جورج شاهين: بعد خلو سدة الرئاسة لبنان إلى أين؟/طوني عيسى: صفقة الترسيم: مَن سينفّذها؟

101

صفقة الترسيم: مَن سينفّذها؟
طوني عيسى/الجمهورية/01 شرين الثاني/2022

بعد خلو سدة الرئاسة: لبنان إلى أين؟
جورج شاهين/الجمهورية/01 شرين الثاني/2022
على رغم من الجدل الذي رافق الاجراءات الاخيرة لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون قبل ساعات قليلة على نهاية ولايته، من المفترض ان يستبدل اللبنانيون كثيرا من العبارات والملاحظات التي انتهت مفاعيلها لمجرد دخول البلاد مرحلة خلو سدة رئاسة الجمهورية من اليوم. ولذلك، لا بد من مُحاكاة ما يمكن ان تقود اليه المواقف السابقة وتلك المتوقعة على اكثر من مستوى سياسي ودستوري. وعليه، ما هي السيناريوهات المحتملة وتلك التي ينتظرها لبنان؟ طُويَ منذ صباح اليوم كثير من النظريات والقراءات التي شهدتها البلاد في الأشهر القليلة الماضية بعدما عبرت المهلة الدستورية الخاصة بانتخاب الرئيس العتيد للجمهورية من دون التوصّل الى اتمام الاستحقاق على رغم من الاقتناع شبه الشامل بأنّ المجلس النيابي أخلّ بواجباته الدستورية فتجاوز مهلة الستين يوما المحددة لهذه الغاية من دون ان يرف جفن ايّ من اعضائه على حد سواء. وقد تذرّع البعض في تنكّره لأهمية والزامية المهلة بمرحلتيها الاولى التي امتدت خمسين يوما، والثانية التي قالت بالايام العشرة الاخيرة التي لا يمكن للمجلس ان يقوم خلالها بأي مهمة غير انتخاب الرئيس. وقد تذرّعوا جميعا بما لا يرقى إليه شك، بالحرية التي سمحت لهم تارة بمقاطعة الجلسات او تطيير النصاب متى لاحت في الأفق مجرد مخاوف من ترتيب ما قد يكون تمّت فبركته في الخفاء على قاعدة «لا تنام بين القبور لئلا تخطر ببالك الاحلام المزعجة».
على هذه الخلفيات، وفي ظل هذه المؤشرات التي تنحو الى السلبية اسدل الستار على مرحلة كان يمكن ان تشهد انتخاب رئيس الجمهورية، لتقفل كثيرا من الملفات الحساسة والدقيقة التي تثير الجدل، وسط مخاوف من تبخّر بعض ما أنجز في الفترة الاخيرة. فالبلاد دخلت منذ اليوم مرحلة جديدة خَلت فيها سدة الرئاسة الجامعة للبنانيين من شاغلها، وتركت إدارة البلاد في عهدة حكومة انتقل اليها مجتمعة بعض من صلاحيات الرئيس المفقود ما عدا تلك اللصيقة بشخصه والتي لا يحتاج اليها أحد بعد اليوم قبل انتخاب الرئيس الخلف.
وعليه، لا يمكن لأي من المراقبين، أيّاً كان موقعه، ان ينكر ان الدولة اليوم في عهدة حكومة تمارس تصريف الاعمال بالمعنى الضيق للكلمة، وتفتقد ثقة المجلس النيابي الجديد الذي تسلم مهماته في 22 ايار الماضي. ولذلك فهي معرضة لشتى موجات التشكيك والاتهام التي تتقاذفها بطريقة تنزع عنها الشرعية الدستورية وصولاً الى اعتبارها غير مؤهلة لتسلم ما آلت اليها من صلاحيات الرئيس. وهو رأي يتناقض مع قائل آخر يؤكد انها ولو كانت حكومة تصريف اعمال، فإنّها بانتقالها الى مرحلة ممارسة بعض صلاحيات الرئيس تكون قد استعادت تلقائيا صلاحياتها الدستورية كاملة ويمكنها ان تدير البلاد الى حين انتخاب الرئيس العتيد. وإن من اولى مهماتها بالتعاون مع المجلس النيابي تأمين الظروف التي تدفع الى انتخابه لتستقر الحياة الدستورية وتنتظم العلاقات بين المؤسسات والسلطات كاملة تعبيرا عن وجود دولة كاملة الاوصاف.
وان تحدث احدهم عن فراغ او شغور رئاسي يردّ الخبراء الدستوريون بالقول ان الدستور لا يشرّع ولا يسمح بالفراغ او بالشغور، فهو كان واضحا عندما تحدث عن البديل عند خلو سدة الرئاسة لأيّ علة او سبب ما، وقد تعددت الأسباب التي اشار اليها، تؤول صلاحياته بالإنابة إلى الحكومة مجتمعة. والى من يرغب بالتفسير القائل انّ صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني قد انتقلت الى رئيس الحكومة السني فهو مخطئ أيضا ولن يشاركه احد هذا الامر. فصلاحيات الرئيس انتقلت الى مجلس الوزراء مجتمعاً وبقي رئيس الحكومة في موقع الوزير المتقدم على نظرائه الوزراء متمتعاً بصلاحيات محدودة تتصل بالدعوة الى اجتماع المجلس وتحضير جدول أعماله وإدارة الجلسات، وأيّ تفسير آخر لن يلقى الإجماع المطلوب ان استثنيت الآراء التي تطلق وفقاً لرغبات او امنيات او للحضّ على التفرقة والفتنة المذهبية بين اللبنانيين ومحاولة استغلال شعور البعض بالغبن إن اقتنع بوقوعه وآخرين بنشوة السلطة ان اعتقد انها مكسب لا بد من اقتناصه، وكأن ذلك حق دستوري مكتسب ودائم وليس عابراً ولمرحلة تنتهي بانتخاب الرئيس متى تحقق ذلك.
وامام هذه الصورة البانورامية التي تعيشها البلاد من اليوم وسط غيوم داكنة نتيجة فقدان الرؤية لما يمكن ان يحمله اليوم التالي، لا بد من التأكيد انّ البلاد وفي ظل الانقسامات القائمة قد دخلت من اليوم مرحلة تتعدد فيها السيناريوهات الغامضة الى درجة متناقضة لا تلتقي معظمها سوى على كثير ممّا يثير المخاوف وتبعد الإستقرار المطلوب في هذه المرحلة بالذات. فالمنطقة تغلي ومشاريع التحالفات الجديدة على النار ولا يمكن ان توفّر الضمانات المطلوبة لإبقاء البلدان المتعثرة موحدة ومستقرة ما لم يكن هناك مسؤولون في مواقعهم الدستورية كما أقرّها النظام، يلعبون ادوارهم لضمان وحدة البلاد وكيانها وإبقائها حاضرة على خريطة المنطقة والعالم. وتسعى بكل قواها الى تجنيب اللبنانيين الكأس المرة لِما يُدبّر للمنطقة من متغيرات قد تطيح بما تحقق في السنوات الاخيرة من انجازات بفعل الازمة المالية والإقتصادية ولا تنقصها ازمات سياسية ودستورية وحكومية باتت على الابواب من دون اي أفق يقود اليها والى نتائجها التي يمكن ان تكون كارثية بما للكلمة من معنى. وبناء على ما تقدم، يبدو من المنطق ان يقلق المراقبون على مصير بعض الإنجازات القليلة التي تحققت، فمشروع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وما قطعته التحضيرات التي أجريت منذ بداية نيسان الماضي باتت في خطر كما تلك الجارية مع البنك الدولي لتوفير تكلفة نقل الغاز المصري والكهرباء الأردنية، واتفاق الترسيم الذي عُد انجازاً غير مسبوق يدخل مرحلة غامضة ما لم تعيد الدولة بناء مؤسساتها وتنتظم العلاقات فيما بينها لمقاربة المرحلة المقبلة بالإصلاحات الضرورية التي يجب ان يبت بها. فهي خطوات لا بد منها لاستعادة ما فقد من ثقة داخلية وخارجية بالدولة ومؤسساتها، والاستثمار في ما تحقق قبل ان تتبخّر النتائج الايجابية التي مَنّن المسؤولون وقادة العالم اللبنانيون بها.
وختاماً، لا بد من الاشارة الى ان ما عاشته البلاد لم يكن بإرادة داخلية بحتة وقد قادته قوة امر واقع، فإذا باللبنانيين بين ليلة وضحاها يتبادلون الاتهامات وينصبون المكامن لتفكيك ما بُني من تفاهمات وحماية ما تبقى من مكونات ومظاهر الدولة، والحؤول دون توفير الآليات التي تضمن الولوج الى ابواب الفرج وتفكيك الأزمات، وفق سلّم أولويات قيل فيها وعنها الكثير قبل ان تغيب عن ألسنة المسؤولين لتغرق البلاد في مرحلة لا يمكن توصيفها بكل اللغات القانونية والدستورية، والسياسة مفتوحة على كل ما هو مجهول من الرهانات، قبل تقدير ما يمكن ان تحمله التطورات من مفاجآت بين يوم وآخر وربما بين ساعة أخرى.

صفقة الترسيم: مَن سينفّذها؟
طوني عيسى/الجمهورية/01 شرين الثاني/2022
ليست مصادفة أن تُترك صفقة الترسيم إلى الأيام الأخيرة قبل انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون. على الأرجح، نجح عون، بموافقة «حزب الله»، في ترتيب الصفقة في أفضل لحظة سياسية على المستويين الداخلي والخارجي. وستظهر النتائج تباعاً. في ملف الترسيم، يمكن الحديث عن 3 مرجعيات لبنانية كانت لها تأثيراتها في التفاوض: أولاً، الرئيس نبيه بري الذي وافق على «اتفاق الإطار»، على أساس الخط 23، وتوافقت معه كل القوى اللبنانية. ولكن، في لحظة معينة، وضع الجيش اللبناني خرائط أخرى على الطاولة توسّع المطالب اللبنانية إلى الخط 29. وقد حظي هذا الطرح بتأييد سياسي «أولي»، لكنه لم يرقَ إلى التبنّي الرسمي. وبدت قوى السلطة ومرجعياتها السياسية راغبة في تسوية «أكثر تواضعاً» أو «واقعية» للملف. فرئيس الجمهورية رفض تعديل المرسوم 6433، بمباركة شاملة من أركان السلطة. وأدّى ذلك إلى استبعاد طرح الجيش، واعتباره خط المناورة التفاوضية: نطلب كثيراً لنحصل على الأقل. وفي العمق، وافق الإسرائيليون على الخط 23، في اعتباره خط التسوية. في معيار اللعبة السياسية الداخلية، هذا يعني رجحان كفة السياسيين: بري ثم عون، واستتباعاً الحكومة ورئيسها نجيب ميقاتي. فهؤلاء هم الذين قرّروا التفاوض ووضعوا أسس الاتفاق ثم أعطوا الضوء الأخضر لولادته.
«استردّ» عون ملف الترسيم من عين التينة، لكنه لم ينقلب على «اتفاق الإطار» الذي رعى بري ولادته، فأعلن أنّه سيبقى هو الصالح من دون سواه، ولكن رئيس الجمهورية هو المولج بلوغ التسوية وتوقيع الاتفاقات الخارجية.
من جهته، لم يُظهر بري اعتراضاً على انتقال الملف إلى بعبدا، خصوصاً أنّ هذا الأمر يحظى بدعم الحليف المشترك «حزب الله». وحتى في سجالاتهما المحتدمة في الأيام الأخيرة، تجنّب عون وبري احتكار الإنجاز في ملف الترسيم، لأنّهما يعرفان أنّ صاحب القرار الحقيقي في الملف هو «حزب الله».
وفي الحقيقة، عندما بدأت تنضج فعلاً طبخة الترسيم، حدّد «الحزب» موقعه منها بكثير من الوضوح والتأني: نحن نمشي خلف الدولة وندعم قرارها. فما تراه مناسباً نحن معه. وبهذا الموقف أكّد «الحزب» مدى ثقته في تركيبة الدولة الحالية، كما أبعد عن نفسه عناء الانخراط في مفاوضات مع إسرائيل ولو في شكل غير مباشر، وترك الهامش واسعاً أمامه لكي يعلن رفض الطروحات أو قبولها ويحدّد الوقت المناسب لعقد الاتفاق. في ضوء ذلك، يمكن القول إنّ الفريق الذي صنع اتفاق الترسيم من الألف إلى الياء هو الذي يحظى بامتياز تنفيذه. وهذا الأمر لا يبدو متعذراً حصوله في لبنان، لأنّ السلطة الحالية، التي هي نفسها تدير البلد منذ سنوات، قادرة على إدارته لسنوات أخرى، من دون شك. والأرجح أنّ تجربة الانتخابات النيابية في الربيع الفائت كانت آخر محاولة بذلتها القوى العربية والدولية الساعية إلى تغيير هذه السلطة أو التغيير فيها على الأقل. وقد انتهت هذه المحاولة، كما الانتفاضات، إلى فشل ذريع. ومنذ ذلك الحين، ظهر التفاهم على مداه بين الأميركيين والفرنسيين وإيران وحلفائها اللبنانيين، وغذّاه التقارب في ملف الترسيم.
لذلك، لن يكون مستبعداً أن تتخلّى إدارة الرئيس جو بايدن عن الموقف السابق، المتشدّد، من إيران وحلفائها اللبنانيين، والذي تبنّته إدارة الرئيس دونالد ترامب. ويشجعها الفرنسيون على ذلك، لما فيه مصلحتهم ورؤيتهم للتسويات في لبنان والشرق الأوسط.
يعني ذلك، منطقياً، الحدّ من استخدام العقوبات ضدّ «حزب الله» وحلفائه في لبنان ورفع الحصار عنهم أو تقليص مفاعيله، بعدما أظهر هؤلاء تجاوباً في ملفات التسوية التي يعمل لها الأميركيون إقليمياً. فـ «الحزب» وحلفاؤه أثبتوا أنّهم جديرون بثقة القوى الدولية وأنّهم ليسوا عنصر تعطيل للتسويات.
وستكون لهذا التصور انعكاسات عميقة على الوضع الداخلي في لبنان. فعلى الأرجح، لن تحظى قوى المعارضة والاعتراض (على تشرذمها وإرباكها) بدعم الأميركيين والغربيين بعد اليوم، وربما لم يعد لها سوى دعم بعض القوى العربية. وهذا الأمر سيبقيها في موقع الضعيف، إلى موعد غير محدّد، فيما السلطة ستخلو للقوى التي تمسك بها حالياً.
استطراداً، هذا الأمر يعني أنّ السلطة التنفيذية التي تقع اليوم في وضعية تصريف أعمال حكومية وشغور رئاسي ستبقى في أيدي القوى نفسها التي أبرمت الاتفاق الإقليمي – الدولي، أياً كانت الظروف.
وما يهم القوى الدولية هو تنفيذ اتفاق الترسيم من دون أزمات، وتطوير مناخ التهدئة وأسلوب المفاوضات في السنوات المقبلة، ومحاولة استكمال هذا المسار بخطوات أخرى مماثلة، أياً يكن من يقوم بذلك. وثمة من يعتقد أنّ اتفاق الترسيم ربما ينطوي على تفاهمات ضمنية في هذا المعنى، بحيث تُكافأ القوى التي أبرمته وتحمّلت تبعات الموافقة عليه، لا سواها. ووفق هذا المنطق، ليس مستبعداً أن يوافق الأميركيون على طروحات جديدة في ما يتعلق بهوية رئيس الجمهورية المقبل وهوية رئيس الحكومة التي ستواكبه، وتركيبة هذه الحكومة.
وهذا ما يفسّر قول عون، في حديثه أخيراً عن حظوظ النائب جبران باسيل الرئاسية: «صحيح أنّه مشمول بالعقوبات، ولكن نحن قادرون على تبديدها». وعلى الأرجح، يتصرّف عون على هذا الأساس. وهو سيتعاطى مع فترة الشغور باعتبارها فرصة لطبخ التسوية التي كانت تبدو صعبة لو لم يتحقق الترسيم، أي إيصال باسيل إلى الرئاسة. وهذه التسوية قد لا يكون صعباً تحقيقها داخلياً، إذا كان «حزب الله» يريدها فعلاً. ويبقى فقط تسويقها خارجياً، حيث يجدر تغيير نهج الأميركيين، من العقوبات على باسيل إلى «التطبيع» معه، فلا يعطلون وصوله إلى بعبدا. وحينذاك، تكون ولايته امتداداً لولاية عون. وعليه تقع المهمات المحتملة في المراحل الآتية. ليس واقعياً الإفراط في التوقعات. ولكن، بعد الترسيم، بات محتملاً حدوث تطورات كانت تُعتبر خيالية، بين الأميركيين و»حزب الله» وحلفائه.