أحمد عدنان/موقع لبنان الكبير: الميليشيات الرديفة: إرهاب جديد يستهدف لبنان والخليج

55

الميليشيات الرديفة: إرهاب جديد يستهدف لبنان والخليج
أحمد عدنان/موقع لبنان الكبير/23 أيار/2024

في أغسطس (آب) 2008، وقعت ميليشيا “حزب الله” وثيقة تفاهم مع فصائل سلفية لبنانية، وكانت الوثيقة في غاية الخطورة إذ نصت على “حق أي مجموعة باللجوء الى الوسائل المشروعة للدفاع عن النفس عند تعرضها الى اعتداء”، كما أكدت على وقوف كل طرف مع الآخر “بقوة وحزم” اذا تعرض “حزب الله” أو السلفيون “لأي ظلم ظاهر وجلي من أطراف داخلية أو خارجية”، وترجمة هذه النصوص بالمعنى السياسي أن الحزب وسلفيين دخلوا في تحالف مسلح ضد الدولة اللبنانية وضد قوى 14 آذار السيادية وعلى رأسها تيار “المستقبل”.

لم تعش الوثيقة طويلاً لجملة أسباب، منها قوة مقام رئيس الحكومة وقت الرئيس فؤاد السنيورة، واتحاد أغلب السنة تحت مظلة تيار “المستقبل” بزعامة “الرئيس” سعد الحريري، وأن الفصائل السلفية التي تفاهمت مع “حزب الله” لم تكن ذات وزن داخل التيار السلفي نفسه، إذ صرح بعد إعلان وثيقة التفاهم مرجع السلفيين في لبنان أو كبيرهم، الشيخ داعي الإسلام الشهال، قائلاً: “هذه الوثيقة محاولة لشق واختراق التيار السني والسلفي، والتيار السلفي غير معني بهذه الوثيقة التي وقعها حزب الله مع فصائل سلفية صغيرة”.

لكن موت هذه الوثيقة كانت خلفه أسباب أهم، على رأسها، أن السنة شاهدوا ولمسوا بأنفسهم قبل أقل من سنة على توقيعها غاية ومغبة اختراق محور الممانعة للساحة السنية من خلال تنظيم “فتح الإسلام” في مخيم نهر البارد، وأن الهدف من هذا الاختراق هو دمغ السنة بالتطرف و”طلبنة” المجتمع السني وإسقاط الدولة، أي أن الحزب ومن خلفه يريدون اختراق السنة لضرب السنة.

ولا يغيب المشهد الإقليمي عن ولادة هذه الوثيقة وموتها، ففي ذلك الوقت، كانت السياستان القطرية والتركية أقرب الى طهران ودمشق من عواصم الاعتدال العريي (الرياض، القاهرة، عمان وأبوظبي)، الأمر الذي أسهم في ولادة الوثيقة، لكن الحضور الطاغي للمملكة العربية السعودية في لبنان كان عاملاً حاسماً في دفن هذا التفاهم. وبعد نحو 3 سنوات من توقيع الوثيقة الموؤودة افترق القطريون والأتراك عن المسار الإيراني بسبب الثورة السورية، وهذا انسحب على الفصائل الإسلاموية القريبة من الدوحة وأنقرة.

العودة إلى هذه الوثيقة مهم جداً، لفهم ظاهرة “قوات الفجر” التابعة لـ “الجماعة الإسلامية” (الإخوان المسلمون في لبنان)، وهي – أي القوات – فصيل عسكري تابع لإيران تماماً، يدعي ظاهراً نصرة القضية الفلسطينية والدفاع عن غزة، لكنه حقيقة قد لا يختلف عن تنظيم “فتح الإسلام” في 2007 ووثيقة التفاهم الإيرانية – السلفية في 2008، أي اختراق السنة لطلبنتهم ودمغهم بالتطرف، وضرب الأغلبية السنية المعتدلة والعروبية بالأقلية المتطرفة والمتأيرنة التي ستكسب سلطاناً على السنة لن تمنحه الانتخابات.

حاولت ميليشيا “حزب الله” تأسيس ما يسمى بـ “سرايا المقاومة” لاختراق السنة مجدداً عسكرياً وسياسياً، لكن المحاولة فشلت إلى حد كبير، فالسرايا عبارة عن فصيل عسكري غير شيعي (أغلبه سني) يتبع تنظيمياً بشكل مباشر وعضوي للحزب، لكن الرفض السني للسرايا كان محسوماً لأن عناصرها من أرباب السوابق، ولا عقيدة لهم سوى قبض المال، ومسلكهم في المناطق السنية كان محل ازدراء واحتقار، فضلاً عن أن سياسات محور الممانعة (طهران – دمشق) كانت وما زالت ضد السنة في كل زمان ومكان.

عصفت بالمنطقة تحولات كبيرة وخطيرة انعكست على المشهد اللبناني عموماً والمشهد السني خصوصاً، أهمها شعور بعض السنة وبعض اللبنانيين بأن دول الاعتدال العربي قد انسحبت سياسياً من لبنان، كما أن مقام “رئيس الحكومة” أياً كان اسمه قد اعتراه الوهن بسبب الأعراف والبدع المناقضة لاتفاق الطائف بداية من اتفاق الدوحة 2008 الذي شل الحكومات ورؤساءها بالثلث المعطل، ومروراً بحكومة الرئيس تمام سلام (2014) التي سلمت وزارة المال – أداة رئيس الحكومة في مزاولة وممارسة دوره الوطني والدستوري – إلى الثنائي الشيعي، وليس انتهاء بالتسوية الرئاسية في 2016 التي كرّست الأعراف والبدع وفاقمتها على حساب رئيس الحكومة.

في مطلع سنة 2023، وقعت السعودية وإيران إعلان مصالحة بكين برعاية صينية، وكانت أهم بنوده: تأكيد السعودية وإيران على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.

ومما لا شك فيه، أن المملكة التزمت بمصالحة بكين، لكن الشكوك كثيرة وكبيرة في التزام إيران بالمصالحة لسبب عضوي يتعلق بالجمهورية الإسلامية الإيرانية، فالاتفاق مع الدولة الإيرانية ليس ملزماً للحرس الثوري الإيراني من جهة، ومن جهة أخرى لا تحتاج إيران الدولة ولا إيران الحرس إلى التدخل الظاهر والفج في شؤون الدول الأخرى، فميليشياتها المحلية (المتأيرنة) تفي بالغرض.

ومن وجهة نظري، قدم الأداء السياسي الإيراني في لبنان صورة صريحة للتملص الراهن والمستقبلي من مصالحة بكين، وكشف شكلاً جديداً لمحاولة اختراق السنة بعد محاولات “فتح الإسلام” والسرايا ووثيقة التفاهم مع السلفيين.

أحيا محور الممانعة علاقته بـ “الجماعة الإسلامية” بعد انقطاع سببه الثورة السورية، فالعلاقة بين الإسلام السياسي الشيعي وجماعة الإخوان متجذرة، إذ تعد مؤلفات سيد قطب من أدبيات الثورة الإسلاموية الإيرانية وحزب الدعوة الإسلامية، والعلاقات المباشرة بين “حزب الله” و”الجماعة الإسلامية” قديمة، وأذكر أنني دعيت إلى مناسبة بمدينة جدة أواخر عام 2006 كان ضيفها أحد قيادات “الجماعة” (أسعد هرموش)، وكان مفاجئاً لأغلب الحاضرين قوله بأن “الجماعة” لديها جناح عسكري قاتل جنباً إلى جنب مع “حزب الله” في حرب تموز! وسبب المفاجأة أن الإعلام الممانع – وغير الممانع – لم يذكر ذلك أبداً آنذاك، لذلك من مظاهر إحياء العلاقة اليوم تفخيم إعلام الممانعة للدور الثانوي الذي أدته “الجماعة” – “قوات الفجر” في حرب الجنوب، التي اندلعت قبل أشهر توازياً مع حرب غزة.

وهذا الإحياء يحقق مصالح متعددة لأصحابه:
– إذ ستتناغم شبكة الأدوات الإيرانية مع شبكة الأدوات الإخوانية، ونحن نتحدث هنا عن شبكتين عابرتين للحدود، رغم كل الضربات التي تلقتها الشبكة الإيرانية من خلال العقوبات الأميركية، والضربات الموجعة التي تلقتها جماعة الإخوان من دول الاعتدال العربي.

– وستسهل “الجماعة” للحزب ومن خلفه إيران، اختراق السنة داخل لبنان وخارجه، بحكم انتفاء عائق العجمة (اللسان العربي) مع انتفاء عائق المذهب (فهم سنة مثل من يستهدفونهم)، إضافة إلى جمهور الإخوان المترابط عبر الحدود، واستغلال الظرف الاقتصادي والمالي في لبنان، وتضخيم دور “الجماعة” في حرب الجنوب بحكم تعاطف السنة والعرب مع القضية الفلسطينية داخل لبنان وخارجه.

– وكما بدأ “حزب الله” كحركة مقاومة بالنسبة الى أغلب العرب وفق الظاهر سنة 2000، ثم انكشف وجهه الحقيقي بداية من اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في 2005، سينخدع البعض بالبطولات المزعومة لقوات الفجر “التي تنصر غزة”، حتى ينكشف وجهها الفظ عاجلاً أو آجلاً، ومن حسن الحظ أن “الجماعة” لم تتأخر في كشف نواياها بالاستعراض العسكري في عكار (شمال لبنان) في أبريل/نيسان الماضي، وعكار ليست على حدود إسرائيل، وليست مسرح عمليات في أي مواجهة، لكن محور الممانعة استهدف شمال لبنان، خزان السنة والبيئة الرافضة للمحور، بالأمس عبر “فتح الإسلام” واليوم عبر “الجماعة” و”قوات الفجر”، واللافت حقاً وفق معلومات بحاجة إلى التدقيق، فإن أغلب العناصر التي شاركت في استعراض عكار العسكري كانت تقاتل في سوريا ضد بشار الأسد، وما كانت هذه العناصر لتعود إلى لبنان حرة آمنة لولا صفقة شاملة مع الحزب الإلهي.

– و”الجماعة” وقواتها ليست حالة استثنائية، بل هذا ما كشفته لنا حرب غزة من “ميليشيات رديفة”، ستستطيع إيران من خلالها، القيام بكل ما يناقض مصالحة بكين، من دون أن تتعرض لمؤاخذة أو عتبأاو لوم من الراعي الصيني، فميليشياتها الشيعية ستكون بعيدة ظاهراً، ولن يضطر “حزب الله” إلى النزول بنفسه في بعض المناطق كما حصل في بيروت خلال 7 أيار 2008، ولن تتعرض عناصره للملاحقة والإدانة كما جرى في المحكمة الدولية مع جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ولن يعرض الشيعة خارج لبنان إلى الخطر كما جرى في قضية خلية العبدلي في الكويت 2015، إذ ستحمل الميليشيات الرديفة وعناصرها السنية المحلية (المتأيرنة) وزر كل الأفعال التي سبق أن أدينت بها الميليشيات المتأيرنة داخل لبنان وخارجه: الاغتيالات، التجسس وغسل الأموال… إلخ.

اختيار إيران أو الحزب لـ “الجماعة الإسلامية” تفادى اختيار أرباب السوابق كما جرى مع تجربة السرايا، وتفادى اختيار الأجانب كما جرى في تجربة “فتح الإسلام”، ليستغل عصبة قائمة على “العقيدة” وعابرة للحدود – وإن كانت هذه العصبة شعبيتها محدودة جداً في لبنان ومحاصرة خارجه – وستستفيد جماعة الإخوان في المقابل من اتخاذ لبنان كنقطة ارتكاز جديدة للملمة شتات “الجماعة” وإعادة بنائها في المنطقة.

إلى هذه اللحظة لم نكتشف من الميليشيات الرديفة سوى “قوات الفجر”، لكن الأخبار القادمة من لبنان، بشأن ضبط واكتشاف الجيش والقوى الأمنية شاحنات أسلحة في مناطق لبنانية مختلفة، أمر يثير القلق، وربما يشير إلى ميليشيات رديفة أخرى وجديدة ترتدي أثواباً طائفية ومناطقية وسياسية متنوعة، فحركة “حماس” دعت قبل أشهر في لبنان إلى الانضمام إلى فصيل عسكري جديد “طلائع طوفان الأقصى”، وأشارت شخصية ممانعة في مقابلة تلفزيونية إلى وجود 2000 لاجئ سوري مسلح. ويجب أن لا ننسى أن زيادة عدد الميليشيات في لبنان يجعل شرعية ميليشيا “حزب الله” أمراً واقعاً لا فكاك من مساكنته رغماً عن الدستور والقرارات الدولية.

الحلول لمواجهة هذه الوقائع يكمن في الآتي:
– معاملة إيران بالمثل، فكما أنه توجد هناك إيرانان يجب أن يكون هناك عربان، عرب الدولة الذين يعاملون إيران الدولة كما تعاملهم، وحلفاء عرب الدولة الذين يتعاملون مع إيران الحرس الثوري بالمثل أقله سياسياً، وهؤلاء الحلفاء موجودون لكنهم يستحقون مزيداً من التبني والاحتضان والرعاية.

– يمكن تفهم تأثير الفراغ الذي أبعد العرب عن لبنان، إذ يريد محور الاعتدال معاملة لبنان من دولة لدولة، لكن الملاحظ أن فترات الفراغ الطويلة، بالتضامن مع الأزمة المالية والاقتصادية أديا إلى تحلل الدولة اللبنانية واهترائها، وبالتالي، فالقوى المعادية تستغل الفراغ لضرب المصالح العربية أمنياً وسياسياً راهناً ومستقبلاً، وسيكون الرهان على عودة الدولة إلى العمل بكفاءة فورية وسريعة فور انتهاء الفراغ محل شك، وبالتالي محور الاعتدال مطالب من أجل مصالحه المباشرة قبل مصالح لبنان بالعمل بجدية في وقت الفراغ لزيادة مكاسبه وتأمين مصالحه بعد انتهاء الفراغ، والحق أن إنهاء الفراغ يجب أن يكون هدفاً استراتيجياً يتم العمل عليه بطريقة أكثر جدية وفعالية وحزماً لمعالجته.

– بالإضافة إلى الإصلاحات المالية والاقتصادية التي نصت عليها مؤتمرات باريس 1 و 2 وسيدر، وقع لبنان الاتفاقية العربية لمكافحة الإرهاب، وهذه الاتفاقية وجب تفعيلها بالتعاضد والتآزر بين لبنان ومحور الاعتدال العربي، وهذا يستدعي أقله المزيد من دعم الجيش والقوى الأمنية في لبنان وفق معيار الإنجاز.

– التأكيد على أن الدولة اللبنانية مطالبة بتطبيق القرارات الدولية والتي نص عليها جميعاً القرار 1701.

– التأكيد على العودة إلى اتفاق الطائف وإلغاء الأعراف والبدع التي أضعفت الدور الوطني لرئيس الحكومة من جهة، ومن جهة أخرى فإن هذا الاتفاق وإن أعطى استثناء لسلاح “حزب الله” إلى حين تحرير الأرض (الذي تحقق بالفعل عام 2000)، فهو لم يعطِ أي حق لتأسيس ميليشيات جديدة أو رديفة أياً كانت أسبابها وأهدافها.

– إن تجربة محور الاعتدال الناجحة في محاربة تنظيم جماعة الإخوان لم تنته بعد، بل ربما تستدعي سد بعض الثغرات ومنها لبنان.

– قد تؤجل الظروف الدولية مواجهة ميليشيا “حزب الله”، وقد تستدعي ربطاً جديداً للنزاع، لكن ما هو التعريف الصحيح لربط النزاع؟ ليس بالتأكيد رئيس جمهورية مقابل رئيس حكومة وتقاسم السلطة، بل انسحاب الميليشيات من أجهزة الدولة ومؤسساتها تماماً مقابل هدنة طويلة محلية وإقليمية ودولية مشروطة بتوقف الميليشيات عن ممارسة الأنشطة الإرهابية داخل لبنان وخارجه صراحة أو عبر وكلاء.

– كل ما سبق، يجب أن يكون واضحاً لدى رئيس الجمهورية الجديد، ورئيس الحكومة الجديدة، والحكومة الجديدة، كخريطة طريق ملزمة لعودة لبنان إلى جادة الأمان والاستقرار والازدهار خصوصاً على الصعيدين المالي والاقتصادي.

وفي الختام، وجب التذكير بخامة سنة لبنان النادرة والثمينة في دنيا العرب، ففي دول أخرى، تلجأ السلطات إلى التزوير والبطش لمنع الإسلام السياسي من الفوز في الانتخابات، لكن لبنان لم يمنح الإسلام السياسي في انتخابات 2009 سوى مقعد واحد لـ “الجماعة الإسلامية” بفضل التحالف مع تيار “المستقبل”، وفي انتخابات 2018 كسب الإسلام السياسي مقعداً واحداً للاحباش، وفي انتخابات 2022 التي شهدت أسوأ ظروف السنة حصل الإسلام السياسي على 3 مقاعد فقط (مقعد لـ “الجماعة” ومقعدان للأحباش)، وكل ذلك من أصل 27 مقعداً سنياً، وهذا وعي فريد لا يجوز تضييعه ولا إهماله ولا الاستخفاف بالأخطار التي تحدق به، وإلا فإن الآثار السلبية ستبتلع لبنان وتمتد إلى محيطه وجواره عاجلاً وآجلاً، قال تعالى: “هَٰذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ”.