رشا الأطرش/مَن قَتل منير حزينة؟//التكليف الشرعي من نصرالله بخصوص إطلاق النار ابتهاجاً أو حزناً لم يرق إلى تكليفاته الانتخابية والجهادية

326

مَن قَتل منير حزينة؟
رشا الأطرش/المدن/الجمعة 19/06/2015

التكليف الشرعي من نصرالله بخصوص إطلاق النار ابتهاجاً أو حزناً لم يرق إلى تكليفاته الانتخابية والجهادية (أ ف ب)

فارق الطفل منير حزينة، الحياة، بعد ثمانية أيام على اختراق تلك الرصاصة لرأسه. الطفل الفلسطيني السوري، ابن الأعوام الخمسة، اللاجئ في لبنان مع عائلته هرباً من ويلات مخيم اليرموك، أصابه رصاص تشييع لأحد مقاتلي “حزب الله” في منطقة روضة الشهيدين. قُتل الطفل منير حزينة بينما كان يلعب على أرجوحته قرب منزله المستحدث.. حيث أكمل جيرانه الجدد، ما حال القدر دون أن تحققه براميل بشار الأسد ومجاعته. بل قُتل منير في مناسبة موت أيضاً. موتٌ، الأرجح أنه آتٍ من أرض اللجوء الأول لعائلة حزينة. موت يرفع شعار فلسطين، و”يقاوم” إلى جانب مَن يحتلّ سوريا الآن.

المفارقات العبثية من حولنا صارت القاعدة، لكنها ما زالت مذهلة. وعميقٌ الغضب الذي تطلقه. بالعمق الذي بلغته رصاصة في رأس الصغير، واستوطنته أياماً، وأماتته سريرياً منذ الساعات الأولى. لكنه غضب لا يجد له متنفساً إلا في الدموع والحرقة. لوعة بلا ثمن. لا مسار قانونياً، اجتماعياً، أو إنسانياً لتصريفها. وهي دليل حيّ على أن الجرائم، في لبنان – حتى الجرائم – لا تستوي آلامها ولا ما يترتّب على تلك الآلام من محاولات لتحقيق شيء من العدالة.. سواء نجحت المحاولة أم أخفقت.

مؤخراً، وقعت الطفلة إيللا طنوس ضحية خطأ طبي أدى إلى بتر أطرافها الأربعة. قضية تبنّاها الإعلام، ثم تفرّعت مسالكها ومسؤولياتها الموزّعة، المهنية والقانونية والنقابية والأخلاقية، وتصاعد النقاش الحقوقي والمطلبي والسياسي. الصواب الوحيد الممكن هو أن تفهم عائلة طنوس ما حصل، وأن يُحاسَب كل من قّصر بأقصى عقوبة ممكنة، وأن تنال الرضيعة تعويضاً، رغم أنه لا تعويض كافياً.

إيللا ومنير ضحيتان للجاني نفسه: النظام اللبناني.

إيللا ضُربت بالهوامش الملتبسة بين نُظُم نقابات المهن الحرة، وتسييسها، ودينامياتها الداخلية (الانتخابية والمالية والسلطوية) التي خلخلت ثقة المواطن في جدية محاسبتها للجسم الطبي المنتمي إليها، في حال أخطأ أحد أفراده، إضافة إلى العلاقة المشوّشة بين نقابة الأطباء والقضاء وأجهزته وآليات التحقيق. بل وأصاب إيللا نصل السياسة الصحية اللبنانية عموماً، وسياسات المستشفيات والطوارئ..

ومنير، اغتاله النظام اللبناني بعجزه عن احتكار العنف والسلاح ضمن الأطر المعروفة في كنف أي دولة طبيعية.. عجز التركيبة اللبنانية المتفاقمة اضطراداً، منذ أكثر من عشر سنوات، عن إلزام مكوّناتها الطائفية والحزبية والمناطقية بالحد الأدنى من الانصياع والانضباط في شروط السلم الأهلي والمصلحة العامة، بدءاً من قرار الحرب والسِّلم وليس انتهاء بتطبيق قانون السير في الشوارع. النظام المشلول من داخله، ولا يسعه حتى أخذ الخلافات والاختلافات، المصالح والصراعات، إلى مؤسسات سياسية ومدنية، فعالة – على الأقل – في إدارة التناقضات، إن لم نقل حلّها. منير اغتاله عجز النظام اللبناني عن أن يكون نظاماً، ولو حتى بمعايير العالم الثالث.

لكن الفرق الوحيد بين إيللا ومنير، هو الفارق الذي شقّ للقضيتين مسارين متعاكسين:

وقعت الخطيئة المقترفة بحق إيللا طنوس، في الجانب المُمأسس من الفوضى اللبنانية، ولو شكلاً. فوجدت عائلتها مَن تدّعي عليه قانوناً، ومن تساجله كخصم، ومن تفاوضه كوسيط، ومن يقف إلى جانبها مؤازراً بخطوات عملية.. وجدت ماكينة إعلامية (رغم التفاهة المقيمة في كثير من زواياها) تنتج النقاش وتجعل من إيللا قضية رأي عام، بصرف النظر عما إذا أدّى ذلك كله إلى تغيير حميد في الهيكلية الناظمة للأطباء ونقابتهم والقضاء والمستشفيات وعموم المرضى والمواطنين. لكن حراكاً من هذا النوع ما زال يشفي بعض الغليل، وله فرصة مستقبلية في التراكم من أجل إنجاز ما قد يحمي آخرين من مصير الطفلة التي حكم عليها بأن تكبر بلا يدين وقدمين.

لكن منير حزينة سقط في الجانب المظلم من العبث العميم، في فوضى الفوضى.

فعلى مَن يدّعي أهله؟ ومَن يتبنّى قضيته بحراك عملي؟ وفي وجه مَن؟

الدولة اللبنانية، الموجودة في حيّ، والغائبة في حيّ آخر؟

حزب الله الخارج على الدولة، والمتكبّر على الوطن – حتى كمفهوم؟ السائر بميليشياته وطائفته والبلد كله إلى التهلكة، لا يزعه وازع إلا الوليّ الفقيه؟

شبان التشييع، الذين يتم تداول فيديو يظهرهم بوجوههم وهم يطلقون النار، والذين تفرّج عليهم عناصر “انضباط حزب الله” وهم يزفّون “شهيدهم”، ولم يستدعهم أي جهاز أمني للتحقيق؟

أم يدّعي آل حزينة على حسن نصر الله الذي خاطب أنصاره تكراراً، “مناشداً” إياهم الامتناع عن إطلاق الرصاص في المهرجانات الخطابية ومسيرات التشييع، من دون أن يأمر “انضباطه” بإجراءات لمنع مطلقي النار فعلاً أو عقابهم؟

يقال إن تعاميم نصر الله بشأن إطلاق النار في الهواء، بلغت حدّ التكليف الشرعي.. لكن يبدو أن هذه الشرعية، ونتائج الالتزام به، لا ترقى إلى ما يترتب على التكليف الشرعي بخصوص الانتخابات مثلاً، أو الجهاد. في ما يخص “حماسة الشباب”، يتّكل نصر الله، ومثله عدد من الزعماء اللبنانيين، على قوة “الحبّ” بين أب وأبنائه. لا مسؤول هنا، ولا مواطنين، ولا إجراءات زجرية أو ردعية، ناهيك عن الاستعانة بقوى الأمن، ورفع الغطاء الحزبي والطائفي عن المرتكبين!

لا، صفة الأنصار تجبّ ما قبلها وما بعدها من ارتكابات. القبيلة مُصفّحة. وقوى الأمن، كما الجيش، بحاجة إلى أذونات الديوك الصائحة فوق قمم الطوائف.. وإلا تحرّكت فزاعة “الفتنة”. كأن فزاعة الموت المجاني لا تخيف أحداً.

في هذا الجانب من النظام اللبناني، كانت أرجوحة منير حزينة.