دمشق الآن: هذيان وأنين بين الأطلال
النهار/محمد ابي سمرا
1 تشرين الثاني 2014
دمشق الصامتة قهراً وذلاً طوال أكثر من نصف قرن تحت أحكام طوارئ البعث والاسد، كيف يعيش اليوم من تبقى فيها من أهلها وسكانها، بعد نحو 4 سنوات على الثورة السلمية المغدورة؟ هنا شهادة عن حياتها اليومية الراهنة من شخص سوري لا يزال يقيم فيها، ويغادرها لأيام زائراً بيروت في أوقات متباعدة.
الآن، كلما ابتعدتُ من دمشق وصرتُ خارج سوريا، لا يبقى في ذاكرتي ومخيلتي أو في ذاكرتي المتخيلة، منها ومن حياتي وحياة البشر فيها، سوى صور رمادية أو رصاصية ثقيلة؛ صور تستدعي صوراً ومشاهد من أفلام عن النازية في أوروبا الحرب العالمية الثانية. أروح أفكر متسائلة: كيف تجرّعنا تدريجاً يوميات حياتنا تلك، ولماذا لا أنتبه الى أنها على هذه الصورة، إلا بعد خروجي وابتعادي من دمشق الى بلد آخر؟
دمشق اليوم معسكر اعتقال كبير، يحوطه الدمار والخراب من الجهات كلها. في داخله زحام من الجنود والعساكر والمسلحين والناس السادرين الهائمين كشحاذين في شوارع تتلاصق على أرصفتها بسطات تتراكم عليها تلال من البضائع والسلع والأشياء الغريبة العجيبة المندلقة أمام أبصار العابرين التائهين، كأنهم في يوم القيامة أو الحشر. حطام بشر في حطام مجتمع عسكري حربي يدب فيه التفسخ المادي والأخلاقي، فيعيش حياة آنية في مناخ من الفوضى العارمة.
المراهقات الغانيات
جموع من فتيات مراهقات يلطخن وجوههن بمستحضرات تجميل رخيصة، ويسرحن في الشوارع والحدائق والأماكن العامة، كغانيات صغيرات يتودّدن إلى الجنود والشبيحة والسراقين (العفّيشة في لغتنا السورية الدارجة اليوم)، راغبات في مصاحبتهم لنهار أو ليلة، كي يحصّلن منهم دعوة الى غداء أو عشاء فاخر في مطعم، أو ثوباً جديداً زاهياً لبؤسهن الشريد، أو سوى ذلك من سلع باهظة الأثمان في المقاييس السورية العسيرة الراهنة. فتيات مراهقات، بعضهن محجبات دفعتهن فوضى الحياة واضطرابها، التشرد وتفكك والأسر والعلاقات وتفسخها، وندرة الفتيان والشبان العاديين، الى طلب العيش والرغبات في علاقات آنية، سريعة وعابرة. تشردهن والتفلت العام وعددهن الفائض، حملتهن على الخروج من أحياء الضواحي، قاصدات شوارع وسط المدينة المزدحمة بالجنود ورجال الأمن.
شاب أعرفه قال لي مرة إن ركاب الباصات كانوا يتجنبون الشبانَ السوريين الذين يؤدون خدمتهم الإلزامية في الجيش، ينفرون ويشمئزون من روائحهم المقرفة، فيبتعدون منهم، على خلاف ما يحدث اليوم، إذ تتقصّد الفتيات أن تتلاصق أجسامهن وتتحسّس أجسام الجنود وعناصر جيش الدفاع الوطني في الباصات، لإثارتهم كي يحظين بصحبتهم صحبة عابرة. أما في الشوارع فتسعى الفتيات في استمالة المجندين. قسم لا بأس به منهن يقضين أوقاتا من النهارات وينمن في الحدائق العامة. إنهن من عائلات النازحين الى دمشق والمشردين فيها، أو من أسر تعاونت أربع أو خمس منها على استئجار غرفة واحدة لإقامتها المشتركة، فيما تفشّت في الأسر الدمشقية حالات الطلاق الكثيفة غير المعهودة في السابق.
على “مفرق الحبايب”
تتكاثر المراهقات الغانيات في حي الصالحية التجاري المزدحم الذي تسقط عليه قذائف في أوقات متباعدة، ويقصده أهالي الضواحي الدمشقية الطرفية للتمشي في شوارعه وفي شوارع الأحياء التجارية الأخرى المكتظة في الحمراء وجسر الأبيض والعفيف.
أما أحياء النخبة الدمشقية الميسورة في المهاجرين وأبو رمانة والمالكي، فتكاد تكون مهجورة من سكانها الذين غادروها الى لبنان وتركيا والأردن ومصر وأوروبا، فم يبقَ فيها سوى جماعة من كبار موظفي ومسؤولي الدولة والنظام وأولادهم، الى جانب مسنّين ظلوا مقيمين في بيوتهم لحمايتها، بعد رحيل أبنائهم وعائلاتهم الى خارج سوريا. العابر في هذه الأحياء شبه المهجورة الشاحبة، يشعر بحضوره الشبحي في عتمتها الليلية الكئيبة الموحشة. لكن حي المزة الذي يغلب العلويون على سكانه، وخصوصا في ناحيته المسماة المزة 86، لا يزال مزدحماً بدبيب حياته اليومية، حيث يتفاقم التشبيح ويتكاثر الشبيحة.
منطقة المهاجرين وأحياؤها على جبل قاسيون، انقسمت طائفياً بين سنّة من جهة، وعلويين وشيعة من جهة أخرى، ليفصل بينهما منعطف – مفرق زين العابدين الذي منه تصعد الشوارع الى الجبل. قرب هذا المنعطف – المفرق يقع حي زين العابدين الشيعي الصغير ومقبرته، حيث نُصب حاجز عسكري كبير لجند “حزب الله” اللبناني، ورُفِعت صورة ضخمة للسيد حسن نصرالله الى جانب صور لـ”شهداء” حزبه، فسمّى الدمشقيون المنعطف “مفرق الحبايب” أو مفرق “جماعة لبّيكِ يا زينب”، ككنايتين ساخرتين متهكمتين على الحاجز وعناصره من “حزب الله” و”اللجان الشعبية” و”جيش الدفاع الوطني” التابعين لأجهزة النظام السوري.
لـ”حزب الله” حضوره المسيطر في أحياء دمشق القديمة، كباب شرقي والعمارة، وخصوصا في باب توما والقصّاع اللذين يغلب عليهما السكانُ المسيحيون المعادون للثورة والمؤيدون للنظام، حتى قبل أن يستولي عليهم الرعب المستطير من “داعش”. في شوارع هذه الأحياء، تصدح من الحواجز المسلحة أغاني اللطميات الحسينية، وكذلك من السيارات العابرة بزمر من الشبيحة الذين يروّعون السكان.
منذ أواخر العام 2011 شاعت في دمشق أحاديث أن الحواجز الأمنية والعسكرية الأساسية في المدينة يديرها مسؤول إيراني من غرفة عمليات مقرّها في محيط “قصر المهاجرين” الجمهوري في حي الروضة أسفل قاسيون الذي يرتفع في أعاليه “قصر الشعب” الجمهوري أيضاً. منذ مدة أخذ يظهر على الحواجز مجندون، وجوههم غريبة تختلف عن ملامح السوريين الشاحبة الكئيبة في بروز علامات الراحة والارتياح عليها، ويُرجّح أنهم إيرانيون أو عراقيون ينتشر بعضهم في الشوارع والحدائق العامة. حتى أننا صرنا نرى أيضاً مسلحين زنوجاً بين الروضة والعفيف في أسفل المهاجرين. هؤلاء جميعاً، وكذلك عناصر “حزب الله” وشعاراتهم وشاراتهم، لم نكن نلمح لهم أثرا في ما سمّي قلب دمشق أو مربّعها الأمني، الذي يسيطر عليه “الفرع 40” الأمني لمكافحة الإرهاب بقيادة حافظ مخلوف، الذي كان يدير المربّع إدارة أمنية متشددة، قبل إقالتة من قيادة ذلك الفرع. وقد بلغ التشدد في أيامه ذروته، فمنع أي شخص غير دمشقي من استئجار بيت أو بيعه أو شرائه في المنطقة، من دون حصوله المسبق على موافقة أمنية من قيادة الفرع.
غابة الحواجز الأمنية
في الهواء، حتى في الهواء الدمشقي ينتشر القلق والخوف والاكتئاب، كما في كلام الناس وملامح وجوههم، وفي علاقاتهم اليومية، فتسمعهم في كل وقت ولقاء يتحدثون عن أنواع المهدئات التي يتناولونها كما يتناولون “البندول”. حشيشة الكيف منتشرة بدورها على نطاق واسع بين الدمشقيين، وخصوصاً بين عناصر الجيش والأجهزة الأمنية والميليشيات من جيش الدفاع الوطني واللجان الشعبية في نوبات حراستهم على الحواجز في الشوارع. ففي كل وقت من النهار والليل يشعل هؤلاء سجائر الحشيشة ويدخّنونها علناً في نوبات حراساتهم، فترى عيونهم محمرة زائغة تائهة، أو مشتعلة بالغضب والحنق، أو مشوبة بالقنوط والتعب. وماذا يسع الناس أن تفعل في دمشق، غير أن تصدع صاغرة ذليلة للتعايش مع أمزجة عناصر الحواجز العسكرية والأمنية المنتشرة بكثافة فلكية في شوارع المدينة كلها؟!
ينطوي سلوك الدمشقيين ومشاعرهم إزاء هذه الحواجز على مركّب معقد من العطف والشفقة والمرارات والنقمة والحقد والكراهية والرعب. بعض الناس يعطفون عليهم فيقدمون لهم الأكل والطبخ. آخرون يغدقون عليهم تحيات الود المرائي الكذوب. لكن الخوف والرعب يقيمان في الخفاء من كل أنواع سلوك الناس على الحواجز العسكرية والأمنية، وخصوصاً في الأحياء والمناطق الطرفية من دمشق على حدود جوبر ودوما وسواهما من أحياء الغوطة، حيث تكون عناصر الحواجز من المتوحشين القتلة المنتمين الى جهاز المخابرات الجوية. من يمر على هذه الحواجز تكتب له حياة ثانية، خصوصاً إذا كان مسلماً سنيّاً أو امرأة محجبة. أما السيارة التي ركابها من المسيحيين، أو من النسوة غير المحجبات، أو تظهر في السيارة زجاجة من البيرة، فإنها تعبر سريعاً مع آيات الاحترام والترحيب. تختلف الحال في أحياء المالكي ومحيط قصر المهاجرين وأبو رمانة، حيث يضعون عناصر أمنية تتصرف وتسلك في منتهى التهذيب مع العابرين.
بين وقت وآخر تنطلق حملات مطاردة واعتقالات مسعورة في الأحياء والشوارع، تستهدف الشبان الذين بلغوا سن التجنيد الاجباري. تبدأ هذه الحملات بقيام وحدات من الجيش والأجهزة الأمنية وجيش الدفاع الوطني واللجان الشعبية، بقفل الأحياء والشوارع، ونصب حواجز تفتيش كثيرة فيها، لتقوم وحدات أخرى بدهم البيوت.
حصيلة هذه الحملات عشرات وأحياناً مئات من الشبان الذين يُجرّون من شعورهم من البيوت وفي الشوارع لرميهم كالنعاج في شاحنات عسكرية، تذهب بهم الى معسكرات الاعتقال والتدريب، وهيهات أن يعلم أهلهم وذووهم شيئاً عنهم. لكن عمليات الدهم والاعتقال لا تقتصر على الحملات هذه، بل هي تعقب كل حادثة أمنية تحصل في هذا الحي أو ذاك، وحتى في خارج دمشق. فبعد اجتياح القصير، مثلاً، جرت في أحياء دمشق حملة اعتقالات لأهالي القصير الذين كانوا قد فرّوا منها في أوقات سابقة ولجأوا الى العاصمة. هكذا اعتقل على الحواجز الدمشقية كثيرون من أهالي البلدة المنكوبة التي اجتاحها “حزب الله” في ريف حمص، بعد لجوئهم الى دمشق، فصادر “رجال الله” أو حسن نصرلله أراضيها الزراعية ليستعمرها استعماراً إستيطانياً.
بين الحاجز الأمني والآخر، حاجز ثالث في الشوارع الدمشقية. حتى المرأة التي تخرج من بيتها الى مدخل البناية حيث تسكن، سرعان ما يعترضها عناصر حاجز أمني أو عسكري أو من اللجان الشعبية أو جيش الدفاع الوطني، قبل اجتيازها الرصيف، فيفتشون محفظة اليد التي تحملها. لذا يشعر سكان دمشق أنهم في دوار معمعةٍ أو جحيم. من المشاهد اليومية المتكررة في هذه الجحيم، جنود أو مسلحون يرتدون ثياباً مدنية معلقة بنادقهم على أكتافهم، يضمّون في الشوارع والحدائق العامة فتيات سافرات أو محجبات من اللواتي تلطخ وجوههن مستحضرات تجميل رخيصة. العساكر والمسلحون يقفون أمام بسطات الشوارع الكثيفة للسلع والخضر، لشراء ما يريدون ويرغبون، فيرفض بائعو البسطات أن يتقاضوا منهم أثمان ما يشترونه، حتى ولو أصرّ مسلح أو عسكري على دفع ثمن ما اشتراه. باعث البائعين على سلوكهم هذا هو الخوف أو المراءاة، في محاولة منهم لنيل رضا العسكريين وحظوتهم، علّهم يسلمون من عسفهم في أثناء حملات دهم البسطات وتحطيمها واعتقال أصحابها، وخصوصاً أولئك الذين لم يحصلوا على تراخيص مسبقة لبسطاتهم من الأجهزة الأمنية.
جيش الدفاع الوطني
تتشابه الغالبية الساحقة من سكان دمشق في الفقر والرثاثة والخوف والاكتئاب. فمن كان يحصّل في السابق نحو 50 ألف ليرة سورية، كان يعيش ميسوراً، لكن هذا المبلغ نفسه لا يكفي اليوم لمعيشة أيام أربعة أو خمسة على الأكثر. وإذا أضفنا الخوف من الاعتقال الى تفشي الفقر المدقع وانعدام فرص العمل وتزايد أعداد اللاجئين والمشردين، تلوح السرقة والسلب والنهب باباً لتحصيل القوت. لكن ولوج هذا الباب مستحيل من دون حماية لا توفرها سوى حيازة القوة والسطوة. لذا تقبل أعداد لا يستهان بها من الشبان والرجال على التطوع في جيش الدفاع الوطني، مدفوعين بالخوف من الاعتقالات وبالحصول على مرتّب ما بين 15 و20 الف ليرة سورية شهرياً، إضافة الى ما يوفره لهم هذا السلك من سطوة في حال إقدامهم على السرقة والسلب، لتحصيل موارد إضافية للعيش. داعي الخوف من الاعتقال، حمل بعضاً من الذين كانوا في عداد “الجيش السوري الحر” الى تسوية أوضاعهم لدى أجهزة الأمن لقاء انتسابهم الى جيش الدفاع الوطني.
يتكاثر عناصر هذا الجيش في أحياء دمشق الطرفية القريبة من المناطق الواسعة التي دمرها القتال حول العاصمة، فيقوم عناصره بغارات منظمة على أطراف تلك الأحياء، فينهبون أثاثات البيوت المهجورة أو المسكونة بأهلها البائسين غير القادرين على النزوح، أو بسواهم من النازحين الذين لاذوا بها لاجئين اليها من خارج دمشق، فتُحمّل المسروقات في شاحنات وتُنقل الى مخازن جيش الدفاع الوطني الذي لديه شبكاته لبيعها. السلبطة والتشليح والاعتقالات شائعة على حواجز هذا الجيش في الأحياء المتاخمة لجبهات القتال في الغوطة. عادةُ دفع إتاوات لمسؤولين أمنيين ولسواهم في الدفاع الوطني، شاعت لقاء أن تُسمح لعناصر من هذا الجيش الخدمةُ على حواجز معينة (كسوق الهال مثلاً)، لأنها توفر لعناصر الحواجز تحصيل إتاوات مرتفعة من الناس والعابرين، أو سلبهم ما يحملونه في السيارات.
يكثر أن ترى على هذه الحواجز عناصر الدفاع الوطني يطرحون شاباً أو رجلاً أرضاً، ساحقين بأحذيتهم رأسه أو رقبته، فيما آخرون منهم يفتشون جيوبه، بحثاً عن أموال، أو عن هاتفه المحمول، أو عن بطاقته الثبوتية. مثل هذا المشهد صار عادياً في كثير من الأحياء الدمشقية، حتى أصبح الخروج من المنازل في هذه الأحياء عسيراً ويبعث الشؤم.
الشعب يريد الهرب
في المقابل تتفشى فكرة الرحيل الى خارج سوريا والكلام عنها، مثل وباء هذياني بين الدمشقيين. ما إن يلقي أحدهم التحية على آخر، حتى يبادره سائلاً إياه عن الطريق أو السكة التي سيعتمدها في الهرب الى الخارج. الجميع يتبادلون الأحاديث اليومية عن أنواع سكك الهرب وسبلها المتاحة. منها الحصول على تأشيرات سفر أو هجرة من السفارات في عمان أو بيروت أو اسطنبول. وهذه يستحيل توافرها لغير المقتدرين مالياً. هناك رحلات السفر البحري الخطرة غير المشروعة التي تؤمّنها شبكات التهريب المافيوية في مصر وتركيا ولبنان وليبيا. وهذه أيضاً تحتاج مبالغ مالية لا يستهان بها غالباً ما تذهب هباء مع الهاربين الذين تفرق أعداد كبيرة منهم، فتتحول جثثهم طعاماً لأسماك البحر المتوسط. وهنالك ثالثاً سكك التهريب البري عبر تركيا وبلغاريا وسكوبيا، وصولاً الى أوروبا الوسطى والشرقية والدول الاسكندينافية. وقد تختلط هذه السكك أيضاً بمسافات من السفر البحري في مراكب بدائية يتحطم بعضها ويغرق في عرض البحر. أنواع الهرب هذه لا تقل تكلفة الواحدة منها غالباً عن 5 آلاف أورو.
هكذا شاع القول الساخر المتهكم “الشعب يريد الهروب”، نسجاً على منوال شعار الثورات العربية “الشعب يريد إسقاط النظام”.
في كل يوم تسمع أحاديث بين الدمشقيين عن عاملات وأشخاص غادروا أو هربوا أو غرقوا في البحر، الى جانب الأحاديث عن حالات الدهم والاعتقالات والاختفاء. هذا ما تسمعه في صالات الانتظار في عيادات الأطباء، وفي طوابير الانتظار أمام مباني المؤسسات لإنجاز أيٍّ من المعاملات.
هذيان الاعتقال والهجرة
دمشق اليوم معسكر اعتقال كبير يخيم في سمائه ضباب الرعب والهذيان. السنّة في هذا المعتقل يمارسون التقيّة التي يقال إن الشيعة كانوا يمارسونها من قبل. العلويون في معظمهم غارقون في تيه القوة والتسلط والتشبيح. المسيحيون يتقلبون بين وجوه متناقضة، ومثلهم الدروز. في المحصلة الجميع يعيش في حال من تدبير أموره حسب مقتضيات الأحوال والظروف، طمعاً في النجاة من الويلات ودبيبها في الحياة اليومية.
على الحواجز الأمنية والعسكرية، في أصنافها الكثيرة، شاعت عبارات نموذجية، كأن يقول العابر لعناصر هذا الحاجز أو ذاك: “مرحبا يا غالي”، “كيفك يا حبيب”، “تسلملي عينك”. وهنالك من يقرن هذه العبارات بأداء التحية شبه العسكرية لعناصر الحواجز. أما عبارة “السلام عليكم” فلا مكان لها قط في تبادل التحيات هذه، كأنها محرّمة وتثير الشبهة.
خلف ضباب الرعب والهذيان وعبارات الترحيب المعسول هذه، يعيش المجتمع الدمشقي في حال من التفكك والتخلع والاهتراء، وتتفشى فيه كراهية مكتومة للعلويين و”حزب الله” اللبناني. الخوف من الانفجارات وسقوط قذائف، لا يقاس بالخوف المرعب من دهم البيوت والاعتقالات في الشوارع. ترى شخصاً ما عابراً في شارع، فتهاجمه فجأة مجموعة مسلحة، تقلب قميصه أو سترته على رأسه فتغطيه، ثم ترميه في مؤخرة شاحنة أو سيارة عسكرية، فلا يدري هو ولا أنت ما الذي فعله ولماذا اعتقل، ولا الى أين يأخذونه. قبل أسبوع مثلاً توقفت شاحنة عسكرية في وسط شارع الثورة، فامتلأت بعد وقت قصير مؤخرتها بمعتقلين صعد اليهم رجل أمن وأخذ يسحلهم بقدميه.
يتهدد الاعتقال أكثر ما يتهدد الشبان في سن التجنيد الاجباري. الذين يُعتقلون من هؤلاء الشبان غالباً ما لا يعلم أهلهم مصيرهم أو متى يعودون وفي أي مكان يعثرون عليهم. لا يتوقع أيٌّ من الشبان لماذا وأين وكيف ومتى يمكن أن يعتقل، وهذا ما يدفعهم الى الهجرة كسبيل وحيد الى الخلاص، فقلّ عددهم في دمشق وتضاءل حضورهم، وندر حضور الطلبة في شوارعها وفي مشاهد حياتها اليومية، مقارنةً بعدد الفتيات وحضورهن الكثيف في الشوارع والأماكن العامة، الى جانب الجنود والمسلحين من عناصر الأجهزة الأمنية واللجان الشعبية وجيش الدفاع الوطني. لكن هذيان الهرب والهجرة لم يعد يقتصر على الشبان والرجال، بل أصاب أيضا الفتيات والنساء، فصارت مجموعات منهنّ تعدّ العدّة لهجرات تهريب نسائية جماعية برضا أهلهن ومباركتهم.
الأبدان والجحيم
يحوط دمشق في حالها هذه، ريفها المدمر في الغوطة. مرةً، عشية الانتخاب الرئاسي الأخير المزعوم، كنت مع أصدقاء في سيارة يقودها أحدهم في حي الزبلطاني بين القصاع ومزارع نصري، منخرطين في جدال متوتر، عندما وجدنا أننا بلغنا شارعاً ظهر في نهايته مشهد دمار هائل في طرف حي جوبر. فجأة كفَّ عن الكلام صديقٌ كنت أجادله بعصبية حانقة، وقال في هدوء: أنظر، أنظر، أنظر أسمر اللونا (اللون). التفتُّ محدّقاً الى حيث أشار الصديق، فأبصرت صورة هائلة الحجم منصوبة في نهاية الشارع لـ”لأسمر اللونا”. وهذا لقب شائع في دمشق لبشار الأسد بين كارهيه. مباشرةً خلف الصورة الزيتية العملاقة المكتوب في أسفلها “أهالي جوبر لن يبايعوا أحداً سواك”، ظهر مشهد الدمار الهائل، فأخذتني نوبة من الضحك الهستيري، أعقبتها دموع لم أدرك أدموع ضحكٍ هي أم غضب أليم.
صورة عملاقة مماثلة نُصبت عند طرف الحي المعروف بنهر عيشه المطل على حي الحجر الأسود المدمر تدميراً كاملاً. كُتب في أسفل الصورة “أهالي نهر عيشه والحجر الأسود: لو أن بعد الأبد أبداً ما اخترنا غيرك يا أسد”. حين أبصرنا مرةً هذه الصورة، وكنا أيضاً في سيارة يقودها الصديق نفسه، أخذ صديق ثالث يغني: “أبدين، أبدين”، على لحن أغنية غنّاها مطرب لبناني في دمشق قبل الثورة بسنوات، ويقول مطلعها “قمرين، قمرين/ في السما منورين”.
الملعب الأكبر لكرة القدم في سوريا، المعروف بـ”ستاد العباسيين”، لوقوعه في منطقة العباسيين الدمشقية، جعله جهاز المخابرات الجوية المقرَ الأكبر لفرعه في دمشق، وحوّل منشآته السفلى تحت المدرجات أقبية للاعتقال والتعذيب، وأحاط الملعب كله بمتاريس رملية ترتفع شاهقة من خمسة أمتار الى عشر. في المساحات ما بين المتاريس والأحياء السكنية المتاخمة للملعب، حواجز أمنية كثيرة للمخابرات الجوية. السكان الخارجون من بيوتهم والعائدون اليها في تلك الاحياء، اعتادوا آلياً على ترداد عبارات الترحيب بعناصر الحواجز: “مرحباً يا حبيب، مرحباً يا غالي”. أنا من يمر يومياً في شارع قريب من الملعب، صرت أتمنى لو يصيبني شلل مفاجئ، كلما أبصرت وسط المشهد الرمادي الكالح صورة عملاقة لبشار الأسد مكتوبة في أعلاها كلمة واحدة: “سوا”. سوا؟! لماذا والى أين غير الجحيم؟!
في أمسية تالية انقطع التيار الكهربائي في الأحياء كلها حول “ستاد العباسين”، فرحت أسمع في العتمة والسكون المفاجئين صراخ ألوف المعتقلين وأنينهم من جحيم بشار الأسد.
موتان: بجثة وبلا جثة
تفشت بين الدمشقيين كراهية عمياء، يائسة ومتطيرة، لكل ما يسمّى “الجيش الحر” و”النصرة” و”داعش”. فالأسماء هذه صارت مثل وباءٍ ينشر الرعب والدمار والقتل التي ألحقها الأسد ونظامه بالسوريين، كقصاص ثأري منهم. لكن ما تبقى من نظام الأسد لا ينزل قصاصه الثأري المروع في دمشق إلا ببقايا من تعلم أجهزته الأمنية أنهم شاركوا في التظاهرات السلمية في بدايات الثورة، ولا يزال بعضهم ينشط في مجالي الإعلام والإغاثة السلميين. هؤلاء يختفون اختفاءً لا وجود بعده ولا يعلم أحدٌ عنه شيئاً، في حال اعتقال أيٍّ منهم. أما من تعلم أجهزة النظام بأنه شارك في القتال العسكري وعمليات الخطف والقتل في أيٍّ من الفصائل والكتائب، فالباب مفتوح لتوبته وتسوية أوضاعه لقاء انتسابه الى جيش الدفاع الوطني، كي يتابع علمه وخبره الى جانب ما تبقى من النظام في دمشق.
شاب من المتطوعين في “الجيش الحر” في مخيم اليرموك، عاش نحو 7 أشهر في الحصار والجوع داخل المخيم. في أربعة منها لم يذق سوى طعم البرغل والعدس، وفي ثلاثة تلتها لم يتناول غير البهار المذاب في الماء. أخيراً خرج هذا الشاب مع أهله من المخيم، ملتصقة جلودهم بعظامهم، وتتفشى بقع سوداء في جلود النساء. في دمشق أمضت العائلة مدة من التشرد في حدائق عامة، قبل تمكنها من الإقامة في غرفة صغيرة استأجرتها بما تمكنت الأم من تحصيله من العمل خادمة في بيوت دمشقية. ثم لم يلبث الشاب أن سوّى أوضاعه في أحد المقار الأمنية وتطوع في جيش الدفاع الوطني. حين سألت أمه: كيف تدعينه يتطوع ويسلم نفسه للموت؟!، أجابت بأن تطوّع ابنها أهون عليه وعليها من اعتقاله الذي ينتهي بموته المحتم من دون أن تراه، وتختفي جثته. ففي الدفاع الوطني قد يموت، لكن أمه – بحسبها- تعلم بموته وتتسلم جثته.
الرعب من “داعش”
كانت الدخانية قرية صغيرة، فتحولت حياً من ضواحي دمشق وتربطها بجرمانا من جهة الجنوب الشرقي. مجموعة مسلحة من “الجيش الحر” و”الجبهة الإسلامية” في الحجر الأسود ومخيم اليرموك، قامت بعملية تسلل الى الدخانية، عبر أنفاق الصرف الصحي. حين خرج المتسللون من الأنفاق وسط الدخانية، دب الذعر والرعب بين سكانها، وأخذوا يصرخون في شوارعها وبيوتها هلعين: “داعش، داعش”. عناصر الدفاع الوطني المنتشرون على الحواجز فرّوا هاربين، فلم يبق منهم أحدٌ في الدخانية التي خلت بعد ساعات قليلة من سكانها، فيما أسر المسلحون المتسللون عدداً قليلاً منهم، واقتادوهم في أنفاق الصرف الصحي الى دوما. في الأثناء قصفت مروحيات النظام الدخانية بالبراميل المتفجرة. في دوما سلّم عناصر “الجيش الحر” المخطوفين الى عصابة من السلاّبين النهّابين، فسلبتهم العصابة هواتفهم المحمولة وما في حوزتهم من مال قليل، قبل إطلاقهم.
ثلاثة من المتسللين في أنفاق الصرف الصحي من الحجر الأسود واليرموك، كانوا قد أضاعوا رفاقهم وسط الأنفاق المتشعبة، فلم يعلموا، إلا بعد خروجهم منها عقب يوم من حادثة الدخانية، أنهم في وسط جرمانا المسكونة بالدروز، فأخذتهم المفاجأة، وحملتهم على إطلاق النار عشوائياً من بنادقهم الرشاشة. دب الذعر في الأهالي الذين أخذوا يصرخون: “وصلت داعش، وصلت داعش”. مزيج الرعب والفوضى العارمة، حمل سكان جرمانا على الهرب في السيارات وركضاً الى خارجها، حيث منعتهم حواجز جيش الدفاع الوطني على أطرافها من متابعة هربهم. لكن تدفقهم الفوضوي حال دون تمكن الدفاع الوطني من السيطرة على الجموع المذعورة الهاربة وسط سريان الشائعات بأن عناصر “داعش” خرجت بالمئات من الأنفاق، وذبحت عدداً من الأشخاص في الشوارع. بعد نحو ساعتين خلت جرمانا تقريباً من سكانها، حتى من المسلحين الذين أغتنم الشبيحة منهم فرصتهم لسرقة البيوت الخالية المهجورة ونهبها. أما المتسللون الثلاثة فكانوا قد اغتنموا بدورهم فرصة عودتهم سالمين الى الأنفاق، وعبرها الى الحجر الأسود.