الاهتراء اللبناني والوصي الإيراني
علي الأمين/العرب/19 كانون الأول/17
المظلة الإيرانية التي تلقي بظلالها على لبنان، أتاحت لأطراف السلطة في لبنان إمكانية الاستمرار في مواقعها، لكنها في المقابل لا تقدم إلا المزيد من الاستنزاف والعجز.
الاهتراء الاقتصادي والمالي الذي يعاني منه لبنان، يعكس في جانب محوري منه حجم الاهتراء السياسي الذي يعاني منه هذا البلد الذي بات أسير سيطرة أحادية، يمثلها حزب الله أو ما يسمى المحور الإيراني على مستوى المنطقة.
الاهتراء الاقتصادي والمالي الذي نشير إليه، لا يخلّ به ما يقال في لبنان عن إمكانية تحول لبنان إلى دولة نفطية تنتج الغاز وتصدره، بل احتفاء أطراف السلطة بهذا الحلم الذي يحاولون من خلاله بيع أحلام النفط إلى المواطنين.
الاهتراء لا يتصل بتراجع النمو إلى حدود الواحد في المئة هذا العام، ولا في تراجع الصادرات، ولا في زيادة عدد العاطلين عن العمل، ولا في زيادة الدين العام الذي تجاوز في مجمله حدود 118 مليار دولار، ولا اختلال ميزان المدفوعات ولا الأزمة التي يعانيها قطاع العقارات والبناء. الاهتراء ليس في كل ذلك فحسب، بل في السياسات أو قل في غيابها الذي يدفع لبنان، أكثر فأكثر، نحو المزيد من الانحدار الاقتصادي والمالي ذي المنشأ السياسي.
إعادة إنتاج السلطة يتم اليوم اعتمادا على حلف وثيق، بين ذهنية المحاصصة وتقاسم المنافع على حساب الدولة، وسلطة الوصاية التي تكفل تنظيم عملية المحاصصة وعدالتها بين أطراف السلطة، في مقابل التسليم لسلطة الوصاية التي يمثلها حزب الله باعتبار لبنان قاعدة من قواعد المحور الإيراني. وقد ساهم في الدفع نحو تعزيز معادلة السلطة هذه بشروطها المالية والسياسية، اتجاه دولي فاعل لا يزال يرى في الوصاية القائمة على لبنان، مصدر استقرار أمني وعسكري فيما البدائل لا تضمن النتائج التي يريدها الأوروبيون مثلا، على صعيد عدم تدفق اللاجئين، ولا يجد مسؤولو الإدارة الأميركية ما يجعلهم يغامرون بالوصاية الإيرانية طالما أن هذه الوصاية لا تخلّ بالمصالح الاستراتيجية المتصلة باستمرار الاستقرار على الحدود بين لبنان وإسرائيل، وفي الوقت نفسه التزام إيران وحزب الله إلى حد كبير بوظيفتهما المتصلة بكونهما حاجزا طبيعيا أمام تمدد منظمات إرهابية سنية في مناطق نفوذهما في سوريا ولبنان.
هذه المعادلة التي ثبت أنها الأهم في الحسابات الإقليمية والدولية اليوم في لبنان، ولا سيما بعدما رأى الجميع المسار الذي سلكه رئيس حكومة لبنان سعد الحريري من بيان الاستقالة في الرابع من نوفمبر إلى بيان التريث، ثم العودة عن الاستقالة. هذا المسار وما تضمنه من مواقف دولية وإقليمية، أكد حقيقة أن لبنان لم يزل خارج المناطق الساخنة، وليس في أولويات المجتمع الدولي ولا العربي، هذه الرسالة أطلقت العنان لدينامية الفساد، نقول الفساد لأن أساس وجوهر المعادلة الحاكمة في لبنان والتي نسميها الوصاية الإيرانية، تفتقد لخطة استقرار أو رؤية نهوض بالدولة، فهي في جوهرها تقوم على تعطيل الدولة أو حماية هشاشتها بشكل يبقيها عاجزة، باعتبار أن التحدّي الذي تواجهه الدولة اللبنانية يكمن في قدرتها على أن تحقق أول تعريف لمفهوم الدولة وهو حق احتكار العنف، وهو تعريف يتنافى مع ما هو قائم لجهة سيطرة حزب الله وتعطيله الموضوعي لوظيفة الدولة بطبيعته الأمنية والعسكرية وبولائه المعلن والصريح للقيادة الإيرانية.
هذه المعادلة المختلة على مستوى سلطة الدولة، ولكن التي تحظى حتى اليوم بغطاء دولي، هو ما أطلق شهية أطراف السلطة إلى المزيد من تفعيل عملية نهب ما أمكن لهم من ثروات فوق الأرض ومن ثروات تحتها، فعملية تلزيم شركات للتنقيب عن البترول في المياه الإقليمية حظيت بتوافق غير مسبوق داخل الحكومة، والسرّ في ذلك لم يعد سرا، ورائحة الصفقات المشبوهة لم تعد خافية، وهي الصفقات التي أتاحت عملية تقاسم طالت مشاريع استراتيجية في النفط وفي الكهرباء، وتكتسب هذه المشاريع بعدا خطرا باعتبارها مشاريع ممتدة لسنوات في المرحلة المقبلة، وهي تتيح لأطراف السلطة القدرة على السيطرة على مصادر مالية تدار بشكل مشبوه.
هذه السيطرة تتطلب حماية المعادلة السياسية التي يقوم بها حزب الله ممثلا المحور الإيراني، لكن من دون أن يتكلف بدعم حلفائه ماليا بل يقاسمهم المغانم اللبنانية ويوفر الحماية لهم على هذا الصعيد.
معادلة السلطة التي قامت في لبنان تنطلق نحو الانتخابات النيابية بثقة، ولكن بتسليم أن حزب الله هو من يدير هذه الانتخابات، عبر ترتيب التحالفات التي تمنع تسرب ما يخل بمعادلة السلطة القائمة، أي بمعنى عملية إعادة إنتاج السلطة ذاتها، مع أرجحية متوقعة عدديا في المجلس النيابي للنواة الصلبة للسلطة التي يمثلها حزب الله، فهو يستعد لتشكيل كتلة نيابية صافية له وإن كانت تدّعي الانتماء لكل الطوائف اللبنانية، مستفيدا من قانون الانتخاب الذي كان هو من شجع عليه، بل فرضه بصفقة تضمن لبقية أطراف السلطة حصصا مقبولة في نتائجه بالبرلمان.
المظلة الإيرانية التي تلقي بظلالها على لبنان، أتاحت لأطراف السلطة في لبنان إمكانية الاستمرار في مواقعها، لكنها في المقابل لا تقدم إلا المزيد من الاستنزاف والعجز عن مواجهة الأزمات الاقتصادية والمالية، والمزيد من تراجع سلطة القضاء، التي تحوّلت إلى أداة يجري استخدامها في مواجهة كل من يعلن اعتراضه على السلطة، أو يشير إلى ما يرشُحُ من فساد في أعمالها.
علما أن كل المؤشرات لا تعطي انطباعا إيجابيا بأن لبنان مقبل على مرحلة يمكن أن يشهد فيها عملية نهوض اقتصادي، غير أن الذي يهدّد هوية لبنان هو أن التنوع بات عنصرا شكليا فيه، لا يمسّ عمق الحياة السياسية التي باتت تحت قبضة إيرانية، وهو ما يعني بالضرورة أن لبنان يفتقد ميزته الاقتصادية، أي الميزة الجاذبة لاستثمارات متنوعة كانت تجد في التنوع اللبناني مساحة سياسية رحبة توفر قدرة على الاستثمار والجذب بشرط الأمن والاستقرار، المعادلة الحاكمة في لبنان تقدّم نفسها على أنها توفر الأمن، ولكن الاستقرار شيء آخر، السياسة شرط أوّلي فيه والاقتصاد قاعدة الأمان التي تزداد تصدّعا.