محمد علي فرحات: نصرالله والايقاع الروسي/وليد أبي مرشد: رباعيات لبنان/رغيد الصلح: التعددية في لبنان تجربة مهمة للعرب

241

نصرالله والايقاع الروسي
محمد علي فرحات/الحياة/24 كانون الأول/15
عندما سحب إيهود باراك عام 2000 جيشه تحت ضربات المقاومة، تخفّفت إسرائيل من حضورها الميداني في لبنان وتركته يعاني وطأة حضور سورية العسكري حتى العام 2005 وحضورها السياسي والاستخباري المستمر. كانت سورية ولا تزال في عهودها التي يطغى على معظمها العسكر، تتسبب بمشاكل دائمة للبنان، ولم يستطع البلد الصغير التوصل الى علاقات محددة معها تحفظ مصالحه ومصالحها، لأن دمشق نفسها لم تملك سياسة واضحة تجاه جيرانها العرب، خصوصاً لبنان، أو أنها لم تستطع امتلاك مثل هذه السياسة بسبب هشاشة أنظمتها التي تقدّم نفسها في صورة القبضة الحديد لتخفي حقيقتها البائسة.
وأحدث المشكلات التي تقدّمها سورية للبنان هي مقتل عميد الأسرى العرب في إسرائيل سمير القنطار في بلدة جرمانا القريبة من دمشق، جريمة اقترفها على الأرجح الجيش الإسرائيلي وإن لم يعلن ذلك رسمياً. والآن على لبنان أن ينتظر نتائج وعيد الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله بممارسة «حق الرد». حملت وسائل الإعلام تخوّفات إسرائيلية من الرد الموعود، لكنها لم تحمل تخوّفات لا شك في وجودها لدى شعب لبناني لم تندمل جروح حربه الأهلية والاعتداءات الإسرائيلية عليه والتدخُّلات السورية في شؤونه وانخراط عدد كبير من مواطنيه في حرب سورية الأهلية والإقليمية والدولية، وفي الطليعة «حزب الله» الذي وجد من يسمعه حين نسب ذلك الى الدفاع عن حدود لبنان الشرقية والشمالية. ولكن، لم يقتنع حتى مؤيدوه بتدخُّله بعيداً جداً من الحدود اللبنانية، أي في أرياف حماه وإدلب وحلب، فكيف بمعارضيه الأساسيين الذين ضاقوا ويضيقون بوجوده المسلح في لبنان نفسه، خارج إطار الجيش وسائر القوى الأمنية الشرعية، وإن بدا متعاوناً معها، فهو يصرّ على استقلاله العسكري، وهنا المشكلة. رد «حزب الله» المتوقّع على إسرائيل يأتي هذه المرة في أجواء صعبة من الناحية السياسية، مع دخول الجيش الروسي سورية واعتبارها جزءاً من استراتيجية موسكو الدفاعية، التي استحضرت أسلحة متقدمة لحماية أجواء سورية ولبنان وجزء من العراق. لكن هذه الحماية لا تشمل عمليات «حزب الله» العسكرية: ما بعد دخول روسيا العسكري يختلف عما قبله، وهذا ما يدركه جيداً «حزب الله» وإسرائيل وتركيا، والقوى العسكرية المحلية في سورية وداعموها. في هذا المجال نشير إلى توجُّه أصوات مؤيدة للمقاومة باللوم إلى روسيا ثم خفوتها بسرعة، لأن الوجود العسكري الروسي في سورية ليس ضد إسرائيل ولا داعماً لمن يقاتلها. وفضلاً عن الوجود الروسي المحبط لـ «حزب الله» فإن النظام السوري ومعارضيه المتنوعين، لا يعنيهم قتال إسرائيل ولا تنظيم مقاومة ضدها في الجولان المحتل تستند الى ظهير في الجانب السوري من حدود وقف النار. أما اللبنانيون الذين طالما أثنوا على جهود «حزب الله» ضد الاحتلال الإسرائيلي فلا يريدون مزيداً من الصراع عند حدودهم الجنوبية، ويجتمعون على حفظ حد أدنى من السلام الداخلي اللبناني لئلا يصيبهم ما أصاب السوريين والعراقيين، وهم يرغبون بالتالي في خطة دفاع سياسية وعسكرية تُجمع عليها الأحزاب والزعامات ولا تختلف حولها، وتستند بالضرورة الى الشرعية التي يمكنها الاستعانة بمتطوّعين، شرط أن تمتلك وحدها قرار الحرب والسلم. مقتل سمير القنطار في مرحلة صراع سياسي واجتماعي في المنطقة، وحتى في داخل عدد لا يستهان به من دول هذه المنطقة. وفي هذه الخريطة المفتتة للقوى السياسية والعسكرية يتراجع الاهتمام بالصراع مع إسرائيل، ولا يبدو وعيد السيد نصرالله محلّ متابعة عربية وإقليمية، إلا ممن يمكن تعرّضهم للضرر في لبنان وسورية… وفي إسرائيل بالطبع.

رباعيات» لبنان
وليد أبي مرشد/الشرق الأوسط/24 كانون الأول/15
من حق أي لبناني، مقيمًا كان أم مغتربًا، أن يتساءل اليوم: هل كتب «مجد» الرئاسة اللبنانية لأربعة لبنانيين فقط من أصل أربعة ملايين لبناني تقريبًا؟ حتى وإن كانت الدقة السياسية تستوجب وقف هذا المجد على أبناء الطائفة المارونية وحدها، يبقى السؤال المطروح: هل أربعة موارنة فقط، من بين ربع مليون ماروني لبناني تقريبًا، يختزلون الخيار الماروني.. والرأي العام اللبناني في آن واحد؟ اللهم ليس تشكيكًا بشعبية المرشحين الأربعة للرئاسة اللبنانية ولا إنكارًا لحقهم الطبيعي في الترشح، ولكن استغرابًا لحرمان الموارنة الآخرين من ممارسة حقهم الدستوري بالترشح، رغم أن الطائفة المارونية تزخر بالشخصيات الكفؤة والنزيهة والمؤهلة لأن تكون في واجهة المؤسسة السياسية في لبنان. لا جدال في أن تركيبة لبنان المذهبية والإثنية المعقدة تبرر، مرحليًا على الأقل، العمل بنظامه السياسي الموصوف مجازًا بـ«الديمقراطية التوافقية». ولكن طغيان توافقية النظام على ديمقراطيته، في الآونة الأخيرة، حوله إلى كونفدرالية طوائف تتمتع باستقلالية شبه ناجزة في صياغة قرارها السياسي (اللبناني مبدئيًا). إلا أن اللافت أن هذه الاستقلالية بدأت تتخذ منحى التعامل مع الأحوال السياسية لأبناء طائفتها على غرار تعاملها مع أحوالها الشخصية: تتفرد بنفسها في اختيار مرشحيها للمناصب الرسمية العليا وترفض أي تدخل «خارجي» في خياراتها.
في هذا السياق يمكن تفهم حرص الطائفة المارونية على حصر عدد الأقطاب السياسيين «المقبول» ترشيحهم للمنصب الأول في لبنان بأربعة كبار (أمين الجميل وسمير جعجع وميشال عون وسليمان فرنجية). ولكن «الرباعية» المارونية عطلت عملية الاقتراع الديمقراطي للرئيس وأوصلتها إلى طريق مسدود، فلا أحد من الأربعة الكبار يتنازل عن ترشحه لأي من الثلاثة الآخرين، ولا الصيغة «الرباعية» تسمح بترشح سياسي ماروني من خارج النادي الرباعي، الأمر الذي قد يستدعي، في حال مراوحة الأزمة مكانها، تعديل الدستور اللبناني واستبدال المنصب الرئاسي الأول بمجلس رئاسي رباعي يحل، ولو مؤقتًا، العقدة الرئاسية.
ولكن المفارقة في الصيغة الرباعية المارونية أن المنصب المطلوب إشغاله هو رئاسة كل لبنان لا رئاسة الطائفة المارونية فحسب. لذلك كان يفترض بزعماء الطوائف اللبنانية الأخرى الذين التقوا حول طاولة حوار وطني ألا يساهموا – ربما عن غير قصد – في تكريس صيغة نادي الرئاسة الرباعي المغلق ويرتضوا بأن يخوضوا، على طاولة الحوار الوطني، جدلاً عقيمًا حول «مواصفات الرئيس» أوحى بقبولهم الضمني لصيغة النادي الرباعي للمرشحين دون أن يقدم مساهمة تذكر لملء الفراغ الرئاسي. مشكلة اللعبة السياسية في لبنان أنها «تمذهب» القضايا العامة و«تشخصنها». وما كان مطلوبًا طرحه على طاولة الحوار الوطني ليس مواصفات الرئيس المنتظر انتخابه بل مواصفات المرحلة التي سيعيشها لبنان في السنوات القليلة المقبلة. على ضوء تحديد هذه المواصفات كان يفترض اقتراح المرشح الأكثر قدرة على معالجة مشكلات المرحلة. على هذا الصعيد قد لا يختلف لبنانيان على أن المرحلة الصعبة التي سيواجهها لبنان في السنوات الست المقبلة (عمر الولاية الرئاسية) لن تكون سياسية بقدر ما هي معيشية – اقتصادية، أي مرحلة تقتضي طرح أسماء مرشحين تقنيين، لا سياسيين، من أمثال حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، أو منقذ شركة «نيسان» اليابانية من الإفلاس، كارلوس غصن.. والكثير من اللبنانيين الذين أثبتوا كفاءتهم في المجالات الاقتصادية والمالية سواء في الداخل أو الخارج. أما التذرع باللون السياسي لمرشح الرئاسة كقاعدة لترجيح انتخاب مرشح على آخر من القائمة الرباعية فلا يبدو مقنعًا على اعتبار أن السياسة الخارجية للرئيس القادم لن تحددها بيروت بقدر ما ستتحكم بها تطورات نزاعات المنطقة وموازين القوى الناتجة عنها. وفي حال استمرار التوافق الدولي والإقليمي على المحافظة على هدوء «الجبهة اللبنانية» وسط رمال الشرق الأوسط المتحركة قد يصح الافتراض بأن دخول روسيا كلاعب أساسي على ساحة نزاعات الشرق الأوسط من شأنه تعزيز فرص عدم تورط لبنان في هذه النزاعات والأرجح طرح تسوية روسية – أميركية شاملة لنزاعات الشرق الأوسط.. مما يعني أن الرئيس اللبناني القادم سيكون منفذًا للقرارات الدولية أكثر منه مقررًا.

التعددية في لبنان تجربة مهمة للعرب
رغيد الصلح/الحياة/24 كانون الأول/15
قبل عقدين من الزمن، وضع الديبلوماسي الفرنسي السابق جان ماري – جيهينو الذي كان يشرف على مركز التحليل واستشراف المستقبل في وزارة الخارجية الفرنسية كتاباً اتسم وفق بعض الذين راجعوه بالكثير من التشاؤم. فالفكرة المركزية في الكتاب كانت ان العالم – العالم بأسره – يتجه نحو «اللبننة». واللبننة كانت تعني آنذاك مسلسل الانقسامات الأميبية والعنف الذي لا حدود له الذي طغى على لبنان. ووقتها حذر جيهينو اصحاب القرار والرأي في فرنسا وأوروبا من مغبة التغاضي عن نموذج الاحتراب اللبناني. فالنسبة اليه، لم يعد لبنان بلداً صغيراً تائهاً في ثنايا الشرق الأوسط، ولكنه منذ بداية انجراره الى الحروب اصبح «يعيش فينا». لقد أثبتت السابقة اللبنانية، في نظر الديبلوماسي الفرنسي، ان «بدائية الشرق الاوسط هي اقرب الى حداثة اوروبا مما يظنه العارفون بشؤون العالم في الغرب». هذه السابقة التي افرجت عن مخزون هائل من التفتت والتآكل سددت، في رأيه، الى الدولة القومية الاوروبية المنشأ ضربة عنيفة من الصعب ان تخرج منها من دون خسائر. لقد قامت هذه الدولة على مفاهيم المساواة والتضامن التي تخترق المكونات المجتمعية القديمة وتجد نصيراً وسنداً قوياً لها في الطبقة المتوسطة، ولكن، للأسف، يرى جيهينو أن الطبقة المتوسطة في تراجع وأن الفرد بلغ في المجتمعات الحديثة درجة من التذرر جعلته عاجزاً عن التمسك بالتضامن الاجتماعي والقومي، وأصبح مقطوع الجذور بحيث لم تعد الطبقة الاجتماعية قادرة على ان توفر له الشعور بالانتماء. لقد بينت التطورات اللاحقة ان نبوءات الديبلوماسي الفرنسي لم تستند الى التجربة اللبنانية بمقدار ما نبعت من مناخات اوروبا الشرقية التي كانت عرضة لتطورات أطاحت الاتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا. تلك التطورات لم تقد الى نهاية الدولة القومية، بل على العكس عززت فكرة الدولة الأحادية القومية. ففي اوروبا وخارجها ايضاً يلاحظ الأكاديميان اندريه غينغريتش وماركوس بانك في كتابهما «القومية الجديدة في اوروبا وخارجها: منظور اجتماعي انتروبولوجي» ان الاحزاب والحركات التي تحمل فكرة القومية الاحادية والمتطرفة، والتي يمكن تسميتها احزاب العنصرية الجديدة، غزت العديد من دول اوروبا الغربية والشرقية وأستراليا وجنوب آسيا.
وخلافاً للأحزاب القومية الأحادية المتطرفة السابقة التي كانت تعمل خارج اطار التنافس البرلماني وتستخدم العنف ضد خصومها، فإن القوميين الجدد اتقنوا فن الإفادة من آليات العمل الديموقراطي لخدمة اهداف غير ديموقراطية. وخلافاً للمفاهيم الغامضة التي كانت تطرحها الاحزاب المشابهة في السابق، فإن الأحزاب القومية الجديدة وبخاصة في الغرب تبدو اكثر قدرة على تحديد الأعداء المحتملين والأخطار الافتراضية الوافدة على المجتمعات الاوروبية. وهي الأكثر نشاطاً في التحريض ضد المهاجرين العرب والمسلمين بصورة خاصة. وعلى هذا الصعيد سجلت «الجبهة الوطنية» الفرنسية بزعامة مارين لوبن انتصارات انتخابية مستمرة. أثارت موجة القومية الجديدة هذه ردود فعل مهمة في الغرب والدول الديموقراطية الناشئة. فمقابل هذه الموجة العنصرية الطابع والتي تمثل امتداداً للداروينية الاجتماعية والمشاريع الأمبريالية، تمكن العديد من احزاب اليسار التي تؤكد المساواة بين البشر من احراز انتصارات انتخابية مهمة. فضلاً عن ذلك، فقد طرحت احزاب وحركات اخرى مفاهيم جديدة ومتجددة حول المسألة القومية تسعى الى اكسابها طابعاً انسانياً مغايراً للثوب الذي البسها اياه العنصريون الجدد. لقد تبنت احزاب وحركات سياسية فكرة التعددية القومية انطلاقاً من الواقع السائد في بلادها. ففي حين ان الأحزاب في ألمانيا وفرنسا تميل الى فكرة الأحادية القومية، فإن الأحزاب في بلجيكا وإسبانيا وكندا وبريطانيا تميل الى فكرة التعددية القومية. وفكرة الأحادية القومية لا تصطدم في ألمانيا وفرنسا بالواقع السياسي والمجتمعي نظراً لرسوخ القوميتين الألمانية والفرنسية. اما في بلجيكا وإسبانيا وكندا فإن الواقع غير ذلك، اي ان هناك اختلافاً بين حركات قومية مؤثرة وفاعلة في هذه الدول. من هنا كان على النخبة السياسية ان تأخذ الواقع في الاعتبار وأن تحد من امكانات طرح مشاريع انفصالية عن طريق التأكيد على مفاهيم الشراكة القومية والمساواة بين الجماعات والأفراد الذين ينتمون الى قوميات مختلفة.
وفي المنطقة العربية اخذ اكثر الحكومات بفكرة القومية الاحادية، او بفكرة الانتماء المزدوج بين العامل القومي العربي والخاص الوطني المحلي. وهناك عدد قليل اخذ بالتعددية القومية. ولعل المثال الأبرز على هذا الصعيد الأخير هو النموذج اللبناني. وهذا النموذج لم يعطَ اهمية كافية لأن الطاغي على المشهد السياسي اللبناني هو السمة الطائفية والمذهبية. فالصراعات الحادة التي اجتاحت لبنان مراراً كان مصدرها الفوارق الدينية والمذهبية. وهذه الصراعات جعلت الكثيرين من علماء الاجتماع والسياسة يركزون على دراسة المكونات الدينية والمذهبية للمجتمع اللبناني وحدها، ومن ثم على تفحص ودراسة النهج الذي اعتمده لبنان في التعامل مع الطوائف الدينية وعلى علاقات هذه الطوائف مع بعضها بعضاً والنظام السياسي الذي حاول ان ينظم هذه العلاقات. ولكن هذ الانشغال ادى الى اهمال جانب مهم من جوانب التجربة السياسية اللبنانية، الا وهو المتعلق بموقف لبنان تجاه الجماعات القومية داخل الكيان اللبناني.
في هذا السياق فإن من المستطاع التحدث عن فئتين مهمتين هما الأرمن والأكراد. فالدولة اللبنانية تسمح للفئتين بممارسة النشاط السياسي والثقافي والتربوي كفئات مستقلة لها خصوصيتها الوطنية بصرف النظر عن انتمائها الديني ومواقفها السياسية. وللفئتين احزابهما المستقلة ومؤسسات خاصة بهما. ولقد لعبت الأحزاب الأرمنية ادواراً مهمة عبر التاريخ اللبناني الحديث، وتمكنت هذه الاحزاب في الكثير من الحالات من التعبير عن تآلف ملفت للنظر بين الوطنيتين اللبنانية والأرمنية، ومنذ السبعينات اتجهت القيادات الأرمنية الى بناء علاقات طبيعية مع سائر اطراف الصراع المسلح في لبنان وبفضل هذه الصلات والعلاقات تمكنت من الإسهام في خلق المناخ الملائم لعودة السلام الى الاراضي اللبنانية.
وكما شارك الأرمن بنشاط في الحياة العامة في لبنان، فقد شارك الأكراد في الحياة العامة ايضاً، ولكن نشاطهم في هذا المجال لم يتبلور كفاية كما هو الأمر مع الأرمن. يعود هذا الى اسباب تاريخية وسياسية. فالأحزاب الأرمنية تشكلت قبل عقود من الزمن من تشكيل الاحزاب الكردية، ومن هنا فإن الأولى تملك خبرات لم تتكون حتى هذا التاريخ عند الاحزاب الكردية. ولكن الاكراد لم يفتهم القطار، فما زال بإمكانهم ان يساهموا بنشاط اكبر في الحياة العامة وفي ميادين التنافس السلمي والديموقراطي بين اللبنانيين. ان تجربة التعددية القومية في لبنان هي تجربة مهمة بالنسبة الى اللبنانيين والدول العربية التي تبحث عن طريق المستقبل. وفي لبنان فإن من المفيد الحرص على هذه التجربة وترسيخها في اطار العمل السلمي والوطني وإبعادها عن الانجراف في اي مسار يضر بلبنان. ومن المفارقات ان حزب «الطاشناق» الأرمني ظل يعمل بحرية تامة في لبنان بينما صدر قرار بمنعه من ممارسة النشاط في موطنه الأصلي أرمينيا الى ان تراجعت حكومة يريفان عن ذلك القرار. وهذه الحادثة تدل على اهمية لبنان ونظامه الديموقراطي وانفتاحه الثقافي لجميع ابنائه حتى الذين يدينون بقومية اخرى او يتعاطفون معها. ان التعددية القومية تصلح كأساس للتعايش المجتمعي في العديد من الدول العربية وتساعد على انهاء الحروب في الدول التي تعاني من الصراعات المسلحة. وهي تفتح الباب امام قيام مجتمعات عربية تبنى على المساواة الراسخة والمنصفة بين مكونات هذه المجتمعات. وإذا تمكنا من نبذ الطريق اللعين، طريق التفتيش المرضي عن كل شاردة وواردة تثير الضغائن والأحقاد داخل هذه المجتمعات ووجهنا بعض جهدنا للبحث عن التجارب والأمثلة التي تؤكد التضامن والتكاتف بين مكونات هذه المجتمعات لوجدنا ما يكفينا ويحضّنا على مغادرة الطريق الأول والسير قدماً على الطريق الثاني.