أياد ابوشقرا/كيف ومتى نتصدّى للخطر الدعائي الجديد في الغرب؟

252

كيف ومتى نتصدّى للخطر الدعائي الجديد في الغرب؟
أياد ابوشقرا/الشرق الأوسط/03 أيار/15

يعزّ عليّ، أنني أنا الإعلامي الذي ولد ونشأ في لبنان والذي حملته مهنته إلى أقاصي قارات العالم، لم أزُر إلا بقعة حدودية واحدة بين لبنان وإسرائيل هي نقطة الأمم المتحدة في الناقورة. غير أن أقاربي وأصدقائي – وذويهم – من الذين زاروا المناطق الحدودية، ولا سيما خلال عقدي الخمسينات والستينات، كانوا يروون لي الفارق المؤسف بين وضعي المنطقتين اللتين يفصل بينهما الشريط الحدودي.

فأراضي الجليل المحتل خضراء نضرة تعتني بها كيبوتزات المستوطنين الإسرائيليين، في حين الأراضي اللبنانية مهملة تعاني البؤس لجملة من الأسباب منها الخوف من الاعتداءات ونقص التنمية في ظل سطوة الإقطاع السياسي. غير أن ما كان يلفت الزائرين أكثر هو أن المستوطن الإسرائيلي كان يحرث الأرض ويعتني بها وقد علّق على كتفه بندقيته الرشاشة. وهذا في رأيي يحمل رسالة رمزية مهمة بعيدة عن الشق العاطفي، إعجابًا أو نفورًا.

هذه الرسالة تقول إنه عندما يؤمن المرء بأن عليه أن يؤسّس وطنًا، يجب أن تنتظم لديه كل الأولويات معًا، فلا يُهمل أولوية من أجل أخرى. لا مجال للشعار العربي الشهير «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة».. الذي، على الرغم من حسن القصد منه، أدى إلى تداعيات كارثية في وطننا العربي الكبير.

إسرائيل لم تنجح فقط لأنها كيان يتمتّع بآلة عسكرية قوية، ويحظى بدعم لا ينضُب من الغرب، بل لأنها أيضًا أحسنت تعريف أولوياتها وتنسيقها من دون التضحية بأي منها. فلا الجهد العسكري حال دون التنمية الاقتصادية، ولا الانشغال بالتنمية حال دون التنبه لأهمية الإعلام والدعاية، ولا إعطاء الإعلام حقه جاء على حساب البحث العلمي. أما نحن كعرب، وكمسلمين أيضًا، علينا الإقرار بأننا أخفقنا على مدى 60 سنة في بناء «لوبي» عربي متجانس وفاعل في الغرب، وبالذات، في الولايات المتحدة. ولعلّ بين أبرز الأسباب ما يلي:

– أولاً، الافتقار إلى الرؤية الاستراتيجية التي تستند بدايةً إلى تعريف الغاية ومن ثَم تشخيص الثغرات والعلل.

– ثانيًا، الفردية في العمل و«شخصنته» في حين أن إيجاد موطن قدم في مجتمعات متقدّمة تقوم على المؤسسات يحتاج لعمل مؤسّساتي لا فردي. فالأشخاص يذهبون بينما المؤسسات تبقى.

– ثالثًا، قصر النفس في العمل وتعجّل النتائج المرجوة، مع أن فتح ثغرات في بيئات غريبة عنا وعن ثقافتنا ومفاهيمنا يقتضي الصبر، والتخطيط للمدى البعيد.

– رابعًا، جهل البيئة المطلوب العمل فيها، وهذا يعني استحالة النجاح في توصيل الرسالة المرغوب توصيلها بمعزل عن المعرفة والعلم.

اليوم يواجه العرب في الغرب، وبالأخصّ في الولايات المتحدة، معركة إعلامية أصعب وأكثر تعقيدًا ممّا ألفوه في مواجهتهم الطويلة مع «اللوبيات» الإسرائيلية.. يخوضها ضدهم «اللوبي» الإيراني.

«اللوبي» الإيراني نشط منذ بعض الوقت، وهو يعمل بذكاء وتخطيط، وينسّق مع مروحة من كتل المصالح ومجموعات الضغط، تبدأ بإغراء الشركات التجارية والصناعية الكبرى الموعودة بكنز من الثروات بمجرد رفع العقوبات الغربية والدولية المفروضة على نظام طهران، ولا تنتهي بجماعات حقوق الإنسان والتيارات الليبرالية عبر إبراز حجم معاناة الإنسان الإيراني من الحصار الاقتصادي المفروض دوليًا. وهذا، طبعًا من دون أن ينسى العمل الوثيق مع جماعات مصلحية أمنية متخصّصة في «مكافحة الإرهاب» بعدما أعاد تعريف الإرهاب، وبرّأ طهران من تُهم رعايته وتشجيع التطرّف الديني والمذهبي على امتداد الشرق الأوسط.

هذا «اللوبي» مرتاح جدًا لسياسة الرئيس باراك أوباما الخارجية القائمة على الانكفاء، والإحجام عن خوض مغامرات خارجية. ويسعد هذا «اللوبي» أكثر بامتناع واشنطن عن انتقاد سياسات طهران التدخلية والتوسعية في المشرق العربي… بأمل التوصل معها إلى اتفاق حول ملفها النووي. وبالتالي، سيكون من الغباء على نظام «مذهبي – عسكريتاري»، سبق له أن أعلن منذ أبصر النور أن غايته «تصدير الثورة» الخمينية، ألا يستفيد من هذا الوضع.

«اللوبي» الإيراني كان لفترة ما يتعمد تجاهل دور ذراع «الحرس الثوري» في العراق وسوريا ولبنان، مركّزًا أكثر على «سلمية» برنامج إيران النووي ومعاناة الشعب الإيراني من تأثير العقوبات الغربية والدولية. غير أن الوضع اختلف الآن بعدما تمرّس أكثر في فنون الدعاية والترويج، وبنى شبكة واسعة من المصالح مكّنته من غزو… حتى وسائل الإعلام الأميركية المحترمة والجادة!

هذه الأيام، يذهب هذا «اللوبي» أبعد – وبثقة أكبر – في معركته خدمة لنظام طهران في الوقت الذي ما زال ينفي أنه جزءٌ منه، فيجنّد خبرات من مشارب مختلفة وهويات مختلفة. وفي صميم حملاته الحالية إعادة تعريف «الإرهاب» ولصقه حصرًا بما تمارسه جماعات وزمَر سنّية متطرفة مثل «داعش» و«القاعدة» ومن لفّ لفّهما، بعد غَسله الذاكرة الجماعية من «إرهاب» عقد الثمانينات والتسعينات… الذي طالما رعته طهران ودفع ثمنه الرعايا الغربيون في إيران ولبنان، وفي كينيا وتنزانيا، وفي أوروبا بل على امتداد العالم.

ما يحدث اليوم في اليمن في قاموس هذا «اللوبي» هو باختصار «عدوان سعودي» أو «اعتداء عربي»، من دون أي إشارة إلى ترسانات السلاح التي بنتها طهران للحوثيين وأعوانهم اليمنيين – المنكشفين أخيرًا – منذ 2009، وفق أحدث التقارير الدولية.

ثم ليس هناك أي إشارة في دعاية هذا «اللوبي» إلى مشروع الهيمنة الإقليمية الإيرانية، بما فيه السيطرة على المجاري المائية الدولية كمضيقي هرمز وباب المندب. بل، على العكس، فإن الرسالة الجذّابة التي تروّج لها الآلة الدعائية لهذا «اللوبي»، التي تضم أميركيين وأوروبيين وعربًا، بجانب الإيرانيين، هي أن إيران «حليف طبيعي» للغرب ولأميركا في الحرب على «القاعدة» و«داعش» وكل أشكال «الإرهاب» بعد تثبيت هويته السنّيّة.

نحن الآن نواجه تحديًا علينا ألا نستهين به. علينا ألا نقنع أنفسنا بأن سوء الوضع الاقتصادي سيقنع بالضرورة القيادة الإيرانية بالحد من عدوانيتها. فنظام طهران يظن أنه يستطيع أن يقاتل ويخطّط ويسلّح ويضلل في وقت واحد.