتحمي ظهر دمشق و(غوطتها) وتجعل منها حاضرة منيعة عصية على الغزاة. أما بالنسبة للجهتين الشمالية والجنوبية فتسيطر دمشق على طريق القوافل التاريخية التي تربط شبه الجزيرة العربية ومصر بما فيها (طريق البخور) بحلب فهضبة الأناضول، ومن ثم أوروبا وآسيا الوسطى شمالاً متصلة بطريق تجاري عالمي آخر هو (طريق الحرير)…». وتابع: «مدن كثيرة في العالم كان يمكن أن تقوم في مكانها الأصلي أو على بعد مئات الأميال منه، لكن لا بد بحكم الطبيعة والبيئة أن تقوم مدينة في موقع دمشق الفريد».

اليوم، ربما لأول مرة منذ الغزو المغولي لدمشق عام 1400/ 1401م تتعرّض دمشق ومحيطها لتهديد ديموغرافي يبدو أكثر فأكثر جزءًا من استراتيجية إقليمية ودولية ما عاد كثيرون يشكّكون بوجودها. والمشاهد المؤلمة التي ينقلها الإعلام لمآسي بلدات منطقة وادي بردى، حصارًا وقنصًا وتجويعًا، ناجمة عن سياسة مدروسة تنفذ بقوة السلاح الشرعي والميليشياوي المحلي والإقليمي والدولي، وهي تكرّر سياسة تهجير سكان مدينة حمص لإبقاء الطريق مفتوحة بين دمشق ومنطقة الساحل السوري ذات الكثافة السكانية العلوية. هذه البلدات، التي كانت ذات يوم من أجمل مصايف سوريا، تدفع اليوم ضريبة موقعها الجغرافي الذي يعطّل إنجاز خريطة التقسيم الموعود. وللعلم، فإن مخطط التقسيم يشمل أيضًا عملية تهجير أخرى تسير أيضًا بمباركة دولية في شمال شرقي سوريا. ولقد كان لافتًا السعي الإيراني لإنجاز عملية تبادل سكاني بين الكتلة السكانية السنيّة في وادي بردى والسكان الشيعة المحاصرين في «جيبي» نبّل والزهراء في محافظة حلب، والفوعة وكفريا – وربما الأقلية الشيعية في معرة مصرين – في محافظة إدلب. أما الفارق الأساسي بين حالتي الحصار اللتين يعاني منهما الجانبان أن «الجيبين» الشيعيين يحصلان على معظم ما يحتاجان إليه من مؤن عن طريق الجو بفضل سيطرة الطيران الحربي الروسي، ومن ثم تابعه طيران النظام، بينما تمنع بلدات وادي بردى من الحصول حتى على قوت أبنائها. استراتيجية نظام دمشق قامت منذ البداية على أساس الهيمنة على كامل تراب سوريا، ولكن في حال تعذّر ذلك كانت «الخطة ب» جاهزة دائمًا. وهي الاكتفاء بما بات يُعرف بـ«سوريا المفيدة» في المناطق المأهولة الخصبة بغرب البلاد من حلب شمالاً إلى حوران جنوبًا. وترك مناطق البادية وحوض الفرات والجزيرة وشأنها.

حاليًا الميليشيات الانفصالية الكردية تخوض، بالفعل، معركة بناء «كيان» يمتد من الحدود المتهافتة بين شمال العراق وشمال شرقي سوريا وحتى «جيب» عفرين المتاخم للواء الإسكندرونة (إقليم هاتاي) التابع اليوم لتركيا. وتكتيكيًا على الأقل، لا يرى الانفصاليون الأكراد أي مصلحة لهم بقتال نظام لا يقاتلهم. بل على العكس، فإن النظام يجد نفسه لأسباب طائفية خاصة به وبداعمه الكبير نظام إيران يقاتل عدوهما التاريخي، أي الحكم التركي. وهكذا، من منطلق «عدوّ عدوّي صديقي» يتعاون النظام وعملاؤه المحليون مع الانفصاليين الأكراد، كونهم يهددون ليس فقط النظام التركي بل وحدة أراضي الكيان التركي نفسه.

بروز ظاهرة «داعش» أسقط كل الاعتبارات – أو بالأصح، الأقنعة – في اللعبة الدولية، وتحوّلت الأولويات الغربية المعلنة من ضرورة تغيير النظام في دمشق إلى تبني شعاراته عن «مكافحة الإرهاب» (السنّي، طبعًا). ومع هذا التغير، حتى عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي (ناتو) لم تشفع لها. فقد خذلتها واشنطن، أولاً، في الموضوع الكردي بعدما جعلت من قضية إنقاذ بلدة عين العرب (كوباني)، التابعة لمحافظة حلب، مسألة «مصيرية» بينما كانت مدينة حلب تُدكّ وتجوّع وتُهجّر. وخذلتها ثانيًا، في ربطها مصالحها المحوَرية بتعزيز مكانة النظام العراقي التابع لطهران، عبر الدعمين السياسي والعسكري، بعدما رفضت مرارًا إنشاء «ملاذات آمنة» و«مناطق حظر طيران» في شمال سوريا بحجة المخاطر والتكلفة العسكرية! ثم خذلتها للمرة الثالثة، بعد حادثة الطائرة الحربية الروسية التي أسقطتها تركيا إثر انتهاكها مجالها الجوّي. المسألة واضحة إذن. وتقارير منظمات كـ«الشبكة السورية لحقوق الإنسان» وثّقت حقًا خلال عام 2015 بالتفاصيل مخطّطات «النزوح القسري» والتغيير الديموغرافي الحاصل في المناطق التي تسيطر عليها الميليشيات الكردية بالشمال السوري بعد تهجير السكان العرب منها في ريفي محافظتي الحسكة والرقة. وكذلك ثمة تقارير موثقة عمّا هو حاصل في حمص والمناطق المحيطة بها بعد تهجير سكان الأحياء السنّية من المدينة. وهذا من دون أن ننسى ألاعيب «الهُدنات» التي مورست على عدة مناطق بضواحي دمشق لقاء فك أسرها بعد ابتزازها بالتجويع والقنص والقصف.إن تهجير بلدات وادي برَدى، ومنها مضايا والزبداني وبقّين وبلودان، خطوة مدروسة بدقة تهدف لتهجير المسلمين السنة من غرب دمشق ومبادلتهم بشيعة حلب وإدلب، وتحصين وجود النظام – ومن ثم، حضور إيران – بربط دمشق عبر المنطقة بلبنان الخاضع لسيطرة حزب الله.من قال إن مأساة فلسطين كانت آخر مآسينا؟!

 

التجويع الجماعي بعد البراميل والكيماوي!
عبد الرحمن الراشد/الشرق الأوسط/10 كانون الثاني/16

لا يُستغرب أن يجوّع النظام السوري عمدًا آلافًا من الناس، لأنه على مدى أربعين عامًا من الحكم كان يمارس ذلك كسياسة في أقبية السجون وضد خصومه. وليست الوحشية غريبة على إيران، التي يدير جنرالاتها الحرب في سوريا على الأرض، وهي وراء عملية المحاصرة. وليس مستغربًا من حزب الله، كتنظيم ديني متطرف، أن يتولى رجاله وظيفة الحصار حتى الجوع والموت ضد المدنيين في سوريا. فقد كان الحزب في لبنان ينصب صواريخه داخل القرى الجنوبية، شيعية ومسيحية، ليستخدم أهلها دروعًا ودعاية في مواجهته مع إسرائيل عام 2006. أربعون ألف إنسان يعيشون اليوم، أو على الأصح يموتون، في بلدة مضايا السورية، نصفهم لجأوا إليها من البلدات المجاورة هربًا من القتل. ومنذ ستة أشهر يحظر عليهم مغادرتها من قبل قوات الأسد وميليشيات الحزب، التي تحظر أيضًا دخول فرق الإغاثة، حتى نفد الطعام منهم. العشرات من السكان ماتوا جوعًا، والبقية صارت شبه هياكل عظمية، على حافة قبورها.

المستغرب هو أن العالم بحكوماته، وجيوشه، ومنظماته الحقوقية، وإعلامه، لم يفعل شيئًا ملموسًا لوقف جريمة الموت بـ«التجويع الجماعي» الذي يمارس علانية أمامه. في الوقت نفسه، تجري هناك عملية تحالف دولي ضخم من أسراب الطائرات التي تقصف تنظيمات مثل «داعش» و«النصرة» لأنها قامت بجرائم ضد الإنسانية، وهي تستحق الحرب عليها. لكن السؤال: لماذا التمييز في الجرائم وبين المجرمين؟ كيف يمكن السكوت عن مثل هذه الجريمة الأكبر، تجويع أربعين ألف إنسان حتى الموت؟ لقد كانت قمة المأساة في سوريا قصف المدنيين حتى يتم تشريدهم. واليوم صارت المأساة منع الناس من الخروج من أجل تجويعهم حتى الموت. يقوم النظام السوري والإيرانيون بمحاصرة البلدة بالأسلاك الشائكة، وتلغيم محيطها حتى لا يهرب الأهالي! كان بوسع الميليشيات على الأقل تركهم ليهربوا منها، ثم اقتحامها للاستيلاء على البلدة من المقاتلين المتحصنين داخلها، وعددهم أقل من مائة وخمسين من مسلحي المعارضة. لكن إيران وميليشياتها الحليفة، بدلاً من اجتياح البلدة، تتعمد فرض الحصار، وتجويع السكان، وذلك من قبيل الضغط على المعارضة لاستعادة بلدتين محاصرتين، الفوعة وكفريا، اللتين لم تتعرضا للتجويع. صار ارتكاب جرائم جماعية ضد المدنيين العزل في سوريا يمارس على نطاق واسع، بما يجعلنا نتساءل: ما هي الحدود، إن كانت هناك حدود؟ فقد جرى خنق آلاف المدنيين وقتلهم بالغازات الكيماوية المحرمة دوليًا، وتم قتل عشرات الآلاف من سكان المدن عمدًا برمي البراميل المتفجرة من الطائرات، وجرى توثيق عمليات قتل في السجون نفذت بشكل جماعي، وظهرت آلاف الصور وأكدت صحتها المنظمات الدولية، والآن يتم قتل السكان بمنعهم من الهروب، وقطع مدد الأغذية عنهم، وتركهم يموتون جوعًا. لا يعقل أن تُمارس عمليات القتل الجماعي منذ خمس سنوات دون أن يتحرك المجتمع الدولي لحماية السكان، وكل ما يفعله هو البحث في كيفية التوصل إلى حل لمد حكم النظام. القتل الجماعي الذي مورس ضد الشعب السوري باستخدام كل الوسائل، من الغاز الكيماوي، والبراميل المتفجرة، ودفن السجناء أحياء مقيدين، والآن التجويع الجماعي في مضايا، سيولد كمًا أكبر من الحقد والكراهية داخل سوريا، وفي المنطقة، ونحو العالم.